النقد الساخر
“من هنا، يجب أن ندرك البون الشاسع بين النقد الساخر البناء، والنقد لغرض التجريح والسخرية. يبقى النقد الساخر، هادفاً إلى تعرية الحقائق والكشف عن الأخطاء، بأسلوب ذكي، ممتع، يحمل الطابع الكوميدي، في محاولة منضبطة مغلفة بذوق الناقد للكشف عن مواطن الجمال والقبح”
باتت مواقع التواصل الاجتماعي منصة متقدمة لمواكبة الأحداث الجارية في شتى المجالات، وكانت المحرك الرئيس لأحداث ثورات “الربيع العربي” حيث لعبت دوراً أساسياً في تحريكها، وقيادتها، التي أدت بدورها، إلى الإطاحة بحكومات، وإسقاط الكثير من الرموز السياسية، وبذلك أصبح المواطن يعي تماماً قوة الإعلام الجديد، الذي نجح في كسر هيبة الأنظمة السلطوية، وفارضاً تأثيره على الإعلام التقليدي.
المؤسف في الأمر، باتت أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، وباءاً ثقيلاً على الثورات، عندما خرجت من مسارها السويّ، وتغلبت عليها اللغة البذيئة، وافتقدت قبول الحوار، وأصبحت مائدة لتبادل الاتهامات والتناحر اللفظي، وفضاءات مفتوحة في التهكم والسخرية، والتعامل السطحي مع مضمون الفكرة، بعيداً عن نقد الأفكار والرؤى المطروحة من عموم الأطراف، بمعايير منهجية موضوعية.
من هنا، يجب أن ندرك البون الشاسع بين النقد الساخر البناء، والنقد لغرض التجريح والسخرية. يبقى النقد الساخر، هادفاً إلى تعرية الحقائق والكشف عن الأخطاء، بأسلوب ذكي، ممتع، يحمل الطابع الكوميدي، في محاولة منضبطة مغلفة بذوق الناقد للكشف عن مواطن الجمال والقبح، معتمداًعلى خيال واسع، وبداهة مفرطة، وخلفية ثقافية خصبة، قادرة على التفاعل مع الأحداث بغرض إصلاحها وتقويمها نحو السمت الصحيح، دون أي تجريح، دون أي تناول للأشخاص، من خلال فظاعة المفردات المبتذلة، والطعن بالآخر على خلفية أسباب شخصية.
وقعت هذه الصفحات في أحبولة الـ “ساركازم” الفظ، في إبراز جوانب النقص والعيوب ومكامن الضعف بكل تهكم وسخرية مفجعة، تستعمل السخرية ببنية عدوانية، تصل إلى حد الإيلام، دون الارتقاء إلى قواعد العمل النقدي، المعتمد على الأدلة والقرائن عن الموضوع المراد تسويقه، وبذلك بقيت تلك الصفحات مجرد فسحات شخصية، تفتقد المصداقية، وبعيدة عن روح العمل المؤسساتي، ولغة الشارع النقدي المتزن بأسلوبه ولكنته.
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، من الجيدأن تعمل تلك الصفحات والمدونات في تقديم البديل الأصح، وإتمام النقص وسد الثغرات، وفق مفهوم نقدي مبني ومرتكز على أصول موضوعية منهجية، دون الوقوع في مستنقع رتابة المواضيع المجترة، حيث يتضح بذلك بأن الهدف من الصفحات هو إسقاط الآخرين والتقليل من شأنهم، ومدلولاً واضحاً عن فقدان الحس المنطقي في التعامل مع النقد البناء، الذي يكون بعيداً عن التعصب، وتأجيج النعرات والفتن، وإيذاء الآخر، دون أي وجه حق. حينها، التزام الصمت، والانصراف عنغلاظة الكلمات والأقوال، بمثابة الحل الأنجح للناقد والمنتقد، كصورة بديلة للخلاف والانشقاق الفكري، والدخول في منافسات فرعية شخصية، تفقد النقد البناء مضمونه وماهيته، وتجعل من الناقد محامياً فاشلاً لقضية ناجحة.
في هول الكارثة السياسية في “المناطق الكردية” التي تقف ورائها الأحزاب الكردية، وإلى جانب الأزمة المرورية في حجم المؤسسات العاملة في مجال المجتمع المدني، التي بقيت حالات مستنسخة مجترة على نفسها، دون أي نتائج ملموسة، سوى نزاعات مؤسساتية في عدد الورش والمحاضرات، وبالإضافة إلى غياب شبه تام لمراكز إعلامية كردية، قادرة على تسليط بقعة الضوء على حجم مكامن الخطأ والفساد المتفشي في الكيان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في أغلب المناطق الكردية. هذه الأسباب إلى جانب عوامل أخرى، تخلق الحاجة المسوغة في إيجاد مراقب دائم عبر تأسيس كيان مؤسساتي قادر على العمل بأدوات ومعايير مهنية، مهمتها توفير المناخ الملائم لإعادة الثقة بين المواطن والمؤسسات، وكآلية رقابية تكشف حجم الأخطاء، وتقدم في تمام اللحظة الحلول البديلة، الساعية إلى الإنتاج والتطور الأفضل، في محاولة جادة لرسم ملامح النقد البناء، عبر هياكل مؤسساتية مختصة، دون أي اعتبارات شخصية وخلفيات سياسية.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 20 بتاريخ 5025/6/1
التعليقات مغلقة.