المواطنيّة الرقميّة بعدٌ مضاف في تعريف هوية إنسان القرن 21
شهد عام 2014 مجموعة من الحوادث المتنوّعة التي تؤشّر إلى تعمّق البُعد الرقمي في حياة الأفراد. لا تبدأ تلك الحوادث بفضائح صور المشاهير المسربّة عبر الشبكات الرقميّة، ولا تتوقّف عند الاستخدام المكثّف لمواقع التواصل الاجتماعي من جانب تنظيم «داعش»، ولا تنتهي بالملاحقات المتواصلة لنشطاء «تويتر» في دول كثيرة، بينها بلدان عربيّة. ثمة حوادث أكثر طرافة، كعبور أحد الكنديّين الحدود إلى أميركا مستخدماً صورة لجوازه على «آي باد»، ما دفع بالسلطات الكنديّة إلى توجيه تنبيه لرجال الحدود بعدم الاعتماد على صور «آي باد»، لكنها لم تلغ شرعيّة عبور ذلك المواطن.
في منحىً أكثر جدّية، يبرز البعد الاقتصادي الذي ارتسم عبر العودة القويّة لبورصة «نازداك» المعبّرة عن شركات المعلوماتيّة والإنترنت، وتعملق الأحجام الماليّة لشركات المعلوماتيّة كـ»آبل» و»فايسبوك» و»واتس آب» و»علي بابا» وغيرها. وعلى غرار تلك المعطيات، هناك أيضاً التغيير الهائل في التعليم ونُظُمه ووسائله ومؤسساته، بأثر من الثورة الرقميّة.
وتتجمّع تلك الأشياء، وهي مجرد قطرات من سيل هائل، يصعب معها ألا يرد في الذهن سؤال من نوع: هل أصبح الفرد المعاصر مواطناً رقميّاً؟ إلى أي مدى ترتسم المواطنيّة الرقميّة بوصفها بعداً مُضافاً (بل ربما بديلاً) في المجتمعات المعاصرة؟
إذ يؤدي التعليم دوراً محوريّاً في رسم المواطنيّة الرقميّة، شأن حاله في المواطنيّة الفعليّة. وفي البعد الرقمي، من المستطاع ربط ذلك المنحى بتمكين الأفراد والمجتمعات من استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، في شكل مستقلّ وحاسم لجهة تلبية حاجاتهم وتطلّعاتهم وإبداعاتهم. واستطراداً، يجدر بالمربيّن العمل على ضمان تدريب الأجيال الطالعة على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، في سن مبكّرة.
أبعد من البرامج والأدوات
في المقابل، لا تتساوى المواطنيّة الرقميّة مع مجرد استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، كما أن المواطنيّة الفعليّة لا تتساوى مع استهلاك السلع أو استخدام الأدوات، بل أنها تتضمّن المساهمة في الحياة المدينة والمشاركة في أوجهها المتنوّعة.
وفي المجتمع الرقمي، تتكئ المواطنيّة على تنمية قدرات الأفراد والجماعات، في المشاركة في اتخاذ القرارات وتنفيذها، خصوصاً ما اتّصل منها بمسائل المعلومات، والبنيّة التحتيّة، والبرامج التي تعرف بحياة المجتمعات انطلاقاً من البيئة المحلية، بل أنها تتوسّع لتصل إلى المشاركة في المجتمعّية الرقميّة العالميّة وبيئاتها المتنوّعة.
بديهي القول إن تلك الأمور تعتبر أكثر أهمية في المجتمعات غير المتجانسة لغويّاً وثقافيّاً، ما يبرز أهميّة دور التربيّة في تعزيز لغة الأُم، وهي معضلة تتحدى نظم التعليم المعاصرة. ويستكمل البُعد اللغوي بالتشديد على معرفة اللغات الأجنبيّة، بوصفها ضرورة لتجنّب الانعزاليّة الثقافيّة، وتشكيل رأي عام مطّلع على مجريات الأمور. والحال أن لغة الأم هي لغة القوى العاملة ولغة المعرفة، بل من الممكن القول إن لا إنتاج للمعرفة بلغة الآخرين لأن المعرفة مرتبطة في شكل مباشر بالرأي العام. ولعل الدول العربيّة هي من المساحات التي تظهر فيها تلك المعضلة في شكل مقلق تماماً. إلى أي مدىٍ يشارك الناس فعليّاً في صناعة القرارات التي ترسم مصائرهم؟
لا بد من الإشارة إلى أن عملية صنع القرار بصورة ديمقراطيّة تفترض أن يكون المواطن على علم بما يحدث، ويكون له الحق في طرح رأيه، ويشارك في صنع القرار وتنفيذه.
في السياق عينه، تفترض المواطنيّة الرقميّة تمكين كل المواطنين من صنع القرارات. وهناك مجال أساسي يستفيد من الاتّصالات الرقميّة، هو تعزيز التواصل باللغة الأم، ما يسهل المشاركة في النقاش العام وكذلك تفهّم المسائل العلميّة. وبذا، يظهر دور التربيّة والتعليم اللذين تنهض بهما المؤسّسات التعليميّة في مستوياتها المختلفة. وترتبط التربيّة بمجمل الأوضاع السائدة في مجتمع ما. وفي البلدان العربيّة، يبرز سؤال عن وجود سياسة تربويّة تجعل المعلوماتيّة مادة أساسيّة في مناهج التربية والتعليم.
وإذا كان ممكناً تعلّم كيفية التصفح البسيط والإبحار التلقائي في عوالم الإنترنت، فإن من الصعب تعلّم المنطق الذي تتضمّنه المؤشّرات الـ»بولينيّة» (نسبه إلى عالِم الرياضيّات جورج بول) المستخدمة في محرّكات البحث. وبقول آخر، لا بد من التمكّن من فهم المعادلات الرياضيّة والمؤشّرات التي وضعها جورج بول، من أجل التوصّل إلى بحث مجد علميّاً في البيانات الواسعة التي تحتويها الإنترنت. وبديهي القول إنها عمليّة تتطلّب تعليماً منظّماً مبنيّاً على أسس نظريّة، ولا يمكن التوصّل إليها بالتخمين والعشوائيّة.
ولعله ليس مجازفة القول إنه لا يكفي أن تحتوي الأسواق أدوات إلكترونيّة وهواتف متطوّرة وألواحاً ذكيّة، بل يفترض تأمين المعرفة اللازمة للاستفادة من تلك الأدوات في شكل مجد.
عن الحياة
التعليقات مغلقة.