سيرة معتوهة للموت آلان قرباناً للإنسانية

46

حسن اسماعيل اسماعيل

حسن
ريحانا حبيبتي … رفيقة دربي الشاق كالجلجلة …سأعود اليوم باكراً لن أنتظر حتى تودع الشمس حي الأكراد ( ركن الدين ) سأودع الجميع و أعتذر منهم … سأهمس لهم عن سعادتي لأنني سأستقبل طفلي الجديد و هو يعانق الحياة.
ريحانا حبيبتي ها هو صغيرنا الجميل يصرخ و يملئ المكان ضجيجاً و سعادة … حبيبتي سأسميه آلان … نعم هو آلان أجمل طفل بالوجود..
يا الله آلانو صغيري كم تشبه أخاك الرائع غالب … لك نفس عينيه و نورهما
ريحانا أميرتي الكوبانية كم أنا سعيد اليوم وأنا أحمل الملاك الرقيق آلانو … يا الله حبيبك عبدالله اليوم أسعد كورديٍ في الوجود و قد منحته السماء أجمل ملاكين … غالب و آلان و هما يرفرفان في حديقة حبنا النقي …
في الطريق الممتدة بين ساحة شمدين و جسر نحاس و باتجاه سوق ركن الدين القديم كان آلان يمتطي أكتافي و هو يصرخ أسرع أبي قبل أن يغلق السوق و غالب يهرول بجانبي سعيداً بمستوى طفولته البريئة
… لا أعلم كيف لهذه الحرب المجنونة أن تقتل السعادة و الأمل دون أي رحمة … لم يكن أمامي سوى أن أعود مع عائلتي إلى مدينتي الحبيبة كوباني المزدانة بأشجار الزيتون و الرمان وأن أمنح أطفالي الصغار الأمن و السلام على أرض أجدادهم
مع القوافل النازحة خرجت مع عائلتي إلى ديار بني عثمان بعد أن أقتحم عتاة داعش مدينة النور و استباحوا دماءنا … كانوا يحملون السيوف و الموت و كنا نتسلح بأغصان الزيتون و كنا نرتوي من زيت الزيتون المقدس و كانوا يرتوون من الدم الأحمر القاني … لابد أن أفترش و عائلتي العراء و أن أعاني ويلات النزوح و التشرد لكني لم أنسى أن احتضن طفلي بحرارة و أن أمنح حبيبتي ريحانا كل الحب
كلما اتصلت شقيقتي من خلف المحيط حيث تقيم في كندة الخضراء لتمنحني المزيد من الأمل كنت أقرأ اليأس في نبرة صوتها … أخي الحبيب سأعود لمراجعة دائرة الهجرة لابد لهم أن يوافقوا على طلبك باللجوء … أرجوك أخي اصبر و تمسك بالأمل
لا تحزني أختي الحبيبة لا أملك سوى الصبر
كان العمل بالبناء شاقاً ومرهقاً و المقاولون الأتراك يعاملوننا بروح شايلوك اليهودي … لا أعلم لما يكون للعامل التركي ضعف أجري رغم أنني أبذل من الجهد و العمل ضعف عمله لكن لا بأس لابد أن أعمل لتعيش عائلتي بسلام و كرامة
ريحانا حبيبتي لابد لنا أن نهاجر … هذه الحياة لم تعد تتسع لأحلامنا و لمستقبل طفلينا الجميلين … لابد أن نخاطر لنمنحهم السعادة و السلام و سأتصل بأخوتي لابد لهم من مساعدتي … لن استسلم
في مدينة أزمير البحرية كان الفرح يغطي ملامح الطفلين آلان الصغير ذو العامين و غالب بأعوامه الأربع … هم على موعد مع حياة جديدة لا حرب و لا موت فيها
أمام شاطئ بودرم المتوحش كان المهرب التركي سعيداً و هو يتناول من يد السمسار السوري آلاف الدولارات و السمسار الحاذق لا يتوقف عن تهنئتنا بالرحلة السعيدة و الحياة القادمة و كلما بادره أحدنا بأن القارب صغير لا يتسع لأثني عشر راكباً يقهقه و هو يقول لا تخافوا ها هي جزيرة كويس اليونانية دقائق و تصلون
مع نسمات الفجر الباردة احتضنت آلان بحرارة بينما ارتمى غالب في حضن أمه ريحانا و نحن نفترش أرضية قارب الصيد الصغير مع مجموعة صغيرة من المهاجرين و كنا نسمع صوت أمواج البحر و هي تثور و الصياد التركي بجسمه الرياضي واقفٌ في منتصف القارب و هو ينفخ في يديه و يتأمل الموج و الجزيرة من بعيد
فجأةً تحولت أمواج البحر الهائجة إلى قطيع من الذئاب المفترسة و أصبحت تهاجم قاربنا بضراوة لا قدرة للقارب على التصدي لها
تحول الصياد في لمح البصر وكأنه سمكة و أخذ يخترق البحر باتجاه اليابسة دون أي اهتمام لما قد يصيبنا و نحن نصرخ و نستنجد دون أي نتيجة حتى أنقلب القارب و تشبثنا جميعا بأطرافه و أنا أشد الطفلين إلي و أصرخ يا رب أنقذنا
كانت الأمواج تهاجمنا بضراوة و ريحانا تصرخ بي … عبدالله أرجوك تشبث بالطفلين لا تتركهما
ريحانا حبيبتي اصمدي لا تخافي لن اتركهما مهما حدث أرجوك تمسكي بالقارب
غالب صغيري … حبيبي ما بك … لما جسدك الطري بارد … لما لا اسمع صراخك و لا تتحرك أناملك الصغيرة أرجوك ملاكي الصغير لا تمت أرجوك أنتظر فوالدك المجنون سيأخذك إلى أجمل بلاد و سيشتري كل الألعاب … غالب صغيري لا تمت أرجوك
يا رب لا يمكنني التحمل سأترك طفلي أمانة بين يديك فجسده الجميل أقدس من أن تحمله أيادي البشر أرجوك أمنحني القوة لأنقذ صغيري آلان لا أريد أن أخسرهما أرجوك ربي
آلان صغيري المدلل … نور حياتي أرجوك أبقى حياً لا تتركني يا صغيري تمسك بجسدي بني أرجوك لما جسدك بارد يا صغيري لما … أرجوك أصرخ لما شفاهك الرقيقة زرقاء شاحبة كالرحيل … أرجوك صغيري لما اختنق صراخك … آلان صغيري لا تمت أرجوك
يا رب ما بك لا تسمع صراخي لا ترأف بحالي … هل أنت أصم … أرجوك أرحمني
عندما لامست يدي وجه ريحانا كانت شاحبة كالمغيب و كانت رسل الموت تحوم فوقها كانت ملامحها تناديني … عبدالله حبيبي لا تخاف سأرافق طفلي إلى حياة أجمل و أبهى من كل المدن الموجودة في هذه الدنيا … لن أنتظر سيوف داعش و براميل بشار و لصوص المعارضة و رحمة أوربا … سنغادر إلى الخلود
بعدما وصلت قوارب النجاة كانت جثتا غالب و ريحانا تجثوان بجانبي بسكينة و خشوع لم أعهده بحياتي و كانت عيناي المرهقتان تترصدان زبد البحر عسى أن أظفر بجسد صغيري الجميل آلان الذي كان ينتظرنا بشغف على شاطئ بودرم المتوحش و كأني أسمع صراخه … أبي لا تتركنا أرجوك أبي أرحل معنا
ها أنا في الطريق إلى مدينة النور كوباني … عبدالله الكوردي يعود إلى مدينته المجروحة و هو يحمل معه حبيبته ريحانا و وردتا حياته غالب و آلان جثث هامدة في صناديق من الخشب ليدفنهم في المدينة الأسطورة كوباني حيث يرقد المئات من الشهداء الكورد من الأطفال و النساء و الشيوخ و الشباب …عبدالله الكوردي لن يحتاج للهجرة بعد اليوم و لن يغادر مدينة الشمس لأنه سيفسح له مكاناً بين ريحانا و طفليه غالب و آلان و سينتظر بشغف اليوم الذي يرقد فيه بهذه الحفرة لتتعانق روحه المنكوبة مع أرواح عائلته الراحلين قرابين للإنسانية
و للموت بقية … من وحي الحقيقة عندما لا يجد السوري طريقاً للخلاص سوى الموت

التعليقات مغلقة.