نساء على دروب الجلجلة

24

e10274e275fa402fbd0768366e97bbf2تكاد الأفلام الروائية الطويلة التي تتناول تيمة التشدد الديني أن تتحول الى فئة على حدة، هي التي تُعَّد منذ سنوات جزءاً مهماً من سينما الهموم والانشغالات الاجتماعية الفنيّة المنتظمة الإنتاج، فلا يَمرّ عام سينمائي أوروبي مثلاً من دون عرض حفنة من الأفلام التي تُقدم علاقات مأزومة تقترب من التصادمات لشخصياتها مع مؤسسات دينية تقليدية، هذا رغم إن هذه الأخيرة لم تَعد في القارة العتيقة بالمكانة او السطوة التي كانت تملكها في الماضي، بل تكاد تختفي او تنسحب الى هوامش الحياة العامة في بعض الدول الغربية
مراجعة
لا شك في أن مراجعة دول شيوعية أوروبية سابقة لتاريخها وهويتها الإيمانية، بما تملكه هذه من علاقات لازالت مُعقدة وملتبسّة مع الأديان، ساعد في رفد سينما «التشدد الديني» الأوروبية بأفلام عديدة من تلك المناطق، بعضها رائع وشديد القسوة (فيلم «خلف التلال» للمخرج الروماني كريستيان مونغيو على سبيل المثال). الموضوعة تطل أيضاً في أفلام دول «متقدمة»، فالمأساة الحقيقية التي مرت على «فيلومينا»، والتي قدمها الفيلم البريطاني الذي يحمل اسم بطلتة في العام الماضي، كانت مناسبة لمحاسبة سينمائية جديدة لأفراد من الكنيسة الكاثوليكية في إرلندا على ما اقترفوه من مظالم لقرون طويلة، بل إن الفيلم يزعم إن «أبواب» الكنيسة هناك لازالت موصدة أمام «فيلومينا»، المرأة، التي وهبت الكنيسة ابنها الطفل الى عائلة أميركية قبل نصف قرن، من دون رضا او عِلم الفتاة المراهقة وقتها، لأنه وُلد من قصة حب عابرة وخارج «شرعية» الزواج، ولم تعترف الكنيسة بجريمتها بحق المرأة تلك ومئات النساء الأخريات من اللواتي تعرضن للظلم نفسه وحتى اليوم.
وأخيراً، عرضت صالات سينمائية هولندية فيلمين من ألمانيا وإسرائيل يدوران في فلك الموضوعة ذاتها، ويشتركان في جنسية شخصياتهما الرئيسية النسائية. الأول هو الفيلم الألماني «درب الجلجلة» للمخرج الشاب ديتريس بريخيمان (فاز الفيلم بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي)، والآخر هو الفيلم الإسرائيلي «غيت: محاكمة طلاق فيفيان أمسليم!» للمخرجين الإسرائيلين رونيت الخباز وشقيقها شلومي (الترشيح الإسرائيلي الرسمي للأوسكار المقبل). والفيلم هذا هو الثالث من سلسلة تتابع الحياة الزوجية لزوجين إسرائيلين يمران بمتاعب، اذ تلعب المخرجة والممثلة دور الزوجة، التي تصل في الجزء الثالث للمحكمة للمطالبة بالإنفصال النهائي عن زوجها.
ما يُلفت الانتباه سريعاً في الفيلم الألماني «درب الجلجلة»، هو السكون الكامل للكاميرا، فالمشهد الأول الطويل صور بلقطة واحدة وكاميرا ثابتة. سريعاً سيتبدى إن هذا سيكون أسلوب المخرج طوال الفيلم الروائي، اذ قُسِّمَ الأخير الى أربعة عشر مشهداً (على عدد المحن والخطوات التي مرت وقطعها السيد المسيح في طريقه للصلب) صورت بالإسلوب نفسه، يفصلها نصوص تصف تلك الخطوات مستقاة من الكتاب المقدس بعهده الجديد. أما القصة فهي عن فتاة ألمانية تدعى ماريا في الرابعة عشرة من العمر، تعيش وسط عائلة ومجتمع مُتدين مغلق على نفسه، يعادي العالم الخارجي الذي لا يرى فيه الا المعاصي والشرور. يتابع الفيلم في الأربعة عشر مشهداً له يوميات الفتاة وعذابها، بين توقها لنيل رضا الدين والكنيسة والأم المتشددة الى حد الهوس من ناحية، ومن ناحية أخرى رغباتها كفتاة عادية ودّعت عالم الطفولة للتو وكانت على أول الطريق لاكتشاف العالم، قبل أن يتمكن منها شعور الذنب والاستلاب ويقودها الى تلك النهاية المأساوية. تفتح المعالجة الفنيّة الخاصة للمخرج الفيلم على تأويلات عديدة، وتمنحه معاني مختلفة متغيرة، فالكاميرا الثابتة هي الكُوّة – بمعناها الفعليّ وليس المجازي – التي نطل منها كمتفرجين على حياة الفتاة ومحيطها، بخاصة مع عدم اهتمام الفيلم بحركة الممثلين أمام الكاميرا، اذ كان هؤلاء يدخلون ويخرجون الى الكادر وأحياناً يقفون بقرب شديد أمام بؤرة العدسة ويقطعون طريق المشاهد لما يجري أمامه. وستحيل بعض مشاهد الكاميرا الثابتة أيضاً الى رسومات شهيرة عن بدايات المسيحية، كالمشهد الأول، الذي يقدم الدرس الديني للبطلة مع مجموعة صغيرة من الأطفال والذي كان يشرف عليه قس شاب، واقترابه من لوحات «العشاء الأخير». والكاميرا الثابتة ستوفر أيضاً السكون المطلوب للتأمل في أحوال الفتاة ودرب الألام الذي سارت عليه حياتها.
طلاق يهودي
وكحال «درب الجلجلة»، يتميز فيلم « غيت: محاكمة طلاق فيفيان أمسليم!» بحركة الكاميرا القليلة فيه وإنغلاق أجوائه، فالفيلم لم يخرج من جدران بناية المحكمة التي من المقرر أن تصدر حكمها النهائي بطلاق «فيفيان» من زوجها. سيمر بعض الوقت بعد بداية الفيلم قبل أن تصل الكاميرا الى وجه «فيفيان» في المحكمة، لكن ما أن تتسمر على وجه المرأة الأربعينية الجميل، حتى يكاد هذا الأخير، يختصر بجزعه وألمه العميق، ما فات على الذين لم يشاهدوا السلسلة، ولم يعرفوا قصة عذاب المرأة الإسرائيلية من الإصول المغربية، والتي توقفت عن حب زوجها، وتريد الطلاق منه. يستعيد الفيلم بمشاهد ارتجاعية خمس سنوات من المعركة القضائية المتواصلة للبطلة للحصول على طلاق من زوج يرفض ذلك، ومحكمة دينية تعادي السيدة، وتعتبر طلب الطلاق من دون أسباب «وجيهة»، بطراً يقترب من الاستهتار ومخالفة واضحة للقانون الإسرائيلي الذي لا يعترف بالزواج المدني. يُركز الفيلم بقصته المُتخيلة، على إن سبب طلب الزوجة للطلاق هو انقضاء الحب، وليس لأسباب أخرى. الفيلم بهذا يشذّب معركته النبيلة للدفاع عن حقوق النساء في اختيار الزوج والانفصال عنه من أي تبريرات زائدة. هناك بالطبع أسباب لنهاية حب السيدة لزوجها، لكن حميمية تلك الأسباب يجعل الإفصاح عنها في محكمة دينية يقودها رجال متشددون يقترب من الفعل الاعتراضي الثوري الغاضب، وعندما تقوم الشخصية بذلك تربك الموجودين وترفع الفيلم من قيود الشكل التلفزيوني الذي انحصر به أحياناً، الى عمل تتجسد قيمته بالمكاشفة التي بدأت شخصية عائلية، لتتسع تدريجياً وتشمل نظماً اجتماعية مهترئة وذكورية مقيتة.
تمنح المُعالجة الفنيّة الساكنة المتأملة للفيلمين، وتركيزهما على المصائر الفردية لبطليتهما، الفرصة للممثلتين الرئيستين لإبراز خليط متنوع من الإداءات المركبة، يترواح بين الداخلي المكبوت الذي فرضته المشاهد المقربة التي خلت من الحوارات، والانفعالي المُتفجر في مشاهد اخرى. كما فرضت بنيّة الفيلمين على الممثلتين تحدي تجسيد مبتكر لدور «الضحية»، يكون على مسافة حميمة من حيوات الشخصيتين وعذاباتها ولا يسقط في التنميط او الدراما الفاقعة الثقيلة. تشترك الممثلتان في تقديم مقاربة بخطوط عامة واحدة لكن بفروقات العمر والتجربة، فالشخصيتان هما «ضحية» التفسيرات المتوراثة للروايات الدينية والمجتمعات المنغلقة على نفسها إلى حد الاختناق. هما أيضاً شهيدتان عصريتان بمرجعيات مُستمدة بجذورها من التراث الديني نفسه. تؤدي الممثلة الألمانية ليا فان أكين دوراً رائعاً لفتاة تبحث عن «المعنى العظيم» في الحياة، لكن الطريق اليه سيكون هائل الصعوبة، ومرصوفاً بالأشواك. أما الممثلة رونيت الخباز، فكان عليها أن توازن وتكسب التعاطف بإداء يجمع بين الوعي بسطوة جمالها، وأحياناً غواية حضورها المُجرد، وبين الضيق الذي تعيش فيه، ورغبتها في الانعتاق من مجتمع ذكوري تسيّره نصوص دينية.

الحياة

التعليقات مغلقة.