العادلون/إلياس خوري

31

03qpt998مساء الأربعاء 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، خرج معتز حجازي من المطعم الكائن في مركز مناحيم بيغن في القدس. مؤسسة «المبادرة من أجل الحرية اليهودية في جبل الهيكل» أقامت في المركز ندوة ألقى فيها الحاخام يهودا غليك محاضرة تحت عنوان «إسرائيل تعود الى جبل الهيكل»، وفيها كرر الحاخام المهاجر من بروكلين تحريضه العنصري- الديني عبر الكلام عن حق اليهود في الاستيلاء على الحرم القدسي الذي يسمونه «جبل الهيكل».
لم يحضر معتز حجازي الندوة، فهو مجرد عامل في المطعم لا يحق له مغادرة مكان عمله ساعة يشاء. في العاشرة ليلاً، وعندما اقترب موعد الندوة من نهايته، طلب الشاب المقدسي إذناً بمغادرة المكان، امتطى دراجته النارية وتجوّل قليلا، ثم توقف أمام بركة السلطان منتظراً.
بركة السلطان التي جف ماؤها، وخضعت لعمليات تنقيب بحجة البحث عن الهيكل أو الدهاليز المؤدية إليه، وتحولت الى مكان للعروض الفنية والترفيهية في إسرائيل، ارتبطت في ذهن الشاب بحكايات غامضة من طفولته. وها هو يقف في ليل الخريف المقدسي البارد منتظراً أمام البركة التي بناها السلطان المملوكي الظاهر برقوق عام 1339 في منطقة جورة العنّاب، وجددها السلطان سليمان القانوني عام 1536.
لم يجد معتز البركة، لكنه رسمها بخيال ذاكرته، وسمع خرير الماء، وشمّ رائحة العطر المقدسي الذي يخرج من حجارة المدينة التي صارت مرايا للأزمنة والمآسي.
في العاشرة والنصف ليلاً، رأى مجموعة الخارجين من المركز، امتطى دراجته وتقدم نحوهم، توقف امام المجموعة التي توسطها رجل طويل أشقر اللحية يلبس قميصاً أزرق، هو على الأرجح الحاخام غليك، تقدم منه وسأله هل هو الرجل، وعندما أجاب بالايجاب، أخرج الفدائي مسدسه وأطلق عليه ثلاث رصاصات، وفرّ بدراجته.
قبل ان يطلق النار قال: «آسف لقد أثرت غضبي»، وفي رواية أخرى انه قال: «آسف أنا مضطر لفعل ذلك».
في صباح اليوم التالي، أصيب معتز حجازي على سطح منزله، الكائن في حي الثوري المتاخم لسلوان، بعشرين رصاصة أطلقتها الوحدة الاسراائيلية الخاصة بمكافحة الإرهاب، حيث قضى. ثم قامت الشرطة الإسرائيلية باعتقال والده وشقيقه وأمرت بتدمير منزله، كما انها سمحت بدفنه في الحادية عشرة من ليل الخميس شرط ان لا يشارك في المأتم سوى خمسة وأربعين شخصاً.
بالطبع قام شباب القدس بكسر القرار، وشارك المئات في مأتمه، لكن ليست هذه هي المسألة.
اللافت في محاولة الاغتيال هذه نقطتان:
الأولى تتعلق بالفدائي وبالحاخام، فحجازي الذي قضى في السجن الإسرائيلي الذي دخله خلال الانتفاضة الثانية احد عشر عاماً، شعر كجميع أهالي القدس العربية، بأنه صار غريبا في بلاده، وهو يعيش منذ جريمة إحراق الطفل محمد ابو خضير في مكان يحتله الترهيب الإسرائيلي، الذي يسعى الى «تكنيس» هذا المكان من سكانه الأصليين.
اما الحاخام الذي عرف بتطرفه وحقده على الفلسطينيين العرب، فكان صاحب «قضية» استعادة «جبل الهيكل»، تمهيدا لهدم المسجد وبناء هيكل سليمان على انقاضه، ورغم ليكوديته، فإنه اصطدم بالشرطة الإسرائيلية مرات عدة نظراً لتهوّره.
مسرح العملية صار جاهزاً، من جهة هناك فدائي ينتمي الى حركة الجهاد الإسلامي ومن جهة ثانية هناك مستوطن يسخّر الدين والأسطورة في سياق عملية طرد الفلسطينيين من أرضهم.
قد يرتفع صوت دعاة السلام في إسرائيل والعالم بإدانة «الارهابي» الفلسطيني، الذي استخدم السلاح ضد رجل أعزل، يحمل رأياً قد يختلف معه الكثيرون، لكنهم يدينون اخراس الرأي بالسلاح، ويدعون الى الحوار وحسم الخلافات بشكل عقلاني و «حضاري». فتتم إدانة عمل معتز حجازي بصفته ارهاباً.
لا أريد ان أدخل الآن في جدل حول تحديد معنى كلمة «ارهاب»، فلقد ابتُذلت معاني الكلمات، في سياق مشروع استئصالي للشعب الفلسطيني حظي ببركة العالم «المتحضر» منذ عام 1948، وهو اليوم يعاني مأزق عدم قدرته على فرض «الحل النهائي» الا عبر التحايل، لأن العالم انفلق من اكذوبة تتجدد منذ سنوات لا تحصى.
اما الثانية فتتعلق بأداء الشهيد معتز حجازي. فالرجل لم يلقِ قنبلة يدوية على الحشد المرافق لغليك، وكان في استطاعته ان يفعل ذلك، بل اقترب من الرجل، تأكد من هويته، وقبل ان يُطلق النار أبدى أسفه لأنه وجد نفسه مضطراً لقتل الحاخام.
معتز حجازي الذي وسم التعذيب والزنزانة الانفرادية جسده وروحه لم يحاول قتل الحاخام كي ينتقم لسنوات عمره التي ضاعت في السجن، فكرة الانتقام لم تكن واردة، والا لما اعتذر قبل ان يقتل. الرجل أراد بعمله اعلان موقف سياسي وأخلاقي، وقرر ان يكون عادلاً.
أستطيع ان أتخيله بطلاً في مسرحية «العادلون» لألبير كامو، كما أستطيع ان أفترض انه يشبه يانيك بطل مسرحية كامو الذي رفض اغتيال الدوق سرجي الكسندروفيش عبر القاء قنبلة على موكبه لأنه كان بذلك سيقتل معه طفلين كانا برفقته، لكنه عاود المحاولة ونجح في قتل الدوق وحده. تنتهي المسرحية بإعدام يانيك لانه رفض ان يشتري العفو من خلال اعترافه بأنه قاتل وليس ثورياً.
كانت حياة يانيك، مثلما تخيلها الكاتب الفرنسي معلّقة على كلمة طُلب منه ان يقولها كي يتفادى الموت اعداماً، لكن الرجل تعامل مع الكلمة بصفتها مرآة للمعنى، وقرر ان يموت شهيداً.
يُطلق التراث الماركسي على الثوريين الروس من أمثال يانيك لقب الإرهابيين ويدين أفعالهم، لكن الثورة الروسية لم تكن ممكنة لولا هذا الجيل من الإرهابيين – الثوريين، الذين زرعوا الوعي بضرورة اسقاط النظام القيصري الاستبدادي.
لست متأكداً من ان معتز حجازي الشهيد ينتمي الى هذه الفئة من الثوريين التي كتب عنها كامو مسرحيته، لكنني متأكد من ان الشاب الثلاثيني هو امتداد لروح المقاومة التي أشعلها القسّام وعبدالقدر الحسيني، وانه في اصراره على الاعتذار من القتيل الذي كان وسيكون هو القاتل الفعلي، جسّد فكرة العدالة لانه يعلم انه سيكون الضحية وسيُعدم بدم بارد، ولن تتاح له فرصة التعبير عن موقفه في المحكمة.
معتز ليس بطلاً روائياً أو مسرحياً كي يعطيه المؤلف حق قول الكلمة الأخيرة قبل اعدامه.
معتز فلسطيني والفلسطيني في دولة إسرائيل العنصرية عليه ان ينتزع حقه في الكلام في ساحة الموت، لأن لا محكمة ستعطيه الحق في ان يقول كلمته.
العدالة تحتاج الى عادلين.
ومعتز حجازي هو واحد من كوكبة العادلين.
والعادلون قادمون، وعلى الاحتلال ان يعرف ان معركته معهم لن تقوده الا الى العار.

القدس العربي

التعليقات مغلقة.