وحشة: في السينما
زاوية يكتبها: طه خليل
نذهب الى السينما بناء على رغبتنا, الا اذا كان الفيلم المعروض ” مصيري ويتحدث عن التحديات التي تواجهها الأمة العربية ” في صراعها الطويل والساحق مع الامبريالية والصهيونية فهم يدفعوننا دفعا ويحشروننا حشرا لنتبرع لمقاومة ما ( أية مقاومة كانت على أرض العروبة من عربستان حتى لواء اسكندرون ) ويأخذوننا إلى السينما من المدارس لاسيما أيام العطل, فمن العبث أن يقضي الطفل يوما وهو عاطل عن التفكير بمصير الأمة.
كنا نجلس فوق بعضنا على الأرض, وأن توفر مقعد فيجلس عليه أو فيه خمسة من التلاميذ, فيدور الفيلم وتدور ألسنة التلاميذ بالصفير والزعيق ساعة أو اكثر نقضيها بين ضجيج الفيلم وزعيق التلاميذ وشتائم المعلمين الذين كانوا يطلبون منا السكوت, لكن من سيسكت والظلام سيد المناخ والترس الذي نعلن من خلفه تبرمنا وتأففنا من تضييع يوم العطلة علينا, حتى اضطر القائمون على شؤون الأمة وحاملوا لواء تحريرها إن نشاهد الفيلم والصالة مضاءة مشعشعة كحلّ أخير لاكتشاف عملاء الامبريالية من الأطفال الذين يبدو على وجوههم التبرم وعدم التصفيق للبطل العربي والفدائي الذي يدمر الدبابة بيديه العاريتين, حتى كبرنا قليلا وسمعنا من الناس أنه في العام 1962قرر هؤلاء الساهرون على شؤون الأمة عرض فيلم مصري في بلدة عامودا ( في أقصى الشمال الشرقي من سوريا ) وكان الجمهور كالعادة من تلاميذ المدارس في المرحلة الابتدائية، كان عليهم أن يحضروا الفيلم، ليذهب ريعه الى الثورة الجزائرية ، وعندما لم تتحمل أشرطة الأجهزة البالية تكرار التشغيل وحماسة الثوار انفجرت الأجهزة وتمزقت الأشرطة واحترقت الدار التي كانت تسمى: سينما.. مئات من أطفال عامودا قضوا في حريق السينما وبدأ التاريخ من هناك وصارت الحوادث إلى يومنا هذا تذكر مقرونة بـ ” قبل حريق السينما” أو ” بعد الحريق”, وهكذا فقدت تلك البلدة المجنونة جيلا كاملا من أبنائها قرابين لأبناء هواري بومدين والذي أعاد اليهم المعروف عندما شارك وهندس لوأد ثورة كان قد أشعلها آباء هؤلاء الضحايا لنيل حريتهم، وبالطبع ثمة همس لم يخفت بعد: كان الحريق مدروسا عقابا لجيل من الكرد.
هكذا علقت السينما بذهني, السينما تعني الحريق, وتعني أمجاد الأمة العربية, وتعني أطفالا يساقون كالخراف لحضور الأفلام, وعندما كبرنا قليلا اكتشفنا زاوية أخرى من ذلك العالم, وأسرنا فريد شوقي بعضلاته وعادل أدهم بدسائسه والمليجي بخبثه, ما كنا نحب العشاق من الممثليين والرومانسيين منهم, فنحن أطفال قساة، الجيل الذي يلي جيل الحريق، وربانا ذوونا على الرجولة قبل أن نشب عن الطوق, فصرنا لا نحب إلا القساة والمجرمين ولا نعرف إلا حَبْك الدسائس والمؤامرات, في المدارس كنا نلصق صور عادل أدهم وتوفيق الدقن على كراريسنا ودفاترنا وكنا نسخر من الذي يلصق صورة لمحمود ياسين أو نور الشريف, وننعته بالمدلل, وكنا نغمز من قناته الأخرى, وكنا وكنا …. ولكن الكتب قالت لنا بعد ذلك أشياء أخرى عن السينما, قالت إنها الحياة والحياة التي نعيشها لا تشبه السينما أبدا, بيوتنا طينية وصحوننا قديمة مصنوعة من النحاس, وبيوت السينما من الطوب ومفروشة ولها أدراج دائرية تفضي إلى طوابق أخرى, ويأكلون وهم جالسين على الكراسي ونحن نفترش الأرض، ونتعارك على صحن وحيد نأكل منه جميعا، ولا نشبع إلا من الخوف.
نشر هذا المقال في العدد 25 من صحيفة buyerpress
2015/8/15
التعليقات مغلقة.