صالح جانكو يستحضر الذات الإنسانية التائهة إلى ساحة الاختبار
“كسهم أخرس أطلقه صياد/ على طريدة غافلة/ أمضي مسرعا/ إلى حتفي وحتفها
ثم ينتقل الشاعر صالح جانكو إلى فسحة الألم التي استوطنها نتيجة خوضه معارك الحياة، واندماجه الكليّ فيها حاصلا منها على الكثير من الخبرة، التي وضعته في مصاف الفلاسفة وحكمتهم، يتحدث في قصائد هذا الباب من الديوان عن الراحلين، العناوين كلها تحيلنا إلى الدهشة، إذ أننا نكتشف في ما بعد أفكارا مطروحة في المتن لا تتطابق مع العنوان البسيط “اغتصاب”، “يا راحلا إلينا”، “في انتظار المساء”، “الحقيقة في ضلالها”.
هذه العناوين غاية في السردية والبساطة ولكنها لا تعبّر عما حمله المتن من إدهاش. الشاعر لا يتوقف عن إدهاشنا، ففي الباب الثالث يكمل ما بدأ به، من عنصر الدهشة والتساؤلات المهمّة جدا، تساؤلات ذات صلة وثيقة بذاته والذوات الأخرى، التي يتماهى معها في معادلات كيميائية جلّها غير متكافئة، فيبدأ كل القصائد بكلمة “غفلة” ربّما هذا الأسلوب هو نمطه الخاص به، والذي يرغب في أن يعرف من خلاله، على أن محمود درويش كان في بعض قصائده سبّاقا إلى ذلك، فقد كان يعنون قصيدته بجملة يبدأ بها القصيدة “انتظرها- هكذا”.
الملاحظ من خلال العناوين أن هناك أيضا فاصلا غير مرئي بين العنوان الرئيسي والعناوين المنضوية تحته، حيث تشكل جسرا بين القارئ وبين القصيدة التي تأخذه منه.
ثم تأتي قصيدة “غفوتها”، التي يعتقد القارئ من نمط كتابتها في الفهرس، أن لها مكانة خاصة عند الشاعر، ولكنها لاتملك ما يميزها كأسلوب ونمط قصيدة عن غيرها بصورة منطقية “إن كنت تحيا من أجلك/ كن كما كنت ثوبا تمزقه شظايا/ النزوات والمواعظ/ اقرأ ما شئت من الرسالات السماوية والأرضية/ لتكتب شعرا دون ظلال”.
”، بهذه الحقيقة الجليّة، يبدأ الشاعر والباحث الكردي السوري صالح جانكو ديوانه الأول، الموسوم بـ”هكذا أرصد غفلة الحكاية”، وهو باكورة أعماله، الذي تأخّر أكثر من عقدين ونصف من الزمن، ليقوم بتلك المغامرة كما يصفها الشاعر، على أن كتابة الشعر مغامرة أدبية وفكرية، ومن ثم فالمغامرة الأكبر بالنسبة إليه هي الإصدارات التي ستخرج عن سيطرة الكاتب وتعديلاته الدائمة.
ديوان”هكذا أرصد غفلة الحكاية”، للشاعر صالح جانكو، يقع في 130 صفحة من القطع المتوسط، الصفحات مكتوبة بالكامل ومليئة، وفق أقسام محددة حسب نوعية القصائد ومبتغاها وفكرتها.
جاء على ظهر الغلاف قول الشاعر “أرصد النهايات، وأعشقها/ حين أفتقد البداية، لأكتب سفرا/ لرحلة هيأت لها جواز سفر/ لا يحمل اسمي/ لأقدّم أوراق اعتمادي/ إلى غربة مازالت تسكنني/ وأبحث لها عن وطن”. الأقسام هي مجموعة عناوين عريضة، تحتوي في متنها عناوين أخرى كثيرة ومتنوعة، لكنها تصبّ في مصبّ العنوان الرئيسي.
إلا أن قسم المراصد يأخذ الحيز الأكبر من الكتاب، إذ يبدأ الشاعر ديوانه بقصائده المعنونة بالمراصد، فيبدأ كل قصيدة بكلمة “أرصد”، حتى يتبدّى لنا من خلال تتبع مراصده، أنه يرصد وجدانه وهزائمه وانكساراته وأبواب الحياة، يرصد البيارق ويرصد الموت والليل والريح، حتى ينتهي بباب أخير سماه “النهايات”.
الملاحظ أن هذه القصيدة لا تختلف عن باقي القصائد التابعة لها وفق هذه العناوين “وتر” و”انتظار” و”غياب” و” نمل الحنين” و”قطاف الحرائق” و”يوم الحساب” و”أباريق الضوء” و”مرفأ للختام”.
كل تلك القصائد تتّحد في الفكرة المشتركة بين قصيدة وأخرى، والتي يعبّر عنها الشاعر وهي فكرة “الغياب” ولكن بمفردة مختلفة، حتى لتبدو كأنّها سيرة ذاتية تروي حدثا مباغتا لروح الشاعر.
ثم يختم الشاعر ديوانه “هكذا أرصد غفلة الحكاية” بباب أخير سماه “رهانات اليقين”، العنوان في حدّ ذاته يبدو رهانا، إذن فعلى ماذا كان يراهن الشاعر؟ وهو يضمّ تحت لواء هذا الباب القصائد “فراغ” و”جسدي” و”جغرافيا التاريخ” لنكتشف أن هذه قصيدة الأخيرة هي رهانه، لكنه رهان على الأمكنة بتاريخها وتداعياته.
“هكذا أرصد غفلة الحكاية” ديوان شعري، لشاعر برع في التلاعب بالمفردات ومرادفاتها وتشظيّاتها اللونية، وبرع في استحضار الذات الإنسانية اللامنتمية، إلى ساحة الاختبار، ليشعر القارئ أنه أمام أنشودة من أناشيد الحياة والموت. العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.