الثقافة والسياسة وتجليات العلاقة – سلمان ابراهيم الخليل

29

“المشكلة تظهر حين تفضَل المصلحة على القيم أو تتعارض معها، والمثقف الذي يكون قريبا من عالم القيم لا يعني أن يكون بعيدا عن عالم المصلحة, والسياسي الذي يكون قريبا من عالم المصلحة, لا يعني أن يكون بعيدا عن عالم القيم”.

سلمان خليل
الكاتب سلمان خليل

لا يمكن الحديث عن الثقافة دون الوقوف عند علاقتها بالسياسة، رغم إنه ليس هناك نظرية فكرية، تكون مرجعا في هذا الأمر، وكل ما كتب في هذا المجال، ما هو إلا مجرد أفكار عمومية ورؤى لم تصل، إلى وضع نظرية توضح ماهية العلاقة بين الثقافة والسياسة، والاشكالية بين هذين المفهومين. هذه العلاقة والاشكالية التي بدأت عندما اقتحمت السياسة مجال الثقافة، يقول لويس دوللو بهذا الخصوص “أن امتداد السياسة الى الحياة الثقافية هو الذي ظهر في بداية الأمروقد أدى ذلك الى تدخل السلطات العامة في القضايا التي لم يكن لها سلطات حتى ذلك الحين “.

ولفهم هذه الاشكالية نحن بحاجة إلى التوغل في مكوناتها وأبعاد العلاقة بين الثقافة والسياسة وتجليات هذه العلاقة وصور تحولاتها التي سنذكر بعضها فيما يلي:

أولا- العلاقة بين المعرفة والواقع : تتجلى العلاقة هنا إن الثقافة تعبر عن الجانب الذي يتصل بالمعرفة، في حين إن السياسة تتصل بالواقع، فالثقافة تعبر عن عالم النظرية، أو عالم المعرفة، بينما السياسة تعبر عن عالم الواقع الخارجي الموضوعي، ومن الواضح إن المعرفة ليست الواقع، والعكس صحيح، فالمعرفة لها وجود وحيز مختلف عن وجود الواقع، بمعنى إن المعرفة ليست كاشفة دوما عن الواقع، أو صورة الواقع، كما إن الواقع ليست على صورة المعرفة، مع ذلك فالمعرفة بحاجة إلى الواقع، والواقع بحاجة إلى المعرفة، فالثقافة بما هي معرفة بحاجة إلى الواقع لكي تخرج من عالم المثل وتقترب من الواقعية، والواقع بحاجة إلى المعرفة لكي يتعرف معالم الطريق، إذا كلا هما السياسة والثقافة بحاجة إلى بعضهما البعض، وكلاهما لن يقوما بدورهما ويكون في حالة من النقص عندما يبتعدان عن بعضهما البعض، لذلك لابدّ من التغلب على هذا النقص بالتواصل والتفاعل بينهما.

ثانيا- العلاقة بين النظرية (الفكر)والعمل: في هذه العلاقة تتوضح الثقافة في كونها الجانب الذي يتصل بالفكرأو النظرية، بينما السياسة تتجلى في الجانب الذي يتصل بالعمل، فالثقافة ترجع في اشتقاقاتها اللغوية والمعجمية، إلى معاني الفهم والحذق والفطنة والذكاء، وجميع هذه المعاني تتصل بالفكر والنظرية، بينما السياسة ترجع في اشتقاقاتها اللغوية والمعجمية إلى معاني الادارة والزعامة والقيادة، وهي جوانب تتصل بالعمل، ومنذ العصور القديمة والفكر الانساني يتعامل بثنائية النظر والعمل، فالنظر يمثل قيمة والعمل يمثل قيمة، فالنظر مطلوب والعمل مطلوب أيضا والاقتراب بينهما مطلوب أيضا، فالنظرية لا قيمة لها إن لم تتحول إلى عمل، والعمل دون النظرية يكون فاقدا للبصيرة ومصيره الضياع والفشل، وتقول الحكمة “من عمل من غير علم كان يفسد أكثر ما يصلح”.

ثالثا – العلاقة بين المعرفة والقوة: تظهر الثقافة في هذه العلاقة في صورة التعبير عن المعرفة وتظهر السياسة في صورة التعبير عن القوة، والعلاقة بين القوة والمعرفة هي علاقة جدلية، لأن انفلات القوة من رباط المعرفة تحولها إلى مصر بطش وتدمير وهمجية، والمعرفة دون قوة تصبح مجرد مقولات لا تقدم ولا تؤخر، لذلك فالمعرفة بحاجة إلى القوة لحمايتها وتطبيقها، والقوة بحاجة إلى المعرفة لتهذيبها وضبطها وتوجيهها وتحويلها إلى طاقة تساعد في حماية النظام العام.

رابعا- العلاقة بين القيم والمصلحة: على الدوام تكون الثقافة مقرونة بالقيم، بينما السياسة تكون مقرونة بالمصلحة، فالثقافة وثيقة الصلة بالقيم والأخلاق، في حين إن السياسة تصور دائما على إنها فن ادارة المصالح، وتتخذ من المصلحة منظورا لها، هذا التقسيم بين القيم والمصلحة، لا يعني بأي حال إن القيم لا تحقق مصلحة أو إنها تتعارض مع المصلحة، أو إن المصلحة لا تحقق قيما، المشكلة تظهر حين تفضل المصلحة على القيم أو تتعارض معها، والمثقف الذي يكون قريبا من عالم القيم لا يعني أن يكون بعيدا عن عالم المصلحة والسياسي الذي يكون قريبا من عالم المصلحة لا يعني أن يكون بعيدا عن عالم القيم.

خامسا – العلاقة بين المطلق والنسبي: الثقافة تتجلى في صورة المطلق، والسياسة تتجلى في صورة النسبي، ليس للمطلق صورة فعلية سوى في الذهن، والنسبي صورته الفعلية في الواقع، كما إن المطلق بحاجة الى النسبي ليكون له دورا فاعلا ومؤثرا في الواقع الخارجي، من خلال الاتصال بالمكان والزمان، والنسبي بحاجة الى المطلق، لكي لا يتماهي كليا مع الواقع ويتلاشى ويتحول الى انتهازية ونفاق، المطلق هو أقرب عالم الثوابت، والنسبي هو أقرب الى عالم النغيرات، الثوابت بحاجة الى المتغيرات لكيلا تصاب بالجمود والسكون، والمغيرات بحاجة الى الثوابت لكيلا تصاب بالفوضى والاضطراب. يمكن القول بأن ما ذكرناه هي أبرز التجليات التي تظهر عليها صورة العلاقة بين الثقافة والسياسة التي يمكن استخلاص الحقائق التالية من هذه العلاقة، إن الثقافة كما السياسة هما قيمتان ضروريتان، إن الثقافة لها مجالها التي تنفرد به وكذلك السياسة لها مجالها التي تنفرد به، الثقافة بحاجة الى السياسة كما إن السياسة بحاجة إلى الثقافة في بعض الأبعاد، من حيث المبدأ تكون الثقافة لها أفضلية وأسبقية على السياسة.

نشر المقال في العدد 27 من صحيفة Buyerpress

 

273 مصغر

التعليقات مغلقة.