البيان النقدي ضد تودورف في «إدانة الأدب» لعبد الرحيم جيران

224

رسم12qpt869 أرسطو في كتاباته مهمة التعبير الفني الجميل، واضطلعت التراجيديا بمهمة تنقية الأحاسيس، لكن ما هي حدود الأدب، وهل له الحق في الحديث عن جميع المواضيع بما في ذلك المواضيع التي لها علاقة بالدين، نستحضر في هذا الصدد ما كتبه نيكوس كازانتزاكي «المسيح مصلوب مرة أخرى»، وتشيخوف في «علاقة المسيح مع مادلين المجدلية». ولقد كتب كونتغراس سيرة ذاتية اعترف فيها بأنه كان عميلا للمخابرات النازية، فلقي معارضة شديدة. إننا إذن أمام ازدواجية الغرب في التعامل مع ذاته ومع الآخرين. لكن ما هو مثير أن يتنكر الأدب لتاريخه، ومن قبل من أسهم في هذا التاريخ، ويجب أن نتأكد من أن التاريخ تراكم لحلقات، فما أنتج من أدب، ولغة واصفة تخصه، هو حلقات يفضي بعضها إلى بعض، قد نتجاوز بعضها، لكن هذا الذي نتجاوزه هو ما مهد للاحق المتجاوِز. مناسبة هذا القول صدور كتاب تودوروف «الأدب في خطر» الذي يتنكر فيه لتاريخ نقدي هو من أحد صناعه، وصدور كتاب «إدانة الأدب» لعبد الرحيم جيران، الذي يعد ردا سجاليا عليه.
1- «الأدب في خطر» ولوغوس النقد:
يقدم كتاب «إدانة الأدب» لعبد الرحيم جيران مقترحاته انطلاقا من وعي نقدي يفصح عنه صاحبه في بداية الكتاب بقوله» «إن حسن النوايا قد ينتج نقدا بائسا، وحتى لا نحشر كتاب تودوروف ضمن هذا النوع من النقد نكتفي بالقول: «إنه مشروع يثير الكثير من الأسئلة التي تدعو إلى المراجعة وإمعان النظر، ولاشك أن شيئا أكثر من حسن النية هو الذي يتخفى وراء هذا العمل الذي يقف في المنزلة بين المنزلتين: منزلة التقرير، ومنزلة الوصايا».
إن السؤال حول الأدب وجدواه سؤال قديم، ولعل البحث عن أصول هذا السؤال يدفعنا صوب البحث عن أصل الأصل، وبالتالي الدخول في لعبة مرآوية، لكن سارتر يسعفنا في العثور على بداية حديثة لهذا السؤال عبر مؤلفه» ما الأدب». ولا شك أن هذا السؤال يثاراليوم أمام واقع يعرف مأساة الفقر، وانتشار الفيروسات القاتلة المعدلة مختبرياً، وحروبا دموية ونكوص القيم الإنسانية، وبالتالي فما هو دور الأدب والأديب في رصد ومواجهة هذه الاختلالات؟
لقد تساءل أفلاطون عن دور الفيلسوف في المدينة، وأقصى الشعراء من جمهوريته إحساساً منه بالتهديد النابع مما سماه بالأخيلة المضللة، والتهديد نفسه ينبع اليوم من أخيلة جديدة مرتبطة بالفضاء الرقمي وخطر الصورة التي تعمل على تسطيح الوعي. إن الأدب اليوم مهدد حسب صرخة تودوروف الناقد وعالم اللسانيات البلغاري الذي قدر له أن يولد في مدينة صوفيا البلغارية سنة1931. ويعيش في فرنسا منذ سنة 1963 ليكتب عن النظرية الأدبية، وتاريخ الفكر، ونظرية الثقافة. وهو الباحث الذي بدأ حياته شكلانيا وترجم كتاب نظرية الأدب للشكلانيين الروس، وانظم للبنيويين إلى جانب رولان بارث وجوليا كريستيفا، وكان من المؤسسين لمجلة التواصل ومدير collection poétique في دار النشر seuil إلى جوار جيرار جينيت. وكان تودوروف المهووس بتحليل الخطاب الأدبي والبلاغي الغربي يغير اهتماماته دائماً، فاهتم بالتشكيل، ثم بعلاقة اللغة بالواقع، وعلاقة النقد بالكتابة الإبداعية. وهو ما تترجمه كتبه: من «نحن والآخرون»، مروراً بـ»أخلاق التّاريخ»، و»الحياة المشتركة»، و»الفوضى العالمية الجديدة»، و»الأدب في خطر»، وانتهاءً بـ «روح الأنوار».
ولقد أثار صدور كتابه La Littérature en péril اهتمام الأدباء والنقاد على حد سواء، خاصة بعد الترجمة التي قدمها عبد الكريم الشرقاوي والصادرة عن دار توبقال للنشر المغربية تحت عنوان «الأدب في خطر»، التي عمد صاحب كتاب إدانة الأدب إلى تعديلها بـ: « الأدب مهدد» لأن فعل الترجمة برأيه يجب أن يرتبط بالسياق وليس بالكلمة أو الجملة فحسب. والأدب مهدد من الشكلانية التي ترى أن دور الأدب هو التركيز على التقنية بكافة وسائلها، والعدمية التي ترى استحالة تغيير الواقع والعالم، والأنانة أي القول بأن «الأنا الذاتي» هو الكائن الوحيد الموجود. وكتاب «إدانة الأدب» لعبد الرحيم جيران يشير إلى الفجوات التي تركها تودوروف لأن الأدب ينفلت دوما من كل التصنيفات والأحكام الجاهزة.
2- تودوروف والمأزق الإبستومولوجي:
يكشف كتاب إدانة الأدب لعبدالرحيم جيران استراتيجية النقاش وفق قضايا محددة مثل الجمع بين هدفين مختلفين في كتاب تودوروف «الأدب في خطر»؛ ذلك أن تدريس الأدب له شروطه الخاصة، والتنظير الأدبي له سياقاته الخاصة؛ إذ كيف يمكن مقاربة الأدب إبان لحظة تدريسه من دون التوفر منهجيا على حلول عملية تكشف لنا الطريقة التي ستكفل النجاح لما يطرحه تودوروف من مهام، فضلا عن قضايا أخرى يثيرها الباحث من قبيل تكرار تودوروف لما هو معروف من حجج على مستوى علم الجمال، وعلاقة الذات المعرفية بالقضية، وموضعة الذات المعرفية نفسها قياسا إلى موضوعها، وجمع ما لا يجمع من خلال محاولة الجمع بين المقاربات المختلفة في دراسة النص الأدبي، والإلحاح على السير الذاتي، على الرغم ممّا يطرحه هذا الأمر من احراجات ابستمولوجية. ذلك ان تعليل وظيفة الأدب لا يرتبط بالعواطف ولا بالرأي، وإنما بخبرة مؤسسة معرفيا وعلى نحو علمي. ويعيد عبد الرحيم جيران طرح أسئلة مقلقة من قبيل مَنْ مِنَ التلاميذ يتوجه إلى الدراسة الأدبية، وما هي تحدراتهم الاجتماعية؟
ويستحضر صاحب «سراب النظرية» كتاب «البويطيقا» لأرسطو لأدراك أن التنظير الأدبي لا يقل خلودا عن النصوص نفسها، مشيرا في الوقت نفسه إلى إشكالية ابستمولوجية ترتبط بالمتصل والمنفصل في العلوم الإنسانية، عادًّا كتاب تودوروف نوعا من الاختزال في النظر إلى مفهوم الأدب وقضاياه، بحصر معضلاته في شؤون تدريسه. «لو كان المراد في الأدب توصيل معنى ما لهان الأمر، ولوجد المرء في اللغة التي يستعملها كل يوم الوسيلة الناجعة، ولكن الأدب يقول شيئا آخر غير المعنى، شيئا يجد علته في ما ينقص المعنى ذاته من معنى، وفي قول عجز اللغة، وهي تقول نقص العالم في إظهار علته وحقيقته. ويقول كيف يمكن لم شتات العالم»..
يذهب كتاب إدانة الأدب إلى تأزيم نص تودوروف انطلاقا من الكشف عن تهافت المقدمات التي بنى عليها نقده للممارسة النقد في علاقته بالتدريس منبها إلى الانزياح الذي أقدم عليه تودوروف، إذ كيف يثبت أن الأدب مسؤول عن الوضع الإنساني الحالي، والحديث عن نهاية تاريخ الأفكار والإيديولوجيات، وعزلة التفكير، وغياب المعيارية، والانفتاح على النسق الكلي للأدب واستثماره لصالح الذات، من دون تبين أن الأدب هو صيرورة غير مكتملة. ومن ثمة يقيم كتاب «إدانة الأدب» صرحه على الدعوة إلى أن يأخذ الأدب استحقاقه الشامل، وهو برهان على أصالة الأدب بوصفه محايثا للوجود الإنساني.
ولقد رصد عبد الرحيم جيران في كتابه الفجوات والتمفصلات التي تركها كتاب «الأدب في خطر»، وإلى المأزق الابستمولوجي لتودوروف، خاصة أثناء حديثه عن المتصل والمنفصل في تاريخ الأدب وفكر الأنوار. ويسعفنا – هنا والآن – فريديريك نيتشه في خلخلة ثنائية الظاهر والخفي، وفي أركيولوجية الأدب. إن تودوروف وهو يحاول تعجيز الأدب، ولعب دور الضحية عن طريق توسيط مظاهر الخلل عبر ما سماه بإعادة اللحمة بين الأدب والحياة، وجعل الأدب وكأنه نهاية للمصير الإنساني لصالح دعاوى مطبوعة بالذاتية، حيث يناقش تودوروف ما سماه بنشوء علم الجمال الحديث، منتهياً إلى أن الأدب ليس مرتبطاً بعلاقة ذات دلالة مع العالم، وبالتالي فالحكم عليه ليس له أن يأخذ في الحسبان ما يقوله لنا عن ذلك العالم.
إن ولع تودوروف بتاريخ الأفكار الذي يدعو إليه في كتابه جعله يتعقب مسألة الأدب في التاريخ؛ إذ يناقشها – تبعا لرؤيته هذه ابتداء من أرسطو «المحاكاة» مرورا بكل من هوراس «المتعة والفائدة» و»بوالو» لا شيء أجمل من الحق والحق وحده معشوق»، ثم أوغسطين الذي نقل المقولات الأفلاطونية إلى علم الجمال، فالألماني باومجارتن الذي ابتدع مصطلح علم الجمال سنة 1750، وعرج فيما بعد على جماليات عصر الأنوار، وعلم الجمال الرومانسي، والحركات الطليعية التي ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر (سلينغ، نوفاليس)، والتركيز على بودلير ليصل في الأخير إلى القرنين العشرين والواحد والعشرين؛ حيث يهيمن الثالوث: الشكلانية والعدمية والأنانية.
وهذا التصنيف الذي يقدمه تودوروف الاختزالي لتاريخ الأدب المتعدد والمتنوع يؤشر إلى المأزق الإبستمولوجي الذي سقط فيه، وهو يشيد فخاخه للنقاد عبر السؤال عن مآل الأدب، ومآل المستقبل، وهو في الأصل محاولة للبحث عن النموذج. وتودوروف يدعونا إلى تقبل نموذجه، ونسيان أن الأدب ممارسة منظورية، لا يكفي فيها تغليب وجهة نظر منهجية واحدة، وأنه ليس تجديلا بين المعاين الواقعي وما يتجاوزه، ويتمثل في إعادة إنتاجه تخييلا. والمعول عليه فيه هو هذه المجاوزة، وبأي وسائل تتم، وطرائق، فمخصوصية الأدب تكمن في الطريقة التي يقوم بها نقص العالم، لا في ما يقوله، لأن مثل هذه الوظيفة الأخيرة يمكن لخطابات صريحة أن تقوم به على نحو فعال. ولأن الواقع ملتبس، ومعناه يكمن في نقصه، يحتاج الإنسان إلى الأدب ليقوم بطريقته العالم.
وكتاب «إدانة الأدب» شروع فعلي في إعادة فهم مهمة الأديب والأدب عبر التنبيه إلى الأحكام التي يتضمنها «الأدب مهدد» لتودوروف. فهذه المهمة لا تتمثل في سرد انتصارات الأدب، بل التنبيه إلى شيء خطير يجب الحذر من السقوط في مغالطاته، فالدعوة إلى استدارة الأديب استدارة كاملة نحو الحياة أو الواقع الأشمل ستكون محكومة بنزعتها الميتافيزيقية. فالدعوة يجب أن تتوجه صوب الحضور بدل الذوبان في واقع متوهم يضاعف الغياب، وهي شبيهة بدعوة مارتن هيدغر لمواجهة الموت المتقدم. فالأدب هو أصل الفعل الإنساني لأنه مواجهة دائمة ومستمرة مع الزمن في الداخل والخارج. إنها الإجابة التي عجز عنها جلجاميش في محاولته الانتصار على الموت؛ ذلك أن الكتابة هي الانتصار الفعلي على العدم، لأنها تأكيد للكينونة وللوجود هنا والآن.
3 – البيان النقدي
يتسم كتاب «إدانة الأدب» لعبد الرحيم جيران بطابعه السجالي، وبرؤيته الابستمولوجية المخصوصة الواعية للشرط التاريخي للأدب، ولمنعطفاته الحاسمة. وهو كتاب ينطلق من قناعة مفادها أن الأدب إشكالي؛ مما يتوجب معه عدم النظر إلى الموضوع من زاوية نظر شخصية مسبقة تؤطر الموضوع والنقاش حوله، بل النظر إليه من كونه ذا طبيعة إشكالية تحتم على الباحث فحصه بدءا من تعدد معضلاته، وليس الأدب ممارسة أحادية الفعل أو افتقادا للجوهر.
إن تودوروف وهو يكتب «الأدب مهدد» كان يشارك في تفخيخ الأدب عبر خلخلة شبكة علاقاته: الذات- الآخر- التاريخ- المعنى- النص- القواعد – الفكر- الكينونة – المحايثة – المعرفة. ولعل دعوته لأن نترك للأديب مهمة تدبير شؤون الأدب نابعة من رؤية ايديولوجية واضحة تستند لتصور ميكانيكي لا يصمد أمام تطور الدرس الأدبي والنقدي، خاصة أن تودوروف نفسه ساهم في تطوره المرحلي نحو بناء أسئلة شائكة تتعلق بفهم كيف ينتج. فالمعول عليه في الأدب، ليس وظيفته فحسب، وهذه هي المقدمة الأساس التي بنى عليها تودروف كتابه، وإنما أيضا كيف ينتج، ويصوغ عوالمه، وكيف يضع نفسه في هيئة مشروع منفتح على الزمن والكينونة، وحتى ما انتقده على مستوى البعد الشكلاني في الكتابة، فهو يبدو رجعيا محافظا، يحاول أن يفرمل حركة التجديد، وينسى كما يثبت ذلك كتاب إدانة الأدب أن الطريقة الشكلانية تقول الواقع بطريقتها الخاصة، ولربما كانت هذه الطريقة أكثر نفاذا إلى العالم من النسخ المطابقة له. فتودوروف أفلاطوني النزعة في هذا الجانب، وبارمبنيدي (ثبات النموذج)، لا هرقليطي (تغير النموذج).
وتكمن خلف كتاب «الأدب في خطر» أسطورة النهاية، وصدى الدعوة لتسريع تاريخ الأدب بوصفه ميتافيزيقا عاجزة عن التحقق. لكن الأدب سيظل ممارسة مبنية على تجديد صورته، وفعاليته، وحضوره في الزمن، فهو صوت للاختلاف على حد تعبير عبد الرحيم جيران، كما أن يوتوبيا ملاصقة الأدب للواقع، والبحث عن صداه فيه تعد استعادة لنقاش قديم ناجم عن الخوف الذي تستشعره الدوكسا الرسمية من آفة الالتباس. ويأتي كتاب «إدانة الأدب» ليمنح الأدب حقه في الاعتزاز بمنجزاته، وبتاريخه الخاص. وفي انتظار ما يحدث فإن العماء الشامل الذي يهددنا به تودوروف ليس إلا صرخة في واد تناقض الأمل الذي هو خصيصة فكر الأنوار الذي يتخذه تودوروف منطلقا، إن محاربة المناهج- خاصة في منطقتنا العربية- يعد دعوة إلى محاربة ما هو عقلاني، وما هو عقلاني يعد حجر الأساس في فكر الأنوار.

عبد السلام دخان/ عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.