القضية الكردية بين العقل التحليلي وجنون العاطفة

29

محمد سليم

        

في كل الأحوال من يوجه طلقة مسدس الى ماضيه فهو يوجه طلقة مدفع الى حاضره ومستقبله, فالقضية الكردية قضية شعب دعائمه الجماجم والدم لو تحطم الدنيا.. لا يتحطم. وهذه حقيقة موثَّقة بالأدلة والثبوتيّات في المراحل التاريخية. لقد غنى الشعب الكردي كثيراً وكتب عن آلامه بين الحرائق والغزوات والحروب وهرب إلى قمم الجبال خوفاً من الجيوش وجباة الضرائب وسهام الفاتحين وهذه المناخات لم تكن ملائمة لانتعاش حركة التدوين والتعليم والأدب المكتوب بل كانت وراء تشتت الكرد التاريخي وتأخر وتبلور الوعي القومي لديهم. هذا الوعي الذي يعاني من الانفصال عن ضروراتها الاقتصادية ومركزية السوق وتبعيتها للشرعية الاجتماعية تلك الشرعية الظالمة بالتعاون مع الأرستقراطية الكردية التي دونت بلغتهم المعاصر في صفحات التاريخ القضية الكرديّة وبعدها عن الحقيقة. وحتى لا نصيب بجنون العاطفة ونكتب ما نود كتابته في هذا المجال؛ فيمكن القول إنّ الوحدة التاريخيّة الحضاريّة للشعب الكردي كان في الألف الثاني قبل الميلاد في ظل الدولة الميدية. لكنها واجهت بالحديد والنار واندثرت آدابها واختفت تحت الانقاض ملتصقة بالرقم وألواح الحجر رغم تأكيد العلماء على غنى محتواها.

وهذا ما أدى الى فصل جديد وفتح أبواب جديدة. فحكم الاسكندر المقدوني والروم البيزنطي والفرس الساساني حتى الفتوحات العربية الإسلامية. في ظل هذه المرحلة ترسخت المعارف الإسلامية كثقافة ثم كأيديولوجية للإقطاعيات الكردية وأصبحت حالة استقرار على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وبقيت عدة قرون لكن المدارس الدينية والمساجد لم تكن كافية لاستيعاب الحركة الثقافية وعلى إبراز خصوصية هذا الشعب. فنهبت واتلفت العديد من الدواوين والمخطوطات بالمعارك المحلية المفتعلة بين الامارات الكردية والإمبراطوريات الاستبدادية في كل من ايران وتركيا . واستمرت المواجهات – رغم التقسيم الجغرافي بعد انهيار الإمبراطوريتين- بين مناطق النفوذ الاستعماري وبقيت منطقة هكاريا  هذه الولايات الخصبة لكردستان والتي تقع جغرافياً في المثلث الحدودي بين تركيا والعراق وإيران وحتى حدود نهر دجلة وأقصى شمال شرقي سوريا. فحافظت على استقلالها النسبي الثقافي والتي كانت أقل عرضة لهجمات الحكومات المركزية وسيطرتها.. وهذا أدى إلى تدفق الدم في عروق الشعب الكردي وأهتمت بقضاياها المبدئيّة كحقها المشروع . وخاصة بعد انتصار الثورة الروسية على النازية الألمانية من جهة وظهور الحركات التحررية العالمية من جهة أخرى ومن بينها حركة التحرر الكردي التي تشكلت منذ أوائل القرن الماضي والتي رافقتها عدد من الثورات والانتفاضات في تركيا والعراق وايران ثم أخمدت بدموع العاطفة والمفاهيم التقليدية لقيام الثورة وهنا لا بد أن نشير إلى دور الأدباء والكتاب والشعراء الذين لم يكفوا يوماً عن العطاء لانتشار الوعي القومي وتغلغلها في وجدان الإنسان الكردي للحفاظ على هويته وثقافته بالإضافة الى الدور البارز للأحزاب الشيوعية والقوى اليسارية وحركات التحرر الوطني التي وضحت في أدبيّاتها حق الأمم في تقرير المصير للشعوب وفضحت النظام الرأسمالي الفاسد بكل تجلياته وإنه لم ولن يقدم للشعوب يوماً إلا الخراب والدمار واستمر حتى النصف الثاني من القرن الماضي. ثم انتقل مسار الحركة الكردية الى النهوض من جديد فتشكلت الكتل والأحزاب السياسية وحملت معها صبغة سياسية مشتركة بين العلاقات الاجتماعيّة القديمة ذات الطابع الضيق والتفكير السياسي المعاصر  للقضية الكردية تحت شعار سمة العصر الجديد واستمرت حتى الثمانينات من القرن الماضي. وبدايات انهيار المنظومة الاشتراكية وبروز القطب الواحد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتي كشفت عن أنيابها للشعوب فكان الحرب على العراق وافغانستان خير دليل مما أدى نهوض فكر وثقافة المقاومة من نوع جديد وبرؤية جديدة لأن القطب الواحد لا يمكن أن يوجد لا في الطبيعة ولا في المجتمع ففي الطبيعة لا بد من القطب السالب وفي المجتمع هو قطب الشعوب التي لا تغيب عنها ضوء الشمس فتشكلت خلايا كردية باسم حزب العمال الكردستاني في تركيا ورسمت كفلسفة مشبعة بالعلم والمعرفة اعتماداً على التحليل العلمي ضمن مسار العقل التحليلي وحدد مسار الخط السياسيّ كنظرية لهذا الشعب من خلال الدراسة العميقة لتجارب الشّعوب وكان للقائد الكردي عبد الله أوجلان دور بارز في قيادة هذه الحركة الثورية وفي التوجيه ورسم السياسة والإبداع لهذه الفلسفة وإسقاطها على الواقع الكردستاني وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الشعب الكردي تندمج النظريّة الثورية مع العملية الثورية في النضال من أجل الحقوق المشروعة لهذا الشعب.

 

 

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 31 بتاريخ 2015/11/15

التعليقات مغلقة.