الأحجار تهجُر وديانها!
ظاهرة الهجرة الكردية
في رواية – اللاز- للكاتب الجزائري الطاهر وطار والتي كتبها عن فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، يظل اللاز بطل الرواية – وهي شخصية غير سوية- يردد العبارة ” لن يبقى في الوادي إلا أحجاره”، فالأحجار كانت دلالة على الشّعب الجزائري؛ والوادي يدل على الجزائر، والرسالة موجهة إلى الاستعمار الفرنسي، بأنّك مهما فعلت فسوف ترحل، ولن يبقى في الجزائر إلا شعبها.
ولكن ما يحدث اليوم في غرب كردستان نرى أن الشّعب الكردي يهجر أرضه التاريخية لسببين رئيسيين في رأينا هما:
السبب الأول: النهج العنصري الذي مورس بحقه من قبل الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد لعقود من الزمن.
تمخضت عن المشاريع العنصرية التي طبقتها الأنظمة المتعاقبة على الدولة السورية منذ الاستقلال في 17-4-1946م وحتى يومنا هذا بحق الشّعب الكردي في سوريا هجرة قسرية إلى الداخل السوري طلبا للقمة العيش، فتجمعوا في عشوائيات مثل زورآفا (وادي المشاريع- دمر)، ومناطق أخرى عديدة في ريف دمشق، وحلب، والرقة، وشرائهم بعد سنين من الضياع بيوت صغيرة غير مُرخَّصة تشبه أقنان الدجاج، ومهددة من البلديات بإزالتها، وتشغيلهم في أعمال مجهدة برواتب زهيدة، في المداجن، عمال غير مهنيين في المطاعم والفنادق والمزارع الخاصة؛ عجز ربُّ الأسرة عن تحقيق الكرامة المالية؛ فحرم الأطفال من الدراسة، ومن الطفولة، واضطروا إلى العمل في بيع الدخان، تلميع الأحذية، … ، كما اضطرت النساء أيضاً إلى العمل في أعمال روتينية، تكونت منهم طبقة مسحوقة في المدن الكبرى من الخدم.
قلة من الشباب الكردي في النصف الأخير من القرن الماضي استطاعت الوصول إلى أوروبا، وأصبحت تبث أخبارها الجميلة، مما أصبحت حلما بالنسبة للذين لم يستطيعوا إليها سبيلا، وعشش الحلم في عقلهم الباطن، وظل يبحث عن فرصته بأي ثمن لترى النور.
وجاءت الثورة السلمية السورية في 15 آذار 2011 لتسطر بداية لعهد جديد، وعند تحولها إلى نزاع مسلح مدمر للشعب والوطن بعد بضعة شهور، بدأ سيل الدماء يجري، وآلة الدمار تعمل ليل نهار، والحصار والتهجير والتجويع! ولايزال.
فَقد معظم المهجرين مصدر رزقهم؛ فاضطروا إلى العودة لقراهم، ولكن أهاليهم كانوا يعيشون تحت خط الفقر، وعلى المساعدات التي كانت تقدمهالهم أبنائهم المهجرين، فاستقبلت أغلب الأسر ثلاث أو أربع أسر، مما اضطروا إلى الهجرة الثانية بعد أيام من نزوحها نحو إقليم كردستان العراق، فكان الإقليم طوق نجاة لهم، ورحمة لذويهم، فتحسن وضعهم المعيشي ووضع ذويهم، إنه كان العهد الذهبي لأكراد الجزيرة.
لكن احتلال داعش لمحافظة الموصل، وشنكال، ودخولها في حرب مع إقليم كردستان، أدت إلى توقف كبرى الشركات العاملة فيها، ونزوح أهالي موصل وشنكال إلى كردستان واضطرارهم للعمل بأي ثمن افقدت الكثير من المهاجرين السوريين أعمالهم، مما اضطروا إلى الهجرة نحو أوروبا.
السبب الثاني: فقدان الأمل لدى الشعب الكردي بمستقبل زاهر له في سوريا.
ويعود ذلك إلى:
أولاً: دور أحزاب المجلس الوطني الكردي.
عند تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا عام 1957، كان شعاره ” تحرير وتوحيد كوردستان” نتيجة بروز الوعي القومي لدى الشعب الكردي، لما حملت تلك الفترة والتي سبقتها من تحرر الشعوب من نير الاستعمار، والتوجه الشوفيني لشركائه في الوطن المصطنع.
ونتيجة تأثير الثورة الكردية في العراق على الحزب الديمقراطي الكوردستاني في سوريا، والضغط الذي تعرض له قيادة الحزب أثناء الوحدة السورية- المصرية وما بعدها، من اعتقالٍ (اعتقال 80 عضوا 1960) ونفي، وفصل من العمل … دفع به إلى الانقسام سنة 1965 تحت مسمى اليمين واليسار، واعتبروه فرز طبقي طبيعي، لكنه جاء في غير أوانه، حيث خرجت الحركة من مسارها القومي التحرري الصحيح، ودخلت متاهة الصراع الطبقي.
أسدل مفهوم الوطن السوري الستار على الوطن القومي كردستان، وذُوِبت القضية الكردية في مجمل الوضع السوري العام.
باتت الحركة تدور في فلك ما يُرْسَم لها، حيث وجه النضال الكردي نحو محاربة الامبريالية والصهيونية والرجعية، وتحرير فلسطين ولواء اسكندرون و ..الخ! ناسين أنّ لهم وطنا قومياً مغتصباً.
ورغم مرور سنوات على الأزمة السورية الحالية، لم تسعَ الحركة الكردية التقليدية إلى تعديل برامجها السياسية، ووضع خطة استراتيجية تلائم المرحلة الحالية والظروف المستجدة، والعمل وفقها! مما افقدت الجماهير الأمل بمستقبل لها في سوريا، فدفع به لاقتحام البحار، وركوب أمواج الموت، للوصول إلى بر الأمان، أوروبا! الحلم القديم.
ثانياً: دور أحزاب حركة المجتمع اديمقراطي (Tev-Dem).
على خلاف الأحزاب الكردية التقليدية، بدأ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بالعمل ليل نهار واستحوذ على معظم الموارد والمساعدات غير الحكومية التي تدخل كردستان سوريا، وخص به أنصاره، ودشن مؤسسات عديدة كالبلديات الآساييش، محكمة الشعب، نقابات مهنية… ثم إعلان الإدارة الذاتية الديمقراطية بداية عام 2014 مع باقي مكونات الشعب في الجزيرة، كوباني، عفرين، خلقت فرص عمل كثيرة أثرت ايجاباً على بقاء قسم كبير من أنصاره في الوطن.
رغم أن المؤسسات التي شيّدتها الإدارة الذاتية تحاكي مؤسسات دولة، باهرة، تسر الناظرين إليها! لكن الشعب يعتقد أنها هياكل وهمية، مشيدة من صخور ملحية، زخة مطر كفيلة لإذابتها وجعلها أثراَ بعد عين، لعدم تمكنها من انتزاع اعتراف دستوري بوجود الشعب الكردي في سوريا، وتغلغل الكثير من الفاسدين في مفاصلها، وعدم الاعتماد على الكفاءات رغم توفرها لديهم.
تعطل معظم الجامعات وفرض التجنيد الاجباري على الشباب، ومنع تعلُّم اللغة العربية، والإنكليزية إلى جانب اللغة الكردية في المدارس الابتدائية لأطفال الأكراد حصراً، خلق انطباع عند الأهالي بأن الإدارة تسعى إلى حرمان أطفالهم من التعليم، وتهريب معظم المستفيدين من الإدارة أبنائها إلى أوروبا، دفعت بالناس إلى الهجرة.
الهجرة الكردية باتت ظاهرة جماعية، لا يمكن معالجتها ببيان استنكار، أو اعتصام أمام مكاتب غير مُفعَّلة، أو إطلاق يد اللصوص لنهب الممتلكات؛ بل معالجتها تقتضي من الحركة الكردية بقطبيها العمل معاً لتوفير فرص عمل تحقق الكرامة المالية، ووضع برامج جادة تتلاءم مع طموحات الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 29 بتاريخ 2015/10/15
التعليقات مغلقة.