لجوء في بلاد الراين
اللاجئ السوري كحدث تلفزيوني: «سوريا» البلد البعيد وجدانياً وجغرافياً عن أوروبا، أصبح نتيجة الصراع الدموي اليوم في قلب الحدث الدولي، ولم يعد السوري بحاجة لكثير من الشرح ليجعل بلاده مرئية في الذهنية الغربية، فالأزمة السورية صارت تتصدر نشرات الأخبار وعناوين الصحف وحتى الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.
قبل أسابيع عرض التلفزيون الألماني حلقة من المسلسل الشهير «موقع الجريمة»، تناول فيها موضوع اللجوء السوري في ألمانيا، من خلال شخصية الأم الفارة مع طفليها من سوريا، ومحاولتها الحصول على جوازات سفر مزورة من شاب سوري مقيم، سنكتشف معارضته للنظام تدريجياً من خلال كلمة «حرية» المكتوبة على جدران غرفته، ومن خلال شاشة التلفزيون التي تعرض في الخلفية مظاهرات الثورة السلمية الأولى، وتقاريرعن قصف طائرات النظام لمدينة حلب، ثم في النهاية عندما يلقى القبض عليه ويصرّح بأنه لا يتاجر بالبشر، بل ينقذهم من نظام استبدادي، ومن دون مساعدته لا أمل لهم في الخلاص، في إشارة مبطنة ربما إلى ترك المجتمع الدولي الشعب السوري يواجه مصيره وحيداً.
اللافت هو الصورة المقدمة للسوري بعيداً عن الكليشيهات المعتادة، فنتعرف مثلاً على شخصية الدكتور الناجح والمندمج في المجتمع الألماني، وعلى الصبية الموظفة بمظهر عصري ومتحرر. وفي هذا كسر للصورة النمطية التي يظهر فيها الرجل الشرق الأوسطي عادة في الإعلام الألماني كجهادي أو صاحب دكان بقالة والمرأة ربة منزل محجبة ومعزولة عن المجتمع الألماني.
شخصيات الفيلم وأحداثه تتداخل في ما بعد لتنسج حكاية بوليسية عن جالية سورية، تنقلب حياتها رأساً على عقب عندما يعثر على أحد ابنائها مقتولاً، ولنكتشف في النهاية أن القاتل هو أحد رجالات النظام والمتهمين بقتل المعتقلين تحت التعذيب. في إشارة إلى أنه في زمن العولمة لا مكان آمن مهما كان بعيداً، وأننا كبشر معنيين جميعاً بما يحدث على هذه الأرض من عنف وقتل وتشريد، فالاستبداد عابر للقارات، والظلم لا حدود تضبطه إلا معايير العدالة وحقوق الإنسان.
ولكن تبقى هذه الدراما التلفزيونية، كوة صغيرة تفتح في جدار من سوء الفهم واللامبالاة العامة تجاه ما يجري في سورية، حيث اللاجئ مجرد رقم، وسوريا خبر بارد ومكرر في نشرة الأخبار. وأقصى ما تسطيعه هو تحفيز ضمير المشاهد الألماني لطرح الأسئلة عن معاناة اللاجئ وعن السبب وراء لجوئه، فلا أحد يختار طوعاً أن يكون لاجئاً، وأسئلة مماثلة قد تقود لفهم أكثر للأزمة الانسانية ولتقديم المساعدة، التي قد لا تتجاوز ابتسامة تعاطف دافئة تقول: إنني أفهمك وأتعاطف معك، وهي قد تعني الكثير في صقيع التشرد والغربة.
واقع اللجوء السوري في ألمانيا
الهروب من سوريا نحو ألمانيا يمر غالباً برحلة شاقة قد تكون على متن قارب خشبي متآكل يعبر من ليبيا إلى إيطاليا، أو من خلال حافلة تعبر من اليونان مروراً ببلدان أوروبا الشرقية وصولاً إلى ألمانيا. وعلى الأراضي الألمانية، تبدأ رحلة أخرى من البيروقراطية والأوراق والأسئلة التي تبدأ دائماً بـ»كيف وصلت إلى هنا؟»، سؤال يقود غالبا إلى «البصمة» أو «اللعنة»، فاللاجئ يُمنح اللجوء في أول بلد أوروبي يبصم فيه. وقد تتوقف الأسئلة هنا، فالبصمة ليست «هنا» بل «هناك»، وإلى هناك يتوجب العودة. وكثيراً ما ينتظر اللاجئ سؤال آخر، لا يأتي غالباً، مثل «لماذا وصلت إلى هنا؟»…
فوراء هذا السؤال تكمن كل الأزمة السورية. ومعه يبدأ الكلام عن رحلة يتجمد فيها الشعور في أطراف الأصابع من شدة الخوف والتعب، ولا يعود الإحساس بالقدمين إلا عندما يضعهما اللاجئ أخيراً في الماء الساخن على الأرض الموعودة، فيعود الإحساس ومعه يأتي إحساس الوجع أيضاً…
الكلام عن الخروج يبدأ غالباً بالقارب الصغير الذي وضع فيه اللاجئ آخر ما تبقى له من متاع، وكيف رآه أمامه وهو يغادر بلا رجعة هارباً بأوراقه وثيابه وذكرياته.
ولابد أن يصل الكلام إلى الوطن المتروك هناك، إلى الأم والدراسة وأحياناً كثيرة الأعضاء المقطوعة والمغروسة في مكان سقوط القذيفة أو اختراق الرصاصة، ففي رحلة الخروج يضيع الوطن بكل تفاصيله من البيت… للعمل… للأم… للولد، وليس نادراً أن تجد أماً تربط أبناءها إلى جسدها بحبل يشبه حبل السرة، على مبدأ «نحيا أو نموت معاً».
في ألمانيا لا مخيمات ولا خيم بل مساكن من اسمنت، ينتظر فيها اللاجئون إلى حين البت في قضيتهم. يتقاسمون المكان مع لاجئين آخرين من كل أنحاء العالم، لا لغة مشتركة بينهم إلا الشقاء الذي قادهم إلى الهروب. أوراق ومعاملات بلغة غريبة يعجزون عن قراءتها، وكثيراً ما يعجزون لأنهم ببساطة لا يعرفون فعل القراءة بأي لغة! يحاول المترجم المكلف أن ينقل لهم الاجراءات والعقلية الألمانية الدقيقة وراءها، ينجح أحيانا وعندما تفشل المحاولات يكتفون جميعاً بالدمع، فهو اللغة العالمية التي لا تحتاج إلى ترجمة.
بداية الخروج من الجحيم تكون بالحصول على بطاقة اللجوء، وبموجبها يحصل اللاجئ على سكن ومبلغ قليل من المال يكفي لسد الرمق، بالإضافة إلى دروس تعلم الألمانية من أجل فهم المجتمع الذي سيصبح منذ الآن جزءاً ولو هامشياً منه، عملية تعلم مضنية لا ينجح فيها غالباً إلا الأطفال، حيث ذاكرتهم كأجسادهم مازالت غضة… في داخل بيوت اللجوء، غرف متشابهة بأرقام ثابتة ووجوه تتغير باستمرار: «من أجل أولادي خرجت من سوريا، أحس بأنني هنا أذبل ببطء بعيداً عن تربة وهواء وروح حلب، ولكنني على الأقل عندما أخرج، أودع أطفالي من دون أن أخاف ألا أراهم مرة أخرى»… قال أحمد، ساكن الغرفة رقم 216. في الغرفة المجاورة وقف الشاب الحمصي واستدار نحو النافذة، ليخفي دمعته عن الآخرين ثم قال: «هذه البلاد جميلة ولكن ما في أجمل من حجارة حمص السوداء»، وظل ينظر للبعيد متجنباً العيون الأخرى التي كانت تبكي خلفه مدنها البعيدة أيضاً. ساكن الغرفة العلوية هو (ي . غ) شاب كردي من قرية صغيرة في شمال سوريا، ينتظر أن يمنح حق اللجوء، يبتسم بمرارة وهو يروي أنه صارع الموت ثماني مرات لكي يصل إلى ألمانيا، وأنه قد يموت هنا بالنهاية. لا يتصل بوالدته هاتفياً فوحدهن الأمهات قادرات على قراءة الألم مهما كذب الصوت وتَصنع الفرح…
«في الانتظار، أحاول أن أستيقظ وكأنني نمت حقاً وأحاول أن آكل وكأنني جائع حقاً، وأحاول أن أغتسل وكأنني سألتقي خطيبتي الآن حقاً، ثم أمشي كثيراً جداً فالمشي في هذه البلاد لا يكلف مالاً ويجعلني في حالة هروب دائمة من الموت»…هذا ما قاله (ي.غ) وهو ينتظر التصريح بالبقاء في ألمانيا، قبل أن يضيف أنه سيعاود الهروب إليها للمرة التاسعة إن قاموا بترحيله عنها الآن.
طوباوية اللجوء المرفه
في مدينة أوكسبور فندق صغير ومتواضع ولكنه يحمل رؤية كبيرة… الفندق لا يحتوي فقط على غرف للسياح، بل على مراسم للفنانين وغرف لطلاب اللجوء، كنوع من التعايش تحت شعار: الاندماج الاجتماعي هو أعلى درجات الفن وأعمقها.
الفنانون يرسمون لوحاتهم على الجدران ويشاركون في تصميم الغرف، اللاجئون يساهمون في الطبخ والترتيب، والسياح يختبرون وجهاً آخر للمدينة في فندق كوزموبوليت بلا أسعار محددة، حيث كل زائر يقدم في آخر إقامته مساهمة فردية طوعية لدعم المشروع. في قاعة الاستقبال ساعات جدارية تشير إلى توقيت دمشق وغزة ولامبيدوزا، فلا حاجة هنا لتوقيت غرينتش ونيويورك. وعلى البيانو يعزف لاجئ أفغاني أغنية حزينة، ويساعد عامل الاستقبال لاجئاً افريقياً على تعبئة استمارة الهجرة. ولكن رغم كل الجهود والنوايا الحسنة لم يستطع الفندق استيعاب إلا عدد محدود جداً من اللاجئين ولم يتمكن من منع ترحيل الكثير منهم.
مشروع أخر جدير بالذكر هو «شهية طيبة مع اللاجئين»، حيث يقوم متبرع ألماني بدعوة لاجئ إلى منزله والطبخ معه، في محاولة للتعرف على مطبخ الآخر وثقافته، ولكن الأهم منح اللاجئ فرصة للكلام وللحنين، فمع شرائح البصل تسيل الدموع بسهولة ومن دون مبررات، وتعود رائحة الوطن ومذاقه في وجبة مشاركة استثنائية مع المضيف الألماني.
هذان المشروعان والكثير من المشاريع الطوعية الأخرى، غير كافيين لتغيير واقع اللجوء الذي يحتاج لجهود دولية جبارة تهتم بحماية الانسان أكثر بكثير من حماية الحدود، وغني عن القول إن توسيع باب اللجوء الشرعي، يمنع الكثير من التجاوزات التي قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد الاختناق في الصندوق الخلفي للحافلة أو الغرق في البحر، حتى صار البحر المتوسط ولشدة ما ابتلع من أرواح وأحلام، أقرب إلى «البحر الميت» منه إلى «البحر الأبيض المتوسط».
ويبقى مفتاح الحل لمشكلة اللجوء، هو القضاء على أسباب الهجرة غير الشرعية وعلى رأسها الحروب والاستبداد في الضفة الأخرى، ضفة الشعوب الفقيرة، المضطهدة والمنسية.
هامش: الكثير من الشهادات الوارد هنا مأخوذة من الصحافة الألمانية، وهي شهادات حقيقية للاجئين ما زالوا ينتظرون الخلاص والحرية.
آية الأتاسي/القدس العربي
التعليقات مغلقة.