دانتي «الجيو ـ روحاني» إشارات منيرة من أرض الموتى

22

1 ـ
يحدث 21qpt868الآن في جغرافياتنا القريبة والبعيدة، وفي أزمنتنا الواقعية والرمزية، ما يستدعي حضور شخص من عياره العالي. يحدث الآن من الانكفاءات والخيبات والانكسارات والزلازل والتشكلات الصعبة وغير المضمونة ما يفاقم الحاجة إلى بصره الثاقب، وسمعه العميق وقلبه الرؤوم، وتشخيصه غير المهادن وكلماته السحيقة، وحزنه الفهيم وفرحه العظيم.
ويحدث الآن من الانطفاءات المتحالفة ما يستنفر مشاعله العنيدة، ومن الحراسات المدججة بأعتى التقنيات ما يستدعي الاسترشاد بمنافذه ومسالكه وأفاريزه المحفورة أسفل أراضي الروح، ويحدث ويتوالى من الأسيجة والجدران والأبواب الصماء ما يتطلب النهوض، من دون إبطاء والتقاط المفاتيح الذهبية وخرائط العبور اللامعة في ثنايا وتجاويف نشيده الهادر الذي تحالفت في تغذية وتوجيه مجراه الملحمي قوى الأرض والسماء كلتيهما.
ـ 2 ـ
لأن دانتي ليس اسما إنه مجال جيو- روحاني متشعب التضاريس، متداخل الأنفاق، وضاج، كممالك المتصوفة الواصلين بالهدايا والمخاطر والاختبارات والأعياد.
والكوميديا الإلهية ليست كتابا.
إنها قوة شفائية تشير إلينا من قلب ظلماتها الخاصة الشبيهة بظلمات راهننا، كما لو أن مجالاتنا الوجودية الحالية وخرائطنا الاجتماعية وأنساقنا السياسية، وشبكة الذهنيات المتحكمة في هذه وتلك، لم تبرح بعد حافات القرون الوسطى التي هبط إليها دانتي، محفوفا بالحب الماورائي لبياتريتشي الراحلة، ليصعد منها، وسط الآلام والمباهج الحدودية، بنشيده الكبير.
كما لو أن ما نشهده ونخبره الآن من تغول للأجهزة الحاكمة والرقابات اللصيقة، وما يُدبَّر ويحاك، ليلا ونهارا، من طرف الأنساق الاقتصادية وتوابعها الإعلامية، ومن طرف جماعات الضغط بمختلف أصنافها وتراتبياتها وسلاسل الوسطاء والمرتزقة العاملين في فلكها، وما يتناسل من قلاع الثراء الوقح ومدائن البؤس المعمم في أطرافها، وما يزمجر في مجالاتنا غير المأمونة من عنف وإجرام وبلطجة كبيرة وصغيرة يقودها ويوجهها، بالريموت كونترول، أسياد حرب يختطفون المجتمع ويرهنون الاقتصاد ويتسلقون السياسة، كأن كل هذا الهدير الساحق والماحق، والمدجج بأحدث التكنولوجيات وترسانات التحكم والغلبة، وما ينتجه في كل دقيقة تمرُّ من مظالم وخسائر في البشر والشجر والحجر، مجرد نسخة أكثر تنقيحا وترويعا لشريط الرعب القروسطي الذي نهضت الكوميديا الإلهية، من داخل العزلة غير البشرية التي اختبرها كاتبها في روحه، للرد على منتجيه وفاعليه معا، من أمراء فاسدين مفسدين، وبابوات مرتشين، ومرابين ولصوص، وقتلة متوّجين، ومرتزقة ومتملقين.
الكوميديا الإلهية ليست كتابا… إنها أطول صك اتهام عميق في زمنها الشرس، وأطول منطوق أحكام بإدانة أو تبرئة جمهرة من أبرز المعروضين على أنظار القضاء السماوي.
ـ 3 ـ
إن بعض الهدايا، شأن بعض الكلمات، خرائط مياه باردة محروسة في هجير البيداء، وإشارات عبور مأمون في أحراش المفاوز الواقعية والمجازية.
هكذا فهمت الأمر حين تفضل الصديق العزيز الأستاذ محمد برادة، قبل سنوات طويلة، بإهدائي جزأي «الجحيم» و «المطهر» من الكوميديا الإلهية بعد عودته من سفر إلى القاهرة، وحين ستتفضل، بعد ذلك بسنين، صديقتي الناقدة العراقية فريال جبوري غزول، أستاذة الأدب الأنكليزي المقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بإهدائي جزء «الفردوس» المكمّل للصرح الدانتي الشامخ، عند زيارتها للمغرب بدعوة من ندوة علمية.
كان لكلتا الهديّتين المتوائمتين مفعول جيولوجي عميق الرجع بداخلي، لأنهما استجابتا لضراعة باطنية بحيازة وقراءة الترجمة العربية المتميزة والأركيولوجية التي أنجزها المترجم المصري حسن عثمان، بعد طول ترحال وتدقيق وتنقيب واقتفاء للآثار والينابيع الدانتية في لغتها الأصلية، وهي الترجمة التي كنت بحثت عنها طويلا، من دون جدوى، في العديد من المكتبات بالمغرب، بعدما لم تشف غليلي بعض أناشيد الكوميديا في ترجمتها الفرنسية، وكأنما ترسخت في قرارة نفسي قناعة غامضة بأن دانتي، باشتعاله الروحاني وشساعته الجوانية وغوره السحيق أقرب إلى الكيمياء الملحمية للغة العربية منه إلى النسقية الديكارتية للفرنسية التي لم يزوبع حدودَها، ببدائيتهم العالية، سوى بعض الشعراء من عيار لوتريامون ورامبو وسان جون بيرس ومالارميه ولوران غاسبار.
ـ 4 ـ
يتمثل الدرس الأكبر للكوميديا الإلهية في تأكيد دانتي، من دون مواربة، على أنه من دون الشعر ممّثلاً بفرجيليو الذي استدعتْه بياتريتشي من أعماق الجحيم لنجدته في مدخل الغابة المظلمة، ومرافقته في سفرته الخطرة حتى نهاية المطهر، وبدون الحُبّ مجسَّدا في بياتريتشي نفسها التي ستستقبله في الفردوس الأرضي لتصعد بصحبته إلى معارج السموات، ما من اجتياز ممكن لحلقات الجحيم التسع وأفاريز المطهر التسعة، وما من ارتقاءٍ سعيد للسموات التسع حتى سماء السموات.
فعلى امتداد الأيام السبعة ولياليها التي استغرقتها هذه الرحلة الماورائية المهتاجة التي بدأت في مساء الخميس وليلة الجمعة 7 -8 أبريل/نيسان 1300 وانتهت يوم الخميس 14 أبريل ترابطت وتعاضدت في أغوار دانتي كلٌّ من بصيرة الشعر وقوة الحب لإسناده والأخذ بيده في المجازفة الكبيرة التي أقدم عليها. إنني أتذكر ها هنا التحذير العميق الذي أطلقه لاحقا الشاعر جيرار دو نرفال بعدم إيقاظ الموتى إلاّ بعد الاستعداد لملاقاتهم، وهذه تحديدا هي المهمة الجسيمة التي كان على دانتي مواجهتها، والتي ما كان له أن ينهض بأعبائها غير البشرية من دون إبرام ذلك «الميثاق مع الموت» الذي يعتبره كاستانيدا في كتابه الفخم «قدرات الباطن» أساس كل عبور من هذا العيار وأساس اجتياز الحياة نفسها. فــ»الكوميديا» إيقاظ شاسع لشعب الموتى التاريخيين والميثولوجيين على حدِّ سواء، ولقاء مباشر، أليم تارة وبهيج طورا، مع جمهرة المعذبين الأشقياء، ومع زمرة السعداء المنعَّمين، رجالا ونساء، ملوكا وفرسانا ورجال دين، عشاقا وحكماء وأنصاف آلهة وجبابرة ومظلومين، وصلحاء وفاسدين من قاع المجتمع إلى الدوائر العليا للعروش الزمنية والدينية.
وهي، في إيقاظها وملاقاتها لهذه الديموغرافيا الماورائية، تتكشف عن رؤية مجهرية تخترق الزمن والخلائق والجغرافيات والذاكرة باقتصاد رمزي حاسم يمضي رأساً إلى العلائم الجوهرية الفارقة في كل وجه وجسم وخيال، ويذهب إلى حد تورية أسماء كثير من نزيلات ونزلاء الجحيم والمطهر والفردوس والاكتفاء بالإشارة إليهن وإليهم بالمأثور أو المشؤوم من أفعالهم وصفاتهم ومناقبهم أو مثالبهم الدنيوية، كما لو أن الموت الذي يحرر من كل قانون نضا عنهم الأسماء كأثواب وعلامات من نسج الأوفاق البشرية ليعرضهم عرايا أمام العدالة الإلهية.
ـ 5 ـ
كنت لا أزال بتازة، ضيفا بدائيا على أغوارها السحيقة، حين قرأت «الحياة الجديدة» لدانتي، وهو كتاب شفاف، ملتاع ونبوئي كان بمثابة رحم تخلّقت فيها والتمعت البذرة الحاسمة للكوميديا نفسها.
إذ في ثناياه النثرية والشعرية، الملتقطة لحالات انخطاف غرامي متمحور حول الحبيبة التي ستموت قبل أوان الموت، تجلّت على نحو تصاعدي تلك القدرة التحويلية التي منحها للشاعر الشاب حب بياتريتشي كقطب روحاني حرّك مجموع تضاريس «الحياة الجديدة» وصولا إلى المقطع السابع والأربعين والأخير الذي تعهد فيه دانتي بأنه، إذا مدّ الله في أجله، سيقول في السيدة الراحلة «ما لم يقله رجل في امرأةٍ من قبل»، فكانت «الكوميديا» هي المنجز العميق والعظيم الذي وفى فيه بوعده وبرَّ بقسمه، والذي صيغ، منذ أول بيت في الجحيم (في منتصف طريق حياتنا، وجدتُ نفسي في غابة مظلمة…) إلى آخر بيت في الفردوس (الحب الذي يحرك الشمس وبقية الأفلاك)، باعتباره سفراً اختباريا وتلقينيا واسترجاعيا حرسته وأضاءته القوّتان المتحالفتان للشعر والحب، وتلاحقت في شعابه وأوديته ومآسيه ومباهجه الأخروية مرجعيات العالم وما وراء العالم، وتعاقبت في طياته ومجاهله الامتحانات والبوابات والمفاتيح.
وعلى امتداد هذا السفر المهتاج، المخترق والمجتاز لجغرافيات الجحيم والمطهر والفردوس، بين الاستدعاءات الميثولوجية والوقائع التاريخية التي خبرها دانتي ورآها عيانا، وفي غمرة الانتقام الكبير الذي أنزلته قوى السماء بجموع الظالمين المفسدين من الساسة والمرابين والبابوات والملوك ومزيفي النقود وخونة الأوطان، ملقية بهم وسط المستنقعات المكفهرة وأجراف الجليد والقبور التي يتصاعد منها اللهب، وبين تأوهات وتنهدات التائبين المغتسلين في المطهر وترانيم وتسابيح الأبرار في معارج الفردوس، قال دانتي في بياتريتشي فعلا ما لم يقله رجل في امرأة من قبل، فأسبغ على هذه الغادة الفلورنسية، التي أحبها من جانب واحد وماتت في شرخ الشباب بعدما تزوجت غيره، صفات وقدرات بوّأتها مرتبة المرشدة الروحانية، والحكيمة العليمة بالأسرار، والحسناء المبهرة بجمال غير بشري، والقديسة الراحلة ذات الفضائل التي تجعل كلمتها مسموعة في رحاب السماء واسمها محترما في دركات الجحيم.
إنها نور ليل العالم ونجمة صبح الماوراء والزهرة الزرقاء التي حلم بها نوفاليس لاحقا تلمع في مشرق الباطن.
إنها باستعارة مفهوم إجرائي من دولوز وغاتاري في كتابهما الوصية «النجود الألف» صيرورة غرامية استوعبت الزمنين الدنيوي والأخروي وتعالقت معهما حدّ الاندغام في تجلياتهما المادية وكثافاتهما الإشارية. وككل الصيرورات الغرامية العميقة، كان الميثاق المطلق بين دانتي الحي وبياتريتشي الراحلة ذا مفعول سياسي في تدبير الأراضي الماورائية للكوميديا من حيث سلّم القيم والفضائل المعتمد في احتساب الآثام وتوقيع الجزاءات وإغداق النِّعم. فكل وجه، حتى لو كان راحلاً، سياسة عميقة ومجهرية كما يعلمنا دولوز وغاتاري.
ـ 6 ـ
لذلك، وسط كل هذا الهدير القيامي الذي يحبس أنفاسنا حاليا في كل شبر مربّع، غالبا ما يلتمع في أعماقي هذا التساؤل المستعر: ماذا كان سيكتب دانتي لو شاء له قدره الشخصي أن يوجد هنا والآن في قلب تصادم الأزمنة واشتعال الجغرافيات ودمار المجتمعات وانهيار المرجعيات؟ أي هيكلة أخرى للكوميديا كان سيتطلّبها ويقتضيها هذا الدّويّ المتلاحق الذي يهز في كل دقيقة تمر أركان المدائن والبنيات ويبعثر أشلاء الحيوات والذهنيات من أجل المجد الأسوَد للأوتوقراطيات والمنظومات المركنتيلية الطليقة في الغابات المحلية والكونية؟
أكيد أن الهندسة العامة لكل من الجحيم والمطهر والفردوس، بجغرافياتها الرمزية والسكانية وتركيبتها التضارسية ومنظومة العقاب والثواب المعتمدة فيها، كانت ستكون مغايرة، رؤياويا وطوبوغرافيا، لتستوعب وقائع ومجريات القرون السبعة التي أعقبت كتابتها والتي لم تبرح, كما قلت أعلاه, رغم الثورتين الصناعية والاتصالاتية المُعَولَمتين، ورغم ما لا يحصى من الانتفاضات والهزات الاجتماعية والثقافية، حافات القرون الوسطى من جهة سيادة العنف، وتغول الإجرام، وبوار السياسة، وشراسة الاقتصاد، وانغلاق الهويات، وبطش الرقابات، واستشراء الفاقة والمرض والخوف والسطحية والرداءة في المجالات غير المأمونة التي حللها، لحسن حظنا، مفكر نبيه غير متداول في العالم العربي هو بول فريليو.
إن المعنى الأعمق الأول لدانتي، هنا والآن، هو قدرة جهازه التلسكوبي اللاقط للأعالي والأغوار على الاستمرار ككاشف إشعاعي لتجاويف الشر وجذور الخير والنفائس المكنونة في أرض الشعر الموصولة بالحب كمحرك أكبر «يحرك الشمس وبقية الأفلاك» كما كتب في البيت الأخير من الفردوس.
والمعنى الأعمق الثاني للمهندس الهرقلي للكوميديا، هنا والآن، هو قابليته المتواصلة والفعالة من خلال كل الوجوه والظلال والأفراح والآلام والعناصر الميثولوجية التي أطلقها ومن خلال المفاتيح التي ألقاها من أجلنا في الدركات والأفاريز والمعارج، لأن ينهض كسلطة مضادة أو كابحة في وجه مفهوم السلطة نفسه بالتباسه الجيولوجي الذي تحالف فيه، منذ القدم، ولايزال يتحالف فيه البعدان السياسي والكهنوتي.
ومعناه الأعمق الثالث ـ وليس الأخير- هو درسه الكوني بما هو التقاط واستيعاب وتمثل للامتداد الوثائقي والخرائطي للعالم المعروف آنئذ من أجل بناء نسب ورؤية مرتحلين وجديرين بقامة الحلم الذي يسهر عليه وفيه كل من الشعر والحب، وكأنهما معا في عمق ذلك الليل الذي رآه دانتي، قبل سبعمئة وأربع عشرة سنة، مخيما على مراكش حين كتب في البيتين الأخيرين من النشيد الرابع من «المطهر»: «… وعلى السواحل/يخيّم الليل الآن على مراكش».

محمد الشركي / القدس العربي

التعليقات مغلقة.