بِحَارُ الشيخِ الأحمَرْ / جوان تتر
فوقَ التلَّة, عبرَ ذلكَ الأفُقِ اللامرئيّ البعيد, يتناهى إلى سمعِ الوالدة نبأ وفاة الشيخِ الأحمَر, الكلُّ غارقٌ في الضباب, صوتُ العجوزِ ينسابُ كسيلٍ قويّ:
” الغابَةُ غارقةٌ في الدماء والليلُ يبدو أشدَّ كرماً منكُم أيُّها الريفيّونَ الأغبياء, الضباب أرحمُ من قلوبكُم الكَفيفة ولا أحدَ يتذكَّرُ محاسِنَ الشيخِ الأحمَر..”
عبرَ النَّافذة يسترقُّونَ السمع وليسَ من مجيبٍ لذلكَ النواحِ القريبْ, شيءٌ ما كذاكرةِ طفلٍ غضِّ الخيال يبدو جليَّاً:
قتلوا الشيخَ الأحمَر وهو يربتُ على كتفِ مراهقةٍ مسحورَةٍ كانت تهوى اللَّعِبَ بالدُّمى!!
” وما شأني أنا, فليمُت الجميع”, هكذا يصرخُ الأبُ من المرحاض وصوتُ الماءِ يطفو على كلِّ صوتْ, ” سيأتيكُم يومٌ تشربونَ فيهِ الماءَ من أباريقِ المراحيض النتنة كالكلاب, لا, الكلابُ وفيَّةٌ إنَّها لا تفعلُ ذلك” يضيفُ الأبُ دونما رحمةٍ في تهجيتهِ للحروفْ كاملَةً حرفاً حرفاً وهو يحرِّكُ يديه باحثاً عن الحجرِ لينظِّفَ بقايا تغوّطهِ العميق, مُحدِّثَاً نفسه: الأحجارُ هذهِ أشرف منكُم.
تبدو العائلةُ الريفيَّة في ذلك المشهَد الغرائبيّ مثلَ قطعةٍ لروايةٍ سحريَّة تشبهُ الكوابيس في سطورها وسطوتها, لا أحد يعي ماذا يحصُل في الخارج, صوتُ العجوزِ يرتفعُ شيئاً فشيئاً: لقد قتلوا الشيخَ الأحمَرْ وهو يدافعُ عن سحركُم أيُّها الخَوَنَة, ماتَ الشيخُ الأحمر وهو يدقِّقُ في ذكرياتِكُم, بيتاً فبيتاً, هبّوا إليهِ, إلى الروحِ النقيَّةِ, هبّوا إلى الشجرةِ العظمى على مدخَل القرية.
//
مدخلُ القريَةِ, شيءٌ ما يشبهُ الدخولَ إلى مسرحٍ, كادرٌ مغطَّى بأشلاءِ جثثٍ, بينهم جثَّة الشيخ الأحمَر, يتقدَّمُ (فارو) القارئُ الأبرعُ للقرآن في كلِّ القرية, يقلِّبُ جثَّة الشيخ الأحمر فاحصَاً الملامحَ بدقَّةٍ عجيبة, يهزُّ رأسهُ متأسِّفَاً وكأنَّهُ اكتشفَ للتوِّ شيئاً مريعاً: ” لقد قتلوهُ أخيراً, لم أشكّ لحظةً في أنَّهَم سيقتلونَه” ومن ثمّ ملتفتاً إلى العدد القليلِ من البشر الواقفينَ كالدمى: نعم, قتلوهُ أيُّها الأوباش وحلَّتِ اللعنةُ علينا, ماذا ستفعلونَ الآن؟
لا أحدَ يتفوَّهُ بكلمةٍ, تكادُ تكونُ ملامحُ الجميعِ مدهوشَةً وكأنّ خرابَاً ما يرفرفُ في الطريق, ” اقطفوا أزهارَ الأقحوان واطحنوهَا, الشرُّ قادمٌ أيَّها الريفيّون, إنّي أُبصرهُ قادماً, اقطفوا الأقحوانَ واهربوا كي لا تموتوا”… هكذا يصرخُ (فارو) وهو يلطمُ وجههُ بقسوةٍ صارخة, لا أحدَ يعي ما يحصُلْ, فقط طفلٌ أشقرٌ صغير واقفٌ يتأمَّلُ المشهدَ مبتسِمَاً ومن ثمّ يديرَ ظهرهُ ككهلٍ ويمضي نحوَ الأفقِ البعيد.
//
صباحٌ غرائبيّ, لا يشبهُ أيّاً من الصباحاتِ العتيقَةِ للقريةِ البعيدة, لا أُنسٌ يمشي بينَ الأزقَّة, لا دلالةٌ ما على الحياة.
أينَ (بوُر)؟ تقولُ الوالدةُ للأبِ المستلقي على السريرِ كجثَّةٍ هامِدة, يستيقظُ موبِّخَاً:
” وأين سيكون ابنكِ (بوُر), إنَّهُ ليسَ طفلاً عاديَّاً يا امرأة, ألف مرَّةٍ قلتُ لكِ إنَّهُ ابنٌ للشياطين”
تمتعضُ الأمّ: ” وأيُّ شيطانٍ ركبك وأنتَ تركبُني في تلكَ الليلةِ السوداء؟” تقولُ..
//
في هذا الفضاءِ المبعثَر يسيرُ (بوُر) بسنواتهِ القليلة وكأنَّهُ رجلٌ في الثمانين, كانَ (بوُر) في ليلِ ولادتهِ كهلاً, هكذا أسرَّ الشيخُ الأحمر ذات يومٍ لوالدهِ الأحمق في نظرِ أهل القرية الصغيرة, كانَ الوالد يضحكُ لكلام الشيخ وينعتهُ في سرِّه بالمهُستِرْ الخَرِفْ!!
لا جدالَ في أنَّ (بوُر) لم يكن ككلّ الأطفال, بل إنَّهُ كان يتفوَّقُ على أعتى العُتاةِ في كلّ القرى المجاورة, كانَ من عاداتهِ أن يبقى ساعاتٍ واضعاً يدهُ خلفَ ظهره أمام البئرِ الواقع نهايةَ القرية, ساعاتٍ وهو يفكّر ناظراً إلى عمق البئر وهو شاردُ الذهن, يخالُ إلى النَّاظر إليه أنُّهُ تمثالٌ, كان يتراءى لهُ الشيخُ الأحمر مراتٍ عدَّة وفي أشكالٍ مختلفة, كانَ يقولُ له همسَاً: أهلكُ قتلوا ذكرياتهم وأنا من يحفظها عن ظَهرِ قلب, لا تدع الذكريات تموتُ إنَّها حياةٌ ثانية تنمو على مَهَلٍ.. كانَ الصوتُ يتردَّدُ ببساطةٍ وكأنّ طفلاً ما يتبوَّلُ في ساحة البيت وأبواهُ ينظرانِ إليه مغتبطَين: لقد شبّ وباتَ يشعرُ بحريَّته, لإنَّهُ يفعلها أينما شاء!! .. ولدُنا حرٌّ يا امرأة … ولدُنا حُرّ .. هكذا كانَ يصرخُ الأبُ مسروراً.
( مقطع من رواية بنفس العنوان/قيد الطبع)
نشرت في صحيفة Buyerpress في العدد 15 بتاريخ 2015/3/15
التعليقات مغلقة.