ديوان بودلير.. الذي لا يمكن اختزاله
من الكلمات الشهيرة لميشيل ليريس، الكاتب والشاعر والناقد الفني الفرنسي الذي رحل عام 1990، في توصيفه لديوان «أزهار الشر» لأحد أكبر شعراء في فرنسا في تاريخها كلّه، شارل بودلير، هو أنه «عمل لا يمكن اختزاله». ولم يتردد في القول إنه استعصى على كل قراءة.
وانطوان كومبانيون، الحائز على شهادة الدكتوراه في الأدب، والأستاذ في جامعة كولومبيا الأميركية سابقا قبل أن يشغل كرسي الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر في كوليج دو فرانس، أرفع مؤسسة علمية فرنسية، يضيف أنه ليس ديوان «أزهار الشر» وحده الذي «لا يمكن اختزاله» بل أن «بودلير» نفسه هو «الذي لا يمكن اختزاله»، كما جاء في عنوان كتابه الأخير.
إن انطوان كومبانيون يبدي منذ الشروع في رسمه لشخصية ومكانة شارل بودلير في التاريخ الأدبي الفرنسي الحديث رأيا مناقضاً إلى هذه الدرجة للفكرة السائدة عن صاحب «أزهار الشر»، أحد أشهر الدواوين الشعرية في العالم. تلك الفكرة القائلة والسائدة أن شارل بودلير كان «أحد روّاد تيار الأدب الطليعي الأوائل » للقرن العشرين.
ما يشرحه مؤلف هذا الكتاب هو أن بودلير كان «حداثياً ومناهضاً للحداثة بالوقت نفسه». وهذا ما يحاول تقديم البراهين عليه من خلال مواقف الشاعر نفسه من مشارب في الفن والأدب برزت معالمها في العصر الحديث. وفي مقدّمة هذه المشارب «الصحافة والتصوير والمدن والفنون»، ذلك على اعتبار أنّها تمثل كلّها وجوها متنوعة لمفهوم واحد هو «الحداثة».
ومما يكتبه المؤلف عن شارل بودلير ويعتبره بليغ الدلالة على شخصيته ما مفاده: «بودلير رجل ذو بصيرة نافذة ومأخوذ بالحقبة التي كان يعيش فيها. لكنه كان على دراية كاملة أن كل تقدّم يتم تحقيقه سيؤدي بالمقابل إلى خسارة ما». بهذا المعنى أيضاً يرى في بودلير صورتين متباينتين. يبدو في الأولى، كما يقدّمه، أحد «روّاد الحداثة»، بل يستخدم أحيانا تعبير «مخترع الحداثة»، لكنه يرسمه في الصورة الثانية «مقاوما عنيداً» للعالم الحديث.
ومن السمات الأساسية التي يؤكّد عليها المؤلف في شخصية بودلير هو أنه كان يعاني من القلق، بل ويتمتع بنوع من «المزاج السوداوي»، بمواجهة تلك النظرة الساذجة، التي أبداها أولئك الذين أعطوا ثقتهم الكاملة وأظهروا حماساً لا حدود له لمفهوم «التقدّم»، الذي تمثّله الحداثة القادرة على حل جميع المشاكل التي تطرحها الحداثة نفسها. والإشارة في هذا السياق أن بودلير كان يرى أن الإنسان يحمل الكثير من الطباع السيئة على عكس ما كان يقول به فيلسوف عصره جان جاك روسو.
ومن تلك الزاوية بالتحديد يرى المؤلف في بودلير أحد تلك الوجوه «التاريخية» التي أعلنت تحفّظها، بل في أحيان كثيرة شجبها، لمفهوم التقدّم في الوقت الذي كان فيه هو السائد والأكثر رواجا في زمنه. ذلك على عكس الذين يلعبون اليوم ورقة «مناهضة الحداثة» الذين يشبههم المؤلف في من «يطلق النار على سيارة إسعاف».
رؤية شارل بودلير للحداثة يقدّمها المؤلف بمثل الذي يقود السيارة الحديثة، لكنه يحرص دائماً «على النظر في المرآة الجانبية العاكسة»، كي يرى الأشياء التي يبتعد عنها قبل أن تتلاشى شيئا فشيئا من المشهد. ويشير انطوان كومبانيون في هذا الإطار إلى أن الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر كان يعيب كثيراً على بودلير ذلك.
كان بودلير كما يقدّمه الكتاب شديد الحرص على أن يعيش حالة تصالح مع عصره الذي يثير قلقه.
عن بيان الإمارتيّة
التعليقات مغلقة.