وَدَاعاً… غُونْتَرغْرَاسْ

26

13qpt865الشاعر الألماني غونْتَرغْرَاسْ الذائع الصّيت الذي فقدناه سبق له أن أثار حفيظة إسرائيل بقصيدته الشهيرة «ما ينبغي قوله» الذي كان قد نشرها في إحدى الجرائد الألمانية الكبرى والتي اتهم فيها إسرائيل بأنها تهدّد السلم الدولي الهشّ من خلال رغبتها في شنّ ضربة على المنشآت النووية الإيرانية. كما أدان فيها اعتزام بلاده ألمانيا بيع غوّاصات دولفين لإسرائيل. (أنظر مراسلتي للقدس العربي من غرناطة حول قصيدة أخرى للشّاعر الألماني تحت عنوان «غونتر غراس في قصيدته أوروبّا العار» إنّهم يسقون سقراط السمّ من جديد «العدد 7143بتاريخ 2/3 حزيران/يونيو2012، والتي جاءت بعد شهرين من نشر الشاعر لقصيدته الأولى عن إسرائيل .

وكانت قصيدة الشّاعر الألماني غونتر غراس هذه قد خلّفت ردودَ فعلٍ عنيفةٍ ومتباينة، سواء في بلده ألمانيا أو في إسرائيل، حيث وصف بعضهم نصّ غراس بأنّه مُعادٍ للسّامية وغير متكافئ وعنيف، كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية على إثر نشر هذه القصيدة أنّ الشاعر الألماني غونتر غراس يلهب مشاعر الكراهية ضدّ إسرائيل، وشعبها وهو بالتالي «شخص غير مرغوب فيه». ولقد قارن الشّاعر على إثر ذلك إسرائيل بالبلدان الشيوعية الديكتاتورية .

كما كانت جمعية الكتّاب باللغة العبرية قد وجّهت انتقاداً لاذعاً وشديدَ اللهجة لقصيدة للشاعر الألماني. وأشار هرزل هالاك رئيس هذه الجمعية الإسرائيلية إلى أنّ غونتر غراس يقوم منذ مدّة بحملة استحواذية لتشويه سمعة إسرائيل، كما أنه يحرم الشعب اليهودي من حقّ الدّفاع عن نفسه. وأضاف هالاك : «لو كان غونتر غراس نشيطاً ضد التسليح النووي الإيراني لأمكنه محو الصليب المعقوف الذي يلطّخ به ثيابه، إلاّ أنّ حملته ضد الشّعب اليهودي وإسرائيل ما زالت مستمرّة، وهذا أمر لا يمكن أن يغفر له أو الصّفح عنه، كما أنه ذكّر بما يسميه بفضيحة غراس عام 2007 عندما اعترف بأنّه كان يعمل لصالح منظمة «واف، س، س» النازية. حسب زعمه. وكان مردخاي فانونو قد حصل على الجائزة الجامعة الدولية السّنوية لحقوق الإنسان في برلين عام 2010 إلاّ أنه على الرّغم من تدخّل 6 من الحاصلين على جائزة نوبل لدى إسرائيل للسّماح له بالذهاب إلى برلين لاستلام جائزته، فقد رفضت الحكومة الإسرائيلية ذلك رفضاً قاطعاً. وبعد أن استوفى مردخاي مدّة سجنه، وعلى الرغم من المضايقات التي كان يتعرّض لها، ظل يطالب بأن تخضع المنشآت النووية الإسرائيلية للتفتيش الدّولي خاصّة في المركز النووي المُسمّى «ديمونا» في صحراء النّقب .

وقال غيديّون سبيرو ( وهو مواطن إسرائيلي متقاعد سبق أن عمل مظلّيا في الجيش الإسرائيلي) ومؤسّس لجنة الدّعم والدفاع عن مردخاي فانونو: «إنّ اتهام السياسيين بمعاداة السّامية هي القنبلة النووية التي ما فتئت تستعملها إسرائيل كدعاية لها»، وقال: «إذا أدان أحد سياسة التمييز العنصري التي تنهجها إسرائيل، فالجواب عندها هو أنّ ذلك امتداد للتقليد الإسباني في طرد اليهود»، وأضاف: إذا كان الذي صرّح بذلك ضد إسرائيل معادياً فعلاً للسّامية فلا بأس، أمّا إذا كان ناشطاً، أو داعية للسّلم، أو مهتمّاً بالعلوم الإنسانية، أو محامياً يدافع عن حقوق الإنسان فلابدّ له إذن أن يستعدّ لتقديم الشروح والدفاع عن نفسه ولقد أصبح هذا السلاح حاسماً وفعّالًا في ألمانيا «. وتشعر برلين بنوع من الحرج من سياسة توسيع المستعمرات الإسرائيلية في الضفّة الغربية والقدس الشرقية، حيث تسيطر إسرائيل اليوم على 42 في المئة من القطر الفلسطيني، وما فتئ الرّأي العام – حسب الاستطلاعات- ينتقد بشدّة سياسة إسرائيل التوسّعية هذه». كما أنّ النظام الإسرائيلي هو الوحيد الذي يملك السّلاح النووي في الشرق الأوسط، وما انفكّت ترفض إسرائيل السّماح للمراقبين الدّوليين بتفتيش مرافقها ومنشآتها النووية.

أوروبّا العار

وبعد قصيدته الشهيرة التي كانت بعنوان «ما ينبغي قوله» الآنفة الذّكر، والتي كان قد انتقد فيها إسرائيل وسياستها الخارجية، كان قد عاد في قصيدة له أخرى تحت عنوان «عار أوروبّا» لينتقد فيها بشدّة سياسة الاتحاد الأوروبيّ، وسياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على وجه الخصوص حيال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف ببعض البلدان الأوروبية منها اليونان مهد الحضارة في هذه القارة العجوز. وكان قد تلا هذه القصيدة في إحدى المحطّات الإذاعية العمومية المهمّة في بلاده وهي «راديو بريمن»، ثمّ أعادت الصّحيفة اليونانية «كاتيميريني» نشرها بدون التعليق عليها.

كان غونتر غراس قد تأسّف للوضع المُزري الذي أصبحت تتردّى فيه اليونان بسبب ديونها الباهظة التي أثقلت كاهلها، والسياسة التقشفيّة العصيبة، والإجراءات الإصلاحية الصّارمة التي فرضتها عليها «أوروبّا» قسراً، وقهراً، وعنوةً، واعتباطاً، وحرمتها من حقوقها الأساسية، وحكمت عليها بالفقر والعوز والفاقه والخصاصة لعدم قدرتها على أن تكون في مستوى السّوق، وعجزها عن مسايرة سياسة الاتحاد الاوروبي. وعبّر غراس في هذه القصيدة عن إدانته الشديدة للاتحاد الأوروبي.

كما عبّر من جهة أخرى عن تفهّمه لغضب أحفاد سقراط، وأرسطو وأفلاطون. ويتّهم الكاتب الألماني أوروبّا المتبجّحة بأنها تسقي الإغريق «شراب السمّ الناقع» في إشارة إلى مصير فيلسوفها العظيم سقراط، وأنّها تنأى أو تولي ظهرها للبلد الذي كان يوما ما هو أرض ومهد الحضارة الأوروبية. وينذر الكاتب غراس في آخر القصيدة من جوقة لعنة آلهة الأساطير الإغريقية في جبل الأوليمبوس التي قد تلحق بالأوروبيّين كلّ السّخط والأذى، والغضب واللعنة. ويذكّر الكاتب الألماني أوروبّا أنّها بدون هذا البلد الذي مهّدت روحه، وأنواره، وإشراقاته، وفكره للكيان الغربي، وللوجدان الأوروبي المعاصر، فإنّ أوروبّا سوف ينتهي بها المطاف إلى الذبول والزّوال والاضمحلال.

ويبرز غراس الأهمية القصوى التي تنطوي عليه اليونان التي أصبحت كنوزها اليوم بين أيدي قضاتها، ومحاكمها، وتزيّن ثرواتها مدنها المتحفية، ويذكّر الكاتب بتدخّل الألمان في الأراضي الهيلينية الذين اكتسحوا جزرها وغزوا ثراها المبارك بالسّلاح ، وهم يحملون شاعرهم فردريش هولدرلين في حقائبهم المُلصقة والمعلقة على ظهورهم!.

كان الكاتب غونتر غراس قد أكّد في قصائده العصماء السّابقة أنّه لن يخرس، ولن يسكت، ولن يصمت، وها قد وفى بوعده، وتكلّم أمام الملأ بصوت جهوريّ صارم على الرّغم من الاحتجاجات التي أثارتها أشعاره ومواقفه من قبل حوله، وعلى الرّغم من القدح الذي تعرّض له من طرف خصومه، ومناوئيه خاصّة من طرف الصّهاينة، والمتعاطفين معهم، أو المرتمين في أحضان إسرائيل، فضلاً عن الجدل الذي كان قد أثير حول صلاحيته، واستمراريته وأحقيته في التمتّع بعضويته في «نادي الكتّاب» في بلاده !.

قبل فوات الأوان

ممّا كان قد جاء في قصيدة «ما ينبغي قوله»: أن لماذا، وقد بلغ الشّاعر من السنّ عتيّا، يقول ويدلي بما ينبغي قوله الآن، إنّه يفعل ذك – كما يشير – قبل فوات الأوان، (أي قبل رحيله…!..أو قبل أن يبلغ السيلُ الزّبى!) ذلك لأّنه يرى أنّ السّلام العالمي الهشّ هو معرّض للخطر، والتضعضع بالفعل بسبب القوّة النووية لإسرائيل. وقد اتّهم الكاتب الألماني بمعاداة السّامية،. كما اتّهم بأنه كان في شبابه منتمياً ومُوالياً للنازية (قوّات إس إس ) منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، ولا عجب فالتخوّف الذي يشعر به غراس، والتوجّس الذي يعتمل بداخله، رّبما كانت له أصوله ودوافعه وجذوره ومبرّراته، إنّه يعتب على بلده الذي أصبح ثالث بلد مصنّع ومصدّر للأسلحة في العالم، والغوّاصات الفتّاكة الألمانية الصّنع التي تدعم بها إسرائيل، سبق لها أن أقدمت على اقتراف كارثة إنسانية مؤسفة في تاريخ ألمانيا ذاتها، بهذه الأصناف نفسها من الوسائل الحربية المدمّرة، والخطرة، وإن كانت في الماضي أقل فتكاً وضرراً، وأقلّ تطوّراً من التي نتوفّر عليها اليوم، والتي أضحت تفوق كلّ خيال، فلا عجب إذن أن تثور ثائرته وأن يقول «ما ينبغي قوله». ولنرجع إلى أدبه وإبداعاته الأدبية، وبشكل خاص إلى روايته «مشية سرطان البحر» الصّادرة عام 2002 التي تلقي الضّوء بشكل أو بآخر على جذور الجدل الذي يبدو أنّه ما زال يتفاقم ويكبر وتتّسع دائرته ليشمل أوروبّا بكاملها.

مِشيةُ السّرطان

غاص غونتر غراس في هذه الرّواية في أعماق تاريخ بلاده ألمانيا، عندما كان الكاتب لمَّا يزلْ في شرخ الشباب وريعانه، حيث يحكي لنا قصّة غرق الباخرة «كوستلوف» بعد أن تعرّضت لقصف من طرف غوّاصة سوفييتية عام 1945، ومات نتيجة هذا القصف آلاف المدنيين الذين تتراوح أعدادهم بين ستة آلاف وعشرة آلاف قتيل، نصفهم من الأطفال، أما عدد الناجين من هذه الكارثة فيتراوح عددهم بين 900 و1239، وينتقل بنا غونتر غراس في روايته إلى عام 1945، ويضعنا أمام بحرٍ هائجٍ مزبدٍ متلاطم الأمواج، تطفو على سطحه آلاف الجثث من ضحايا هذه الباخرة المنكوبة. وكان الكاتب الألماني قد صرّح في إحدى المناسبات خلال تقديمه لهذا الكتاب بالذات، أنه لم يجد بدّاً من وضع أحداث هذه الباخرة في قالب قصصي، مسلطاً الأضواء على ثلاث شخصيات في الرّواية، وقال إنه كان يفكّر منذ سنّ مبكّرة في نقل هذه الحادثة التاريخية إلى رواية، التي كان لها أثر بليغ في نفسه، وعلى بلده ألمانيا، وقد فعل ذلك انطلاقاً من شخصيات كانت لا تزال على قيد الحياة، عايشت هذه المأساة، منها امرأة مسنّة كانت حيّة تُرزق، عند كتابته لهذه الرّواية، وابنها الذي كان يبلغ خمسين سنة من العمر، وحفيدها الذي أصبح اليوم من اليمينيين المتطرفين في بلاده .

وقال إنّه اختار عنوان «مشية السّرطان» لأنه يزحف أحياناً نحو الوراء، وقد راقبه في العديد من بلدان العالم، كما أنّه يزحف بشكل منحرف أو مائل أو مزورّ نحو جهةٍ مّا، إلاّ أنّه مع ذلك مثلما يعود القهقرى، فإنّه يتقدّم إلى الأمام كذلك. وقال إنّه من المفارقات الغريبة انّ الغوّاصة التي قصفت هذه السفينة، كانت من صنع ألماني، وكانت ألمانيا قد باعتها للاتحاد السوفييتي قبل ذلك، أيّ أنّ ألمانيا جرّبت مدى قوّة وفتك سلاحها في جلد أبنائها أنفسهم.

السّعادة بالقوّة

وكان غراس قد قال إنه لا تهمّه فقط الأحداث الكبرى التي يعرفها العالم، بل تعنيه كذلك الأشياء البسيطة في الحياة، ولهذا فإنه تتبّع بدقة متناهية في هذه الرّواية حياة ثلاث شخصيات أساسية فيها تمثل ثلاثة أجيال متعاقبة، وهم النازي ويلهيلم كوستلوف الذي تحمل الباخرة اسمه، واليهودي ديفيد فرانكفورتر الذي اغتيل في سويسرا، والرّوسي ألكسندر مارينيسكو الذي عمل على إغراق السفينة، وقصة هذا الأخير تثير كثيراً من الفضول، إذ انتهى به الأمر في مراكز التعذيب التابعة للسّجون السّوفييتية وقضى حياته محاولاً إقناع الناس بأن يعترفوا له بأنّه أبلى البلاءَ الحسن خلال الحرب، حيث لم يتمّ له ذلك إلاّ عام 1990 عندما كان قد مات .

وقال غونتر غراس إنه كتب هذه الرّواية لينتزع جزءاً من تاريخ ألمانيا من مخالب وقبضة اليمين المتطرف الألماني، الذي عمل أتباعه على إعادة نبش هذه القصّة من جديد، إلاّ أنّهم أذاعوا بشأنها العديد من الافتراءات والأكاذيب والترهّات. وأضاف غراس أنّ غير قليل من مبادرات النازيين بهرت الطبقات الجماهيرية العسيفة، وخير مثال على ذلك البرنامج الذي كان يعرف تحت شعار «نحو السعادة بالقوة»، حيث عملوا على إشراك العديد من العمّال الكادحين في رحلات بحرية استجمامية منظّمة على متن بواخر صُنعت على طراز «كوستلوف»، حيث لم تكن هناك مظاهر للفوارق الاجتماعية على ظهر هذه المراكب، وكان النازيّون سعداء كذلك لأنّ هتلر أمكنه توفير ما يزيد على 6 ملايين فرصة شغل للعاطلين. ولقد سبق للكاتب غونتر غراس أن تعرّض لهذا الحادث المأساوي كذلك في كتابيه السابقين «طبل الصفيح» (1959) و» سنوات الكلاب» (1963).

وكانت الباخرة المنكوبة تحاول إبعاد آلاف اللّاجئين الألمان من بروسيا الشرقية، التي كان يوجد بها الرّوس، عن شبح الحرب وأهوالها، وكان بحر البلطيق مسرحاً لهذه المأساة التي ظلّت راسخة في ذهن الكاتب، تراوده في مختلف المناسبات التي يثار فيها الحديث عن الحروب وأهوالها ومخاطرها وأسلحتها المدمّرة . غونترغراس حاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب 1999، كما أنّه حصل في هذه السنة نفسها على جائزة أمير أستورياس الإسبانية في الآداب كذلك، بالإضافة إلى العديد من الجوائز التكريمية المهمة الأخرى داخل بلاده وخارجها. وبرحليه المفاجئ لابدّ أن ألمانيا وأوروبّا، والعالمَ أجمع قد فقد فيه روائيّاً كبيراً وشاعراً مُبدعاً فذّاً وكاتباً مُلتزماً شجاعاً.

محمد محمد خطابي عن القدس العربي

 

التعليقات مغلقة.