من المنفى إلى المشفى.. هل سأرقص في ساحة الأمويين؟
منذ بداية الثورة السورية في آذار 2011، وحتى هذه اللحظة وأنا أحزن على رحيل كل شخص يملك نفسا معارضا، ويحلم أن يرى سوريا جديدة بدون بشار الاسد وزمرته الحاكمة.
ولأفكر بانه لن يرقص معي في ساحة الأمويين ويستقبل المعتقلين والمختفين قسريا،هذا التفكير راودني كثيرا حين رحل العشرات من الأصدقاء، سواءً أكان موتا طبيعيا، أو بيد أجهزة النظام السوري.
المنفى الاجباري الأول:
لم يكن خيارا سهلاً أن أخرج من سوريا في منتصف عام ٢٠١٢، لكن الضغوط الأمنية ازدادت بحكم عملي في مركز توثيق الانتهاكات مع الصديقة رزان زيتونة، وتوثيق أكثر من مئة ألف حالة من القتل والاعتقال والاختطاف بحق المواطنين السوريين في السنة الأولى من الثورة السورية، واعتقال كامل أفراد المركز السوري للإعلام وحرية التعبير والذي كنت فيه مسؤولا عن ملفي الدراسات وحقوق الإنسان.
تركت دمشق بعد أن أصبحت حركتي فيها محصورة ومقيدة ومكبلة، وكانت الوجهة مدينة سري كانيه “رأس العين” في محافظة الحسكة، لكن الأجهزة الأمنية كانت تراقب منزلي وتحركاتي في كل ساعة، وبالأخص عند تشكيل رابطة الصحفيين السوريين وانتخاب هيئتها الإدارية، حيث كنت أمين سر الرابطة والوحيد في الهيئة الإدارية داخل سوريا، فكان القرار النهائي الهجرة والخروج من سوريا نهائيا.
أملك خيارين للهجرة لا ثالث لهما، إما تركيا التي لا تبعد حدودها عن منزلي مسافة ٢٠٠متر، أو كردستان العراق. فحاولت على مدى ثلاثة أيام وعبر المهربين الدخول إلى تركيا دون فائدة، فشلت في المرات الثلاثة، فكانت الوجهة هي كردستان العراق عبر الطرق الترابية من مدينة ديريك في أقصى الشمال السوري بتاريخ ٢٢\٧\٢٠١٢.
في كردستان العراق، والتي بقيت فيها قرابة السنة والنصف أعمل مراسلا لتلفزيون الأورينت نيوز، لم أشعر يوما بأنني من سكانها أو من أهلها، وكان الحنين الدائم والأبدي إلى سوريا ودمشق وسري كانيه – رأس العين.
المنفى الاختياري الثاني:
لا أستطيع أن أصف قرار الخروج من كردستان العراق إلى أوربا بأي شكل من الأشكال رغم عملي الجيد، والمردود المادي المريح مع مؤسسة أورينت، لكنني قررت أن أسافر من أجل المستقبل والبحث عن الذات، فأنا غريب ومهاجر ومنفي سواءً كنت في كردستان أو في أوروبا، والوجهة هذه المرة ألمانيا.
بسبب منعي من السفر داخل سوريا، لم أكن املك جوازا للسفر، ولم أركب الطائرة في حياتي، فاشتريت جواز سفر مزور من تركيا بسعر غال للسفر من أربيل إلى اسطنبول حيث دخلت إلى المطارين، وختموا عليها ختم الدخول والخروج دون أن يكتشفوا أنه مزور، فوصلت إلى اسطنبول، المدينة الساحرة المليئة بالمهربين وتجار البشر.
على مدى شهرين في اسطنبول، وثلاث محاولات للذهاب إلى بلغاريا، ومحاولة للذهاب إلى اليونان، كلها بائت بالفشل، حيث كان حراس الحدود دائما بالمرصاد لنا، يتم اعتقالنا وإعادتنا إلى الحدود التركية، وفي المحاولة الأخيرة نجحنا بالدخول إلى بلغاريا من خلال صندوق صغير أسفل البولمان، كنا أربعة أشخاص لكن تم اعتقالنا وحجز البولمان.
من تركيا إلى ألمانيا مررت ببلغاريا وصربيا وهنغاريا والنمسا، اعتقلت في كل هذه الدول، بصمت فيها، دخلت إلى سجونها، أقمت في مخيماتها، تعرفت على أناسها في رحلة استغرقت قرابة الأربعة أشهر، إلى حين الوصول إلى موطن الخالة ميركل.
المنفى الاجباري الثالث:
بعد مرور خمسة أشهر في ألمانيا، بدأت أسناني تُؤلِمني، وحصلت التهابات في اللثة بشكل مفاجئ، ولا أعلم السبب سوى أن هناك خمسة أسنان بحاجة إلى “الإسقاط بكافة رموزها ومرتكزاتها”، فقررت بعد طول تفكير مراجعة طبيب الأسنان، وهي المرة الثالثة التي أدخل فيها إلى عيادة أطباء الاسنان في حياتي، حاول الطبيب مساعدتي وتخليصي من الكوارث التي أصابت أسناني، وحدد لي ستة أشهر للمراجعة حتى تعود أسناني شبه طبيعية، وقام بإعطائي مجموعة من الأدوية لمعالجة الالتهابات قبل عملية الإسقاط. لكن بعد مرور خمسة عشر يوما على أخذ الأدوية، كانت الاستفادة: صفر، والحالة كانت تتجّه من سيء إلى أسوء، فطلب مني إجراء تحليل للدم لمعرفة السبب، ودلني على طبيب سوري مقيم في ألمانيا منذ أكثر من أربعين عاما، وهو أيضا من المعارضين، ويحلمُ أن يعيش حتّى يرى بشار الاسد ساقطاً، فكان الذهاب إليه بعد تردُّد.
مساءً يتّصل معي الطبيب السوري، ويطلب مني زيارة العيادة في اليوم التالي، وأخذ نتيجة التحليل، ومن طريقة حديثه وأسلوبه، أدركت أن هناك أمراً حزيناً ومرضا خطيراً، ونتيجة التحليل سيئة. فكان الانهيار النفسي قبل معرفة النتيجة. لم أنم تلك الليلة وأنا أفكر بمئات الأمراض الخطيرة التي يمكن أن تصيبني. أفكر في مرض السل، فقد عشت فترة شهرين في مخيمات النمسا في غرفة واحدة مع مجموعة من الأفارقة. أفكر في مرض الكبد، وفي عائلتي خمسة أفراد ماتوا نتيجة هذا المرض. أفكر في مرض الأيدز، وأراجع آخر عشر سنوات إن كنت قد مارست الجنس. أفكر في مرض السرطان بأنواعه المختلفة، وأبحث في محرك البحث “غوغل” عن كل مرض وأسبابه ونتائجه. أفكر بأنني سأموت ولن أرى بشار الأسد ساقطا.
في ألمانيا كما هو حال كل الدول الأوربية، الطبيب يقول للمريض عن مرضه دون مواربة ويضعه في صورة احتمالية العلاج، أو فقدان الأمل من العلاج. الطبيب السوري قال لي فور وصولي إليه، ونتيجة التحليل بيده :“يا ابني معك مرض السرطان، والأعمار بيد الله، ونصيحتي لك أن تذهب إلى المشفى وتتعالج هناك”. وخلال دقائق معدودة وشريط الذاكرة يعود بي إلى الخلف، وأتذكر كل المعارضين الذين ماتوا دون أن يستمتعوا بسقوط بشار الأسد.
في اليوم التالي، كان خياري هو المشفى وأخذ جرعات من الكيماوي. منذ أربعة اشهر وحتى هذه اللحظة، أنا بمعنويات عالية على الشفاء والعودة إلى حياة المنفى الاختياري، وإصرار على الرقص في ساحة الأمويين.
ترددت كثيرة في كتابة هذه المادة خوفا أن تسمع أمي بمرضي، رغم أنها لا تجيد اللغة العربية كتابة وقراءة ومحادثة وفهما، وهي التي تنتظر أخبار أبنائها في كل من سوريا وتركيا وكردستان العراق وألمانيا والسويد لعلها ترقص معهم في ساحة الأمويين.
المصدر: راديو أنا
التعليقات مغلقة.