حول معضلة تعريف الكاتب الكردي – إبراهيم خليل

60

إبراهيم خليل

حول معضلة تعريف الكاتب الكردي

من الحالات الشاذة في التاريخ الثقافي والاجتماعي للشعوب أن يضطر أبناؤها إلى الحديث والتفاهم الشفهي مع بعضهم البعض بلغة أجنبية, وفي حالة ليست أكثر تطوراً وشذوذاً أن تجري الكتابة ويجري الرد والنقد والتعقيب بغير لغة الأم بالنسبة للكاتب والناقد معاً.

وأراني مضطراً هنا إلى الكتابة بالعربية رداً على الأستاذ “صبري رسول” لسبب وحيد يدفعني إليه سوء ظني أن الأستاذ رسول لا يقرأ بالكردية أو على الأقل أن قراءة العربية ستكون أكثر يسراً وقبولاً عنده كما هي عند الكثير من المثقفين ذوي الأصول الكردية.

في مقاله المعنون ( القصة القصيرة الكردية ) المنشور في الأنترنيت في الثالث من شهر حزيران والذي يقدمه على أنه دراسة ( مراجعها مجلة مواسم وجريدة العرب ), يتصدى الأستاذ ” صبري رسول ” للتنظير للقصة الكردية القصيرة وهو مبحث عسير ومركب صعب, لا لشيء إلا لأن المنقود موضوع البحث قليل نادر, والناقد واضع البحث ليس له سابق نتاج في الكردية يتكئ عليه خلال صعوده غير الآمن من الإنتاج إلى نقد الإنتاج . وبإهمال الباحث عنصري الزمان والمكان الضروريين في عنوان أي بحث أكاديمي يرمي السيد رسول على كاهل نفسه عبئاً يعجز عن حمله بعنوان فارهٍ باهظٍ كهذا الذي اختاره.

يستفتح السيد رسول دراسته المتواضعة – كما يصفها – بقوله : (القصّة القصيرة في الجزيرة عامة والكُردية خاصّة جزءٌ لا يتجزأ عن القصة السّورية، ولا يمكن فصلها عن المحيط العام للأدب السّوري، لأنّها نشأت تحت ظلال القصة السّورية )

ولا يلبث قليلاً حتى تخونه الذاكرة فيقول في مكان آخر : (فالقصة الكردية المكتوبة بلغة الأم هي في طور النشوء والتأسيس، رغم أنّها وُجِدَتْ قبل القصة الكردية المكتوبة بالعربية، حيث كتب قدري جان، ونور الدين زازا قصصاً باللغة الكردية ونشراها في مجلتي (روزانو وهوار) في بداية الأربعينات القرن الماضي، قبل رحيل فرنسا.)

وبمقارنة الشاهدين المتناقضين أعلاه لن يكون من الواضح عن أي ظلال للقصة السورية ( وهو يقصد العربية بالطبع ) يمكننا أن نتحدث في فترة الأربعينيات من القرن الفائت حين كتب “قدري جان” والدكتور ظاظا ما كتبا !

لا يخلو المقال من أفكار نقدية قيمة وإن لم نعدم لها أصولاً متناثرة هنا وهناك في بطون كتب النقد الأدبي العربي المعاصر على أن أكثر ما يصدم النظر في المقال المذكور هو الرؤية البانورامية لدى الكاتب الذي لا يجد غضاضة في رصف الكتاب ثم وشمهم وتغليفهم ثم وضعهم داخل صفوف مدرسية يعلق على أبوابها سطراً واحداً يعبر عن تقييمه لهذه المجموعة أو تلك, بالإضافة إلى تواضعه الجم الذي لا يتمكن من إخفائه, اقرأ واستمتع مثلما استمتعت :

( قد لا نكون منصفين لو ذكرنا بعض الأسماء وسهونا عن أخرى، لكن لا أحد يستطيع تجاهل قاماتٍ كبيرة كسليم بركات، والفنان التّشكيلي فاتح المدرس في مجموعته اليتيمة(عود النعناع)، إضافة إلى آخرين تركوا بصماتٍ واضحة على القصة، مثل عبد الرحمن سيدو ونيروز مالك، محمد باقي محمد، عبد الباقي يوسف، خورشيد أحمد، أحمد عمر، وجيهة عبد الرحمن وصاحب هذه الورقة. وغيرهم. )

ثم يستعرض مجموعة من ( الأصوات القصصية التي دأبت للبحث عن ذاتها والتّعبير عن نفسها، دون أن تستطيع أنْ تكوِّن نَفَسَاً خاصاً بها ) مثل حسن ظاظا وبسام الطعان ومحمد باقي محمد ونور شوقي وجواني عبدال ومحمد نديم وعبد الصمد داود.

ويذكر بعض ( أصوات قصصية تجاوزت التقليدية في القصة، وخلقت لنفسها صوتاً خاصا, من هؤلاء أحمد إسماعيل إسماعيل، في مجموعته المُدهشة (رقصة العاشق2001) التي بها فاز بجائزة الشارقة للإبداع عام 2000م. إقبال عبد الفتاح (نهايات في نفق نيرفانا)1998م، وجيهة عبد الرحمن في مجموعتها (أيام فيما بعد)2008 ومجموعتها الثالثة لم أتمكن من الاطلاع عليها. وهي(أم لوهم البياض) 2010، في حين كانت نصوص بداية مشوارها في (نداء اللازورد)2006م أقل من مستوى مجموعتها الثانية. وكاتب هذه السطور (صبري رسول) في مجموعتيه (وغاب وجهها، وغبار البراري).) انتهى الاقتباس.

و عبارات ( صاحب هذه الورقة ) و ( كاتب هذه السطور ) بالطبع يعني بها نفسه وأنه واحد من كتاب القصة القصيرة الكردية الذين تجاوزوا التقليدية وخلقوا لأنفسهم صوتاً خاصاً وتركوا بصمات واضحة على القصة كما هو فاقع في الاقتباس!!

ألم يكن من الأجدى والأقل كلفة يا سيدي أن نسمع هذا الكلام من أحد رفاق دربك في وصف تجربتك اللا تقليدية وتجهير صوتك الخاص بدل هذا التمدح المكشوف للذات والذي لا يغني من فاقة ولا يسمن من جوع ؟!

بغض النظر عن التناقض الداخلي والتخبط والعشوائية في هذه التصنيفات فإن عباراته الرائعة المذكورة أعلاه تعود بعناصرها الأولية وتركيبتها العامة إلى تنظير الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت حين كان الكرد المساكين يبحثون بسراج وفتيلة عن بقايا آثار عرق كردي في نسب أي شخصية مشهورة في العالم العربي أو الإسلامي لإثبات أن الكرد ساهموا في بناء الحضارة الإسلامية, ومن جهة ثانية فإن شواهد وأحكام اعتباطية كهذه غنيمة ثمينة لأي متصيد أخطاء من طينتي. اسمحوا لي أن أفكك جمله المذكورة وافهمها على الشكل التالي :

أولاً, انسياقه اللا إرادي خلف إغواء تقديس “سليم بركات” وإتباع العوام في تكريس هذا الكاتب العربي الكبير كظاهرة في الأدب الكردي بغير وجه حق. أولاً إن إقحام اسم سليم بركات – ولا أعرف له قصة قصيرة واحدة – في دراسة تتناول القصة القصيرة الكردية خطأ أكاديمي لا يقل سطحية وسذاجة عن إقحام اسم سليم بركات ضمن الكتاب الكرد أصلاً.

وثانياً, اختياره الحصري لثلة من زملائه من اتحاد الكتاب العرب – مع الاحترام لشخوصهم – كنماذج مبدعة في القصة القصيرة الكردية يتجاوز حد المجاملة المكشوفة والممجوجة ويؤسس لتعريب الأدب الكردي ليس بقرارات سلطوية عنصرية كما كان يفعل نظام البعث واتحاد كتابه الذي لم يكن يعترف بالكرد ناهيك عن اعترافه بقصة قصيرة كردية, ولكنه تعريب ناعم بلغة منطقية خادعة وتنظير أدبي يدعي الواقعية والعقلانية مع هامش صغير لا يكاد يرى يلمح فيه إلى المظلومية والغيرة والوطنية.

وبعد أن يستعرض السيد الباحث طائفة من الآراء في الأدب الكردي المكتوب بالعربية, يقول حرفياً : (وأرى بأنه يمكن تصنيفه في مجال الأدب المقارن، بوصفه أدباً كردياً روحاً ومضموناً، وأدباً عربياً شكلاً ولغة. وهنا يتبادر إلى الذّهن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، أيُصنّفُ ضمن الأدب الفرنسي أم الجزائري والعربي إن صحّ التّعبير؟. ويهمني هنا الوقوف عند تلك المكتوبة باللغة العربية، لأنني وللأسف لا أُتقنُ كتابة النقد الأدبي باللغة الكردية)

وبناءً عليه, يكون لدينا أدب عربي وأدب كردي و”أدب مقارن”! ولئلا يلتبس على بعض القراء مفهوم “الأدب المقارن” من جهة ولئلا يساء فهمي من جهة أخرى سأترجم هنا حرفياً تعريف معجم ” لاروس ” الفرنسي لتعبير “الأدب المقارن” : ” الأدب المقارن نوع من أنواع المعرفة يهتم بالمقارنة بين أدب شعبين أو أمتين أو أكثر ”

وعلى هذا يا سيدي فالأدب المقارن هو المتشابه المكتوب بلغتين مختلفتين من لدن كاتبين من ملتين متمايزتين ( موليير وشكسبير مثلاً ) للعثور على نقاط التشابه, ورؤية ومعالجة كلا الأدبين لموضوع أو نقطة أو موقف ما, وليس من مهمة الأدب المقارن المقارنة بين “رشيد بو جدرة” و”الطاهر بن جلون” أو بين “سليم بركات” و”جكرخوين”.

ثم يقول بنبرة لا تخلو من العطف ( لكنّ القصص المكتوبةَ باللغة الكردية لا ترتقي إلى مستويات تلك المكتوبة باللغة العربية، ومَن يغامر ويكتب بالكردية بعد أن يتعلّم اللغة بجهودٍ فردية، وخلسة من عيون أجهزة السلطة، سيجد كلّ شيء بكراً، عليه الحرث فيه، لأنّه لم يمهّد أحدٌ طريق الكتابة السردية بالكردية )

وسيأتي بعدي وبعدك يا سيدي من يقول جملتك هذه نفسها ويسمعنا هذا التباكي المخزي ذاته وإلى ما شاء الله. ولكن ما دمت أنا لا أتقن الردح باللغة العربية وأنت لا تتقن النقد باللغة الكردية كما تفضلت فإني أسألك : لمَ لم تسأل نفسك يا سيدي, قبل أن ترجمنا بمثل هذا الكلام, عن الفعل المضارع ” يمهّد ” أيلزمه فاعل ما أم إن البكر تفتض نفسها بنفسها والأرض تحرث نفسها بنفسها والطريق تمهد ذاتها بذاتها ؟! كيف كانت العربية لتتطور وتأخذ زينتها لولا أمثال ابن الأثير وابن خلكان والأربلي وأمثال شوقي والعقاد والرصافي والحيدري والزركلي وسليم بركات ولولا أمثالي وأمثالك ؟ وكيف ترى كانت طريق الإنكليزية قبل شكسبير وطريق الإيطالية قبل دانتي وطريق الروسية قبل بوشكين وطريق العربية قبل جبران ؟ ألم تكن جميعها أوعر من طريق كردية اليوم وكانت لتبقى كذلك لولا أن قيض الله لها من أبنائها من وسع آفاقها وجدد أخلاقها وتتابعت على إثر هذا الواحد زرافات من الصحابة والتابعين وكل في مجاله الذي يحسن وفنه الذي يجيد, وتشكل من جماع ذلك ما نسميه اليوم بالأدب والتراث الأدبي. لم يبخسوا بضاعتهم حقها كما نفعل اليوم ولم يستسهلوا الإصابة من آداب الآخرين فنجحوا وأفلحوا حيث أخفقنا وتراجعنا لأننا بكل بساطة أمة ترى المشكلة بألف عين وتشرحها بألف لسان ولكنها تعمى عن حل واحد.

أختم ببشارة أرجو ألا تصدمك وأترابك من كتاب الآرابوفون الكرام وهي أن ناطقي اللغة الكردية قد خرجوا من متاهات عقدة النقص ودخلوا اليوم في طور الصحوة وآية ذلك أن عدد من يكتب اليوم بالكردية ( شعراً وقصة ومسرحية ومقالة و … ) في مدينة الحسكة مثلاً قد تجاوز أو يكاد عدد بني جلدتهم الذين يكتبون بالعربية, ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر ولا التقييم : محمود صبري وصالح حيدو ويونس حمى وعدنان وجيندا سعدي ومشعل أوصمان وسيف الدين داود وعمران يوسف وسالار صالح وحكيم رفي وخوشناف سليمان وخالد عمر وأحمد ميرخاني وحسين معمي وكلال كاساني وبنكين هاروني ومرفان خلو و…كاتب هذه السطور.

 

 

 

 

التعليقات مغلقة.