“الأيديولوجيا ودورها في العالم الحديث”.. ترجمة: د. سليمان إلياس باحث في مركز الفرات

52

أ.د. تاتيانا الكسيفا- جامعة موسكو الحكومية للعلاقات الدولية

متخصصة في الفلسفة السياسية والعلاقات الدولية.

ترجمة: د. سليمان الياس باحث في مركز الفرات.

 

 إن تغيير النظام العالمي على خلفية الفوضى وعدم القدرة على التنبؤ، والنمو الهائل للابتكار التكنولوجي، يدعو إلى التشكيك في العديد من المفاهيم والنظريات العالمية   التي كانت راسخة.    

 فالاتجاه السائد اليوم هو الاضطراب والفوضى والعشوائية ونسبية المكان والزمان، والتطور والتغييرات السائدة، وتقليدية الأنماط فيما يتعلق بالطبيعة والمجتمع، وبعبارة أخرى كل ما تقدم هي دلائل وإشارات تمهد لتأسيس مرحلة ما بعد الكلاسيكية للعالم التي تنبأ بها في سبعينيات القرن الماضي الفيزيائي البلجيكي من أصل روسي إيليا بريغوجين ومؤيديه.

  لقد لعبت الأيديولوجيات دورا كبيرا في تثبيت وإضفاء الشرعية على السلطة المهيمنة القائمة أو على العكس من ذلك في تبرير المعارضة البديلة لها، مما أدى إلى تثبيت وتجميد النظريات والأفكار التي اتخذت اشكالا وطابعا جديدا في الظروف القائمة، بمعنى آخر نحن ندخل عالماً أيديولوجياً جديداً بقواعد ومنطق ودلالات مختلفة لا تحافظ على المألوف بقدر ما تحل محله وتقلده في كثير من الأحيان ولأكثر من مرة، كان قربهم المتعمد وحتى تماهيهم مع السياسة مما شكل ملهاة هزلية قاسية في مصير الأيديولوجيات. فمنذ ظهور المفهوم نفسه (أنطوان ديستوت دي تريسي، 1796)، اعتبر المفكرون الأيديولوجية “علمًا رفيعا”، وهو، على عكس الميتافيزيقا، شكل موسوعي خاص من المعرفة يمكن على أساسه هندسة المجتمع.

وبما أن الأيديولوجيات هي “أنظمة أفكار”، وتنتمي إلى عالم الفكر الرمزي، فالصراع حتمي بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، فالأيديولوجيات تبحث عن أساس لها ليس في المجتمع، ولافي العلاقات الاجتماعية، بل في المجال الروحي المتعالي للمجتمع. فمنذ بداية القرن التاسع عشر، اكتسب مفهوم الأيديولوجية معنى تقييميًا في اللغة اليومية، حيث ارتبط بالأكاذيب والاباطيل والتعصب، على الرغم من أنه أخذ على عاتقه وظيفة التوجيه الأخلاقي لأفعال الناس، وادعى أنه يلعب الدور الذي لعبته الكنيسة سابقا أي أصبح نوعا من “الدين العلماني”.  وبتعبير اخر الأيديولوجية السياسية هي المعرفة التي تقدم نموذجًا واضحًا لا يمكن إنكاره لحياة جيدة في مجتمع جيد وترى أنه من الضروري استخدام وسائل معينة لتحقيق هذا الهدف من خلال تلبية الاحتياجات الاجتماعية للناس.

في الأدبيات العلمية، عادة ما يتم تحديد اتجاهين أكثر عمومية في التعامل مع مشكلة الأيديولوجية.

 الاتجاه الأول: يمكن أن نطلق عليه بدرجة معينة من التقليد “اليسار”، ويرجع في أصوله   الى هيجل وماركس وماركوز ولوكاش والى ما بعد الماركسيين وما بعد الحداثويين. فقد أولى العلماء الماركسيون، بدءًا من ك. ماركس وف. إنجلز، اهتمامًا خاصًا لمشاكل الأيديولوجية. هذه المشاكل التي لا تقل أهمية بالنسبة إلى ما بعد الماركسيين المعاصرين وغيرهم من العلماء ذوي التوجهات اليسارية، خاصة فيما يتعلق بدراسة أنشطة وسائل الإعلام وتأثير الثقافة على السياسة. لقد كانوا مهتمين بشكل أساسي بمشكلة المعرفة الحقيقية والوهمية. ومن الناحية المعرفية، تبدو الأيديولوجيا من وجهة النظر هذه بمثابة وهم، وخدعة، وتشويه للواقع.

الاتجاه الثاني: لا يركز كثيرًا على مشاكل المعرفة، بل على دور الأفكار في الحياة الاجتماعية والسياسية.  حيث ينصب تركيز أنصار هذا الاتجاه على ظروف ووظائف الأيديولوجيات ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية. كما يدرسون أيضًا كيفية تشكيل الأيديولوجيات وتغييرها وإعادة إنتاجها، أو كيفية بنائها وتفكيكها وإعادة بنائها من خلال التواصل والخطاب الاجتماعي. فهذه النظرة الواسعة للأيديولوجيات، لديها إمكانات إرشادية كبيرة، في فهم المظاهر الأيديولوجية الجديدة والأيديولوجيات المفروضة باستمرار في عصر الرقمنة والإنترنت والوعي لأصحاب المواقف الأيديولوجية.

لا شك أن الناس العاديين نادراً ما يفكرون في “الوعي الزائف” أو “تشويهات الواقع” عند عرض صورة للمستقبل المنشود لإن موقفهم من المشاكل السياسية الحالية هو موقف عفوي إلى حد ما، ويتميز بمجموعة من الصور النمطية والصيغ الثابتة، التي تم إدخالها بنجاح كبير في وعي الناس العاديين بمساعدة التعليم ووسائل الإعلام والثقافة بشكل عام.

وقد كتب عن ذلك المفكر السياسي الأمريكي الشهير جون بلاميناتز وقتها، وهو بالمناسبة من الأوائل في الجامعات الأمريكية الذين تغلبوا على الهيمنة الكاملة للوضعية في العلوم السياسية. كان يعتقد أن الأيديولوجية هي نظام قيم واسع إلى حد ما وغير مقنن بالكامل، أو بمعنى آخر، “عقلية” (التقليد الأمريكي)، “نظرة عالمية” (التقليد الألماني)، شيء قريب جدًا من العقلية (التقليد الفرنسي)، الذي هو نوع من “سلطة” العبارات الموروثة جزئيًا والمكتسبة جزئيًا والتي يكاد يكون من المستحيل فهمها، ويُنظر إليها دون وعي على أنها إطار حياتنا والتي يصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، تدوينها وتبريرها بالنسبة لمعظم الناس. حدد بلاميناتز مستويين من الأيديولوجيات: كلية وجزئية. والأخيرة، التي تعمل على المستوى اليومي والعفوي، تعكس القيم “الضمنية” للمجتمع، وبطبيعة الحال، لا تحتوي على بعض السمات المميزة للأيديولوجيات، كما يتم تفسيرها في الكتب المدرسية، بما في ذلك الأيديولوجيات “الشاملة”. وفي الوقت نفسه، تلعب دور “العدسات” التي تفلتر المعلومات عن البيئة، وهذا هو “اللاوعي الجمعي” الذي ينشأ مع مرور الزمن.

والامر الآخر هو أن الأيديولوجيةعتبارها نظامًا للأفكار، هي مجموعة شمولية نسبيًا وممنهجة عادةً من وجهات النظر ووجهات النظر العالمية، والتي تعكس تقييمات خصائص عالمنا وآفاق تغيراته في أذهان الأفراد والفئات الاجتماعية والحركات الجماهيرية والأحزاب السياسية والمجتمع ككل. أو بعبارة أخرى، انه نظام مفهوماتي، مهيمن على ادراكات الناس وتقيمهم للأحداث، وهو مدمج في برامج أفعالهم السياسية، ويحدد الأهداف والسلوكيات مسبقًا.

يتم بناء الأيديولوجيات أو إعادة بنائها أو تصديرها، عادة عندما يتم تشكيلها من قبل القادة السياسيين المؤثرين والقوى السياسية والأحزاب، وما إلى ذلك بحيث تتدخل بعنف في العملية الطبيعية للتنمية الاجتماعية. ولا يكتف بالإكراه القوي، بل يتم اللجوء إلى الأيديولوجيات، التي تتحول في هذه الحالة إلى “نظام الاقتراحات” – مما يدفع في اتجاه الإجراءات المحددة مسبقًا (“العمل الأيديولوجي”). ومع ذلك، فإن هذا النوع من استخدام الأيديولوجيات ليس آمنًا بأي حال من الأحوال. فمن ناحية، يمكن أن يساعد بالتأكيد في تحقيق المثل الأعلى أو تنفيذ البرنامج، ومن ناحية أخرى، فإنه، يأخذ دور التقاليد، بحيث تقوم بإجراء اختيار مصطنع بين الابتكارات المحتملة، وبالتالي تشويه، وإبطاء، ومن ثم توقيف المسار الطبيعي لتطور المجتمع. وفي هذه الحالة، تصبح الإيديولوجية أداة مهمة للسلطة، وإن كانت ذات حدين. يسمي ن. تانينوالد أربعة أنواع من الأفكار: – الأيديولوجيات كأنظمة معتقدات مشتركة؛

– المعتقدات المعيارية؛

– وجهات النظر حول السبب والنتيجة؛

 – وأخيرا، الوصفات السياسية. كلها، بطريقة أو بأخرى، مدرجة في التفسير الحديث للأيديولوجيات.

وبالتالي، فإن الأيديولوجيا هي أداتيه وعاطفية في نفس الوقت، بناء على الصور النمطية للوعي، ويُنظر إليها على أنها حقائق لا جدال فيها ولا يمكنها تحمل أي مناقشة أو التحقق من حقائق الواقع. وهذا هو اختلافها الأساسي عن الفلسفة السياسية والنظرية السياسية، والتي تستخدم نفس أسماء تيارات الفكر السياسي (الليبرالية، والمحافظة، والاشتراكية، وما إلى ذلك)، فبحكم التعريف تتخذ أساسًا أو تبريرًا منطقيًا، لتزييف الحوار، والمناقشة، والثبات المستمر عن طريق العودة إلى المفاهيم والفئات القائمة، وإدخال ظلال وفروق دقيقة جديدة في تفسيرها، وأحيانا دحض كامل أو إعادة التفكير. انها أيديولوجيا وهمية، لإنها تحاكي المعرفة الحقيقية فقط، ولأنها غير قادرة على الشك في أسس أفكارها فهي تتحدث أولاً وقبل كل شيء عن الظروف المرغوبة للوجود الإنساني وتعطي تفسيرًا لسبب كونها أكثر تفضيلاً، أي كيف ينبغي أن تكون. ولذلك، فإن “الأيديولوجيات الكبرى”، على سبيل المثال، الليبرالية، والاشتراكية، وإلى حد ما المحافظة ، احتوت دائمًا على مشروع لمستقبل أفضل، وهو مثال سياسي ينبغي للمرء أن يسعى لتحقيقه من أجل الصالح العام.

ففي العقود الأخيرة، استخدم الماركسيون، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الباحثين الأكاديميين المتأثرين جزئيًا بالأفكار الماركسية، عوامل البنية الفوقية لتفسير لماذا لم تؤدي “التناقضات” في البنية التحتية، في معظم الحالات، إلى سقوط الرأسمالية، مع ان سقوط الرأسمالية كان متوقعا في كثير من الأحيان. فقد كان استنتاجهم واضحًا تمامًا: لان السلطة في المجتمعات الرأسمالية تعتمد على فرص كبيرة لخلق الهيمنة – وهي هيمنة مبطنة لا يدرك فيه غالبية المواطنين أنهم تحت السيطرة الأيديولوجية الكاملة من قبل السلطات.

تتخذ هذه الحجج أشكالًا مختلفة، كما هو الحال في جميع الحركات الماركسية، فهي دائمًا تستند إلى أفكار حول الطبيعة البشرية والتقدم التاريخي، وتحتوي أيضًا على فكرة عما كان يمكن أن يصبح عليه المجتمع لولا الرأسمالية التي تمنع التقدم الحقيقي والعدالة.  حيث صرح الفيلسوف السياسي الأرجنتيني إرنستو لاكلاو (1935-2014) أنه لم يسبق أن كان التفكير في “الأيديولوجية” حاضرًا بشكل كبير في قلب المناهج النظرية الماركسية. ومع ذلك، لم يحدث أن أصبحت الحدود والهوية المرجعية لـ “الأيديولوجية” معقدة ومشكلة إلى هذا الحد. فإذا كان هناك نهجين كلاسيكيين لمشكلة الأيديولوجيات – الشمولية الاجتماعية والوعي الزائف، يعتقد لاكلاو أن كلا منهما يبدو اليوم غير واضح، بسبب أزمة المقدمات التي يعتمدان عليها، فالمجتمع الاجتماعي، وعلى نطاق أوسع – المجتمع ككل مستحيلان، وكنتيجة لذلك أصبحت اليوتوبيا جوهر كل التواصل والممارسة الاجتماعية؛ والوعي الزائف يرجع إلى فقدان الهوية كعامل اجتماعي. وفي الماركسية، تقوم فكرة هذا النوع من الذاتية على مفهوم “المصالح الطبقية الموضوعية”. ومع ذلك، فإن أزمة الأحزاب التي تلعب دور حامل المصالح التاريخية الموضوعية للطبقة العاملة تؤدي إلى ظهور “الاستبداد المستنير” للمثقفين والبيروقراطيين الذين، يتحدثون باسم الجماهير، ويشرحون لها مصالحها الحقيقية ويفرضون عليها مصالحها الحقيقية والمزيد من أشكال السيطرة الشمولية الامر الذي يجعل الطبقة مغتربة أكثر فأكثر.

فالمجتمع مجزأ ومفتت، والبنية الاجتماعية غير متبلورة ومتحركة، مما يفسح المجال أمام فسيفساء ذات حدود غير واضحة وغامضة، فتتزايد الشكوك حول هوية الفاعلين الاجتماعيين. وهذا هو السبب، بحسب العديد من الباحثين، في نهاية عصر «الأحزاب الأخلاقية» ذات الأيديولوجية المتحجرة الجامدة.

كتب المفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي الحديث ريمو بودي عن هذا قائلا: “… في الوقت الحاضر يجب البحث عن الدعم لحزب سياسي بنفس الطريقة التي يتم بها البحث عن مشتري السيارات. ” أي يجب أن يكون المنتج جذابًا، من الناحية الشكلية بحيث يؤثر في نفسية المشتري واغوائه بل ابعد من ذلك: ” فإن قوة الإغواء والإغراء والإقناع، تخترق الوعي بقوة وتسلبه من الداخل وليس فقط الاستلاب الشكلي الخارجي.

 

“أطروحة ما بعد الحداثة”

 

ظهر نهج آخر في الثمانينيات يتعامل مع “الأيديولوجيات”.  التي يسميها بعض الباحثين “أطروحة ما بعد الحداثة” (وهو مصطلح ظهر لأول مرة بين نقاد الأدب الأمريكيين في الستينيات). بمعنى ما، يعد هذا شكلاً جديدًا من مقترحات “نهاية الأيديولوجية”، على الرغم من أنها لا ترتبط بأي نظام عقائدي محدد. وهكذا، قال فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي ج.ف. ليوتار أن العالم الحديث يتميز بأزمة “السردية الكبرى” المتأصلة في الأيديولوجيات العظيمة لعصر التنوير؛ وفقدان الثقة في قوة الأيديولوجيات. وكبديل عن ذلك، قدمت ما بعد الحداثة فكرة التعددية، وأنكرت إمكانية وجود سبب واحد وركزت على تعدد الاحتمالات، أو كما أكدت الموسوعة البريطانية: «أن الخطابات الراسخة لعصر التنوير هي إلى حد ما اعتباطية وليست راسخة».  ولذلك وبعد إضفاء الشرعية عليها، يمكن تغييرها؛ وطالما أنها تعكس بشكل أو بآخر مصالح وقيم من هم في السلطة، فهي قابلة لتغيير.

اقترحت ما بعد الحداثة خطابا مختلفًا تمامًا من الخطاب مقارنة بالخطاب الحداثوي السابق اي رفض المعاني الثابتة، والاعتماد بشكل أساسي على الأيديولوجيات كوسيلة لحماية السلطة السياسية وعلى خلفية النسبية والمعرفة السياقية، تصر ما بعد الحداثة على المرجعية الذاتية، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والهزلية والانتقائية السائدة.

وبناء على ذلك حتى نوع الزعيم السياسي قد خضع للتغير. أو كما كتب عالم السياسة التشيكي ياروسلاف شيموف: «بدلاً من السياسيين المغامرين في عصر الديمقراطية المبكرة، والساسة المقاتلين في زمن الديمقراطية الليبرالية (يمكننا أن نتذكر بسمارك وغامبيتا، وكليمنصو وتشرشل)، نحن نتعامل اليوم مع سياسيي السلع، الذين تتمثل مهمتهم الرئيسية في بيع أنفسهم بنجاح للجماهير المشتتة في عصر ما بعد الحداثة، الذين “يشترون” الرؤساء ورؤساء الوزراء والنواب في الانتخابات بنفس الطريقة التي يشترون الفشار والبيرة وحفاضات الأطفال من محلات السوبر ماركت. فالمظهر أصبح عاملاً حاسماً في الحياة المهنية للسياسيين و الأفراد والأحزاب والجماعات. والمظهر، في نهاية المطاف، هو انعكاس للمواقف الأيديولوجية.

بعد نهاية الحرب الباردة، توصل العديد من الباحثين إلى استنتاج مفاده: أن الأيديولوجيات، على الأقل الأيديولوجيات الكلاسيكية “الكبيرة” – الليبرالية، والمحافظة، والاشتراكية، وما إلى ذلك – – فقدت معناها. ومع ذلك، أظهر العقدان الأولان من القرن الحادي والعشرين أن الأنظمة الأيديولوجية قد اكتشفت قدرتها على البقاء؛ ومع ذلك، ظهر إيديولوجيويون وأيديولوجيات مؤثرة جديدة.

بدأت أيديولوجيات مثل الاشتراكية، والتحررية، وحماية البيئة، والنسوية، وغير ذلك، وفي الوقت نفسه ظهرت العولمة ومناهضة العولمة بسرعة كبيرة. وكان هناك ميل واضح إلى الجمع بين الإيديولوجية والجغرافيا السياسية، والعلاقات الدولية، والأمن القومي، بما في ذلك “القوة الناعمة”. كما ظهرت، “الوسطية الغربية”، وكذلك الإسلاموية، وخاصة الإسلام الراديكالي، وتعززت بشكل كبير. ومن هنا استمرت الأيديولوجيات في الاحتفاظ بأهميتها، وللأسباب نفسها يمكن الاعتقاد بأنها ستستمر في المستقبل على الرغم من تغير محتواها. وكما يرى الباحثون في هذا الاتجاه، ان الثقافة الجماهيرية أصبحت طوطما جديدا، في مقابل الثقافة الرفيعة الاصيلة. فمثلا غوته وشكسبير يختفيان من الثقافة الفنية أو يتم تغييرهما بشكل يصعب التعرف عليهما، بالمقابل تحتل المسلسلات التلفزيونية مكانً الصدارة في البرامج التلفزيونية وغيرها. بحيث يصبح أسلوب حياة الأبطال، مبنية ليس على الظروف الاجتماعية الحقيقية ولكن على التخيلات الوهمية للفقراء حول حياة “الأغنياء”، والتي غالبًا ما تكون منفصلة عن الحياة الواقعية – وبشكل مختصر   هو نوع من الدعاية الأيديولوجية. فالأيدولوجيات ليست راسخة بل هي خاضعة للتغير، ليست أداة للمعرفة وتشكيل الوعي العام بل تلعب دورا كبيرا في عالم الواقع المشوه.

 

بناء الأيديولوجيات

 

تتخذ الأيديولوجيات شكلاً جديدًا مع بروز مناهج من قبيل البنائية في العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية. ولا يتعلق الأمر بفهم معنى وآليات بناء الأيديولوجيات وتفكيكها. بل الأهم من ذلك هو النظر إلى الأيديولوجيات باعتبارها رؤية عالمية لعصر ما بعد اللاكلاسيكي مع تناقضها الداخلي الوجودي من ناحية، والاعتراف بالفوضى والعشوائية وغموض الأفكار من ناحية أخرى، مع الرغبة الدؤوبة في الجمود والتحريم والدوغمائية وشبه التدين النسبي والأحكام الفردية

إن اسم “البنائية” في حد ذاته كان بمثابة “الزينة على الكعكة” التي توجت تاريخًا فكريًا طويلًا نسبيًا. لأنه، على الأقل منذ بداية الحداثة، ظهر الانقسام بين “المعنى والمبنى” باستمرار في الفكر الفلسفي والسياسي. ومع ذلك، سيكون من غير الصحيح اعتباره مجرد توليفة من النماذج والحركات الأيديولوجية المختلفة في العصور السابقة. استخدم البنائيون بشكل واعي مفهوم “البناء” باعتباره كائنًا مثاليًا ينتجه الوعي الإنساني، أو قالب تصنيف وتقييم يدرك من خلاله الإنسان العالم. لذلك، منذ البداية، لم يكن للتاريخ البنائي مصدر واحد للمفهوم. بل كان للشجرة البنائية جذور كثيرة، ومن ثم فروع كثيرة في المستقبل. ومن هنا تعددت الأيديولوجيات والمفاهيم، مع التثبيت الصارم للتفسير الأكثر قبولا للأحداث والظواهر لمجتمع أو مجموعة معينة.

تتميز البنائية بتنوع استثنائي في الأساليب والتفسيرات، فالبنائية تعددية بحكم التعريف ويتم تقديمها اليوم في العديد من المتغيرات: الحداثية وما بعد البنيوية، “الناعمة” و”الصلبة”، المعتدلة والراديكالية، النقدية والتقليدية، ما بعد الحداثة والكلاسيكية الجديدة، وغيرها. يحدد مايكل ماثيوز أكثر من 20 شكلاً مختلفًا من أشكال البنائية من حيث الاعتبارات المنهجية والراديكالية والتعليمية والجدلية، دون احتساب المتغيرات الانتقائية بينهما.

بالإضافة إلى ذلك، تختلف البنائية بشكل ملحوظ من حيث المواضيع المختلفة، بدءًا من قضايا الهوية والأعراف إلى التقاليد والعواطف والشبكات الاجتماعية. ومع ذلك، فإن الموضوع الرئيسي للبنائية لا يزال يعتبر تقييم سياسات الهوية، أي فكرة كيفية بناء المشاركين السياسيين لبعضهم البعض وكيفية إعادة إنتاجهم في النصوص، بما في ذلك النصوص السياسية الدولية. وفي النهاية يؤكد د.ب. كازارينوفا، بإن مفهوم مشروع القيمة السياسية والأيديولوجية يقعان في نفس المجال الموضوعي. ويتلقى مشروع القيمة السياسية تعبيره الانعكاسي في أيديولوجية أو مجموعة من الأيديولوجيات التي تشير إلى خطاب أيديولوجي محدد.

تركز الأيديولوجية في محتواها الدلالي والعاطفي والقيمي في شكل رمزي، لكن الأهم هو أنه لا جدال فيه ولا يحتاج إلى أدلة أو حجج، فهو عادة ما يؤخذ على شكل التسليم و الإيمان بكل بساطة. وهذا نتيجة للتداخل الذاتي بين الحكومة والمجتمع، الذي هو نوع من “العقد الاجتماعي” بين الفرد والمجتمع والدولة، أو كما يؤكد ك. Koktysh، “الأيديولوجية تخلق الفضاء الذي يوحد الخاص والعام، والبراغماتية الشخصية ومصالح الدولة في نظام دلالي واحد. هذه الوحدة التي بدونها لا يمكن للنظام السياسي أن يوجد”. وبناء على ذلك تتضاءل مجالات عدم اليقين، باعتبارها السمة الأكثر تميزاً للنظام العالمي الانتقالي الحالي.

إعادة أدلجة المجال الدولي

إن “زمن الاضطرابات” الجديد بكل ما فيه من شكوك وغموض ومشاكل غير متوقعة وأحداث لا يمكن التنبؤ بها، هو أمر طبيعي تمامًا، يفترض مسبقًا الموافقة على بعض الثوابت الجديدة، وفي كثير من الأحيان “الأبدية”، والتي يمكن أن تكون بمثابة ثوابت نسبية على الأقل، هذه الفكرة يمكن ان تكون نقطة ارتكاز في تفسير إعادة الادلجة الجديدة، والتي لا تعني ضمنا البحث عن مشروع طوباوي جديد “كبير” من أجل الصالح العام، بل عن إيديولوجيات مجزأة ومحددة. لقد أصبح التأكيد على “الحقائق التي لا جدال فيها” جزءا طبيعيا تماما من عمليات تدويل جميع مجالات الحياة العامة تقريبا، والترابط، بدءا من مجال التعليم وانتهاء بجميع جوانب الأمن الدولي تقريبا.

هذه الثوابت اليوم هي: قيمة التعاون الدولي مع الاعتراف بأهمية السيادة الوطنية، والتفكير في معنى حقوق الانسان بشكل عام مع الاخذ بعين الاعتبار الوضع القائم والقيمة الجوهرية للديمقراطية باعتبارها “مثالًا” أو شعارا مع تجاهل للوضع الحقيقي أو التقاليد السياسية الوطنية القائمة.

لا تزال بعض الصور النمطية الأيديولوجية قائمة، على الرغم من أنها غالبًا ما تختلف عن بعضها اختلافات دقيقة في التفسير:

  • فكرة المهمة “الخاصة” لبلد معين (حامل الليبرالية والديمقراطية الحقيقية، “المهمة التاريخية” في اشكال مختلفة، (اختيار الله والمسيانية، وغيرها).
  • فكرة الانتماء إلى “حضارة” حقيقية وضرورة نقل أفكارها ومبادئها الأساسية إلى دول ومناطق أخرى من العالم. “الوسطية الغربية”.
  • فكرة “المصير التاريخي” و “العصر الذهبي” في الذاكرة التاريخية مع تجاهل الحقائق التاريخية، وإضفاء الأسطورة على “الماضي المجيد”.
  • بناء “صورة العدو”، أي قوة غامضة معينة تعرقل حل المصالح الوطنية العليا. التهديد من المهاجرين والمتعصبين دينيا، والجماعات القومية العرقية أو الاجتماعية الفردية، وهمجية الثقافة، وغير ذلك.
  • اعتبار اللحظة الراهنة “حاسمة” ومصيرية وتتطلب وسائل جذرية، بما في ذلك الحل العسكري بوصفه قيمة كبيرة في الكوارث والعمليات العالمية.
  • الخوف من المستقبل – وخاصة المستقبل المجهول مع التركيز على “التهديدات” المختلفة، التي يصعب التنبؤ بعواقبها مثل (فيروس كورونا والأمراض الوبائية والسارية الاخرى) إضافة الى تبعات الرقمنة والذكاء الاصطناعي).

بمعنى آخر، في التقليد الأنجلوسكسوني الحديث، ومن بعده التقاليد الأخرى، غالبًا ما يُشار إلى مفهوم الأيديولوجيا على أنه “مفهوم متنازع عليه بشكل أساسي” على غرار و.غالي، الذي جادل، ومؤيديه حول “الجوهر” المفاهيمي “للعقدة العصبية”  حيث ظهرت تفسيرات مختلفة لنفس المفهوم والتي تحدد مسبقًا البنية المعقدة للغاية لبعض المفاهيم والقيم السياسية (على سبيل المثال، الحرية، والمساواة، والسلطة، والعدالة، والسياسة، والدولة، وما إلى ذلك)، مما يسمح بالنقاش حول تفسيرها الأكثر ملائمة. وهذا ما يمكن ربطه مع آراء س. جيجيك حول عملية بناء الأيديولوجيات. حيث يبين أوجه التشابه والاختلاف في قيم ومعاني المفاهيم، فضلاً عن المفاهيم الرئيسية (مثل “الأمة”، “الديمقراطية”، “النظام العالمي”، ” الحرية، “العدالة”، الخ.). ومع ذلك، فهذه ليست مجرد مجموعة من المفاهيم، بل هي نظام تفسير لهذه المجموعة، وبالتالي، تنتمي الأيديولوجيات إلى مجال التفكير الرمزي.

وليس من قبيل المصادفة أن الأيديولوجيات غالبا ما يتم تحديدها بالخطابات. بل كثيرا ما يستخدم مفهوم “الخطاب الأيديولوجي” الذي يتشكل في إطاره المعاني فتلعب الخطابات من خلال اللغة والمحادثة، وعلى نطاق أوسع – التواصل – دورًا حيويًا في إعادة إنتاج الأيديولوجيات كأفعال سياسية، علاوة على ذلك، وبالاعتماد على الأساطير، تسعى الأيديولوجيات الحديثة إلى الحصول على الدعم ليس فقط في المجالات الاجتماعية، ولكن أيضًا في المجالات المعرفية، ولا سيما من خلال الواقع الافتراضي. انه شكل جديد ولكنه فعال بشكل كبير من “الخيال السياسي”، الموسوم بالإيمان، مع القليل من العلم والموثوقية.

إن تطبيق البنائية في النظرية السياسية ونظرية العلاقات الدولية يعني بداية مرحلة جديدة في تطور الأيديولوجيات. ولكنها مرحلة لا تخلو من الصعوبة في بناء الأفكار وإمكانية تحقيقها أي جعلها مقبولة بشكل عام.

فمنذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تقريبًا. وحتى يومنا هذا لا يزال الجيل الثالث من البنائيين نشطًا. وهو يتميز، أولا وقبل كل شيء، بالعودة إلى ما بعد الوضعية (بكل تنوعها)، والتحول مرة أخرى إلى دراسة الخطابات وخيارات تفسير المعاني. وفي الوقت نفسه، نحن لا نتحدث عن تكرار الماضي، بل عن تطور ملحوظ في المقاربات الوجودية والمعرفية والمنهجية والأخلاقية للجيل الأول، عندما كانت البنائية لا تزال تظهر بشكل خجول كحركة للفكر السياسي، ولكن في نهاية القرن الماضي، كانت تخلق، إيديولوجيين وأيديولوجيات جديدة.

طور الجيل الثالث  بسرعة نسبية اهتمامًا خاصًا بموضوعات معينة، ولا سيما التأمل الذاتي للمراقب، والتواصل، وسياق الأحداث، والبنائية الذاتية بشكل عام، وما إلى ذلك. إذا كان البنائيون من الجيل الثاني السابق غير مهتمين تقريبًا بمشكلة الذات – “أنا” ولم يأخذوا في الاعتبار عمليًا الطبيعة الاجتماعية العميقة للعلاقات الإنسانية، فقد تم توجيه اهتمام ممثلي الجيل الثالث نحو الفهم والاعتراف بمقبولية السلوك المنحرف أولاً وقبل كل شيء وعدد من جوانب الاتصال المحددة. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك بعض المراجعة للمصادر النظرية للبنائية، التي تلعب دورا بالغ الأهمية في البناء الأيديولوجي للسياسة الدولية. إذ لم يكن من حيث المبدأ، أي غموض بالنسبة للدبلوماسي أو للسياسي في مفاهيم مثل “المصلحة الوطنية”، و”الحليف”، و”العدو” (حيث كانت المناقشات تدور حول معناها الدلالي بين المنظرين السياسيين والمؤرخين والعلماء والفلاسفة)، ثم في سياق الصورة ما بعد الحداثوية للعالم، ظهرت بعض المؤامرات والاستعارات الجديدة للعلن، ولكنها غامضة ومعقدة حتى بالنسبة لممثليها أحيانا.  في هذه المسالة، يأخذ مفهوم “الآخر” كشريك وحليف وخصم وحتى عدو معنىً جديدًا. هذا ما يبين لنا المعنى الذي يتم وضعه في هذه المفاهيم اليوم، بما في ذلك أيديولوجيات السياسة الخارجية.

اتجهت أفكار «العائلة» البنائية من الجيل الأخير إلى فلسفة الحوار للفيلسوف الوجودي النمساوي الإسرائيلي الشهير مارتن بوبر (1878-1965)، الذي رُشح مراراً وتكراراً لجائزة نوبل، لكنه لم يحصل عليها قط.

إن شروط الحوار بين الأشخاص، بحسب بوبر، ليست مجرد الحضور، بل النية الحقيقية لحل بعض المشاكل معًا، فضلاً عن انفتاح الناس تجاه بعضهم البعض. وهذا هو معنى المقاربة المعيارية للواقع الاجتماعي. ونتيجة لذلك تنشأ علاقة “أنا – أنت”، أي القدرة على سماع المحاور وإدراك وحدة التعايش معه حيث يتيح لك بناء علاقات “أنا وأنت” ربط العديد من “أنا” حول مركز مشترك، وبالتالي إنشاء “مجال شخصي” من العلاقات، أو “نحن” كمجتمع.

العلاقات من كلا النوعين، بحسب بوبر، لا تنشأ فقط بين الأفراد، بل أيضًا بين الأفراد والطبيعة، وحتى بين الكيانات الفكرية مثل النظريات، وقد أضاف الأمميون إلى ذلك أيضًا العلاقات بين الدول. على أية حال، هذا يعني قبول “الآخر”، والاعتراف بالآخر. وقد أكد بوبر أنه لا مجال للهيمنة أو الهرمية في الحوار، ولا مجال لإقصاء أحد من المشاركة. وعليه فإن «العالم الحواري» عند بوبر هو حدث يقع بين موضوعين دون أي تحفظات. لكن الحوار الحقيقي أصبح مستحيلاً في عصرنا هذا، لان الظروف المرافقة كثيرة جداً. فحوار الأنا والأنت يفترض الإصغاء ووحدة الوجود.

إن مشكلة الوحدة البشرية لا يمكن ان تحل لا مع الفردية ولا الجماعية. لذلك توقع بوبر الانتقال من مواجهة القيمة الرئيسية في القرن العشرين بين الفردية والجماعية، إلى مواجهة قيمة جديدة في القرن الحادي والعشرين – بين القيم التقليدية وفوضى ما بعد الحداثة. علاوة على ذلك، فإن الحوار، من حيث المبدأ، يتناقض مع فكرة الإيديولوجية كنموذج ثابت للتفسير، وبالتالي الجدلية، التي تفترض بوضوح أن أحد الأشخاص لا يسمع ولا يريد أن يسمع الآخر.

بالنسبة للبحث الدولي، فإن الفكرة الأكثر إثارة للاهتمام هي فكرة بوبر القائلة بأن العلاج الرئيسي لمجتمع مغترب حديث يمكن أن يكون الحوار بين الأشخاص، مما يخلق إمكانية تحويل المجتمع إلى “مجتمع متعاون “.  مضاعفة العلاقة بين “الأنا والأنت” مع التمركز حول مركز واحد والانتقال إلى “نحن”. ومن الواضح أن تطبيق ذلك على مستوى السياسة العالمية، يؤدي الى الالتفاف حول مركز سياسي “أحادي القطب”، على الرغم من أن بوبر نفسه، على ما يبدو، كان يفكر في توحيد البشرية قاطبة كمجتمع واحد.

وبالاعتماد على بوبر والعديد من المفكرين الآخرين العاملين في مجال العلاقات بين الفاعلين والبنيوية، يعمل الإيديولوجيون المعاصرون على بناء إيديولوجية قوية لـ “الوسطية الغربية” في السياسة العالمية ولكنها انتقائية، ولا تزال مجزأة نسبيا، ومتناقضة داخليا، كما انها ليست أقل عدوانية.

إن الجدل والدوغماتية حول الليبرالية والاشتراكية والمحافظة وأيديولوجية التقدم وأولوية “الغرب” كحامل لروح “الحداثة” تتخلل عمومًا التاريخ السياسي بأكمله في الثلاثمائة عام الماضية. وتم تصدير عناصر من هذه الإيديولوجيات إلى بقية العالم، حيث حاولت عدد من البلدان ــ بنجاح في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى ليس بقدر كبير ــ منحها طابعها الخاص، الذي يعكس تجارب تاريخية وسياسية محددة وأنواعاً مختلفة من التفكير.

ولكن الصراع لم يكن على الأفكار فقط إلا في حالات قليلة نسبياً؛ وفي أغلب الأحيان كان صراعاً بين الدول، ليس فقط من أجل الأرض والنفوذ والسلطة، بل من أجل تمثيل “الغرب” الحقيقي، أي. الظهور كقائد لـ “عالم حر ومتطور للغاية” يعارض “البرابرة” المتخلفين. لقد تطور هذا الصراع على مر القرون، سواء بين الدول أو داخلها. واستمر حتى يومنا هذا، على الرغم من أن المفكرين الليبراليين حاولوا مرارًا وتكرارًا إثبات أن الأيديولوجية قد بلغت نهايتها، حيث من المفترض أن الليبرالية لم يعد لديها أي منافسين. غير أن الوضع أكثر تعقيدا من ذلك بكثير. ويحدث التنافس الأيديولوجي داخل الليبرالية نفسها وغيرها من الأيديولوجيات “الكبيرة”، لكن مركز التناقضات يتحول نحو القضايا الفردية، التي تبدو ثانوية في ظاهرها، والتي تكون في الغالب ذات طبيعة براغماتية ملموسة.

إذا كان الأيديولوجيون اعتمدوا، حتى في الماضي القريب نسبياً، على نماذج نظرية تفترض في كثير من الأحيان (ضمناً أو صراحة) وجود مجتمع دولي راسخ ظهرت فيه بالفعل الجهات الفاعلة الرئيسية ذات الهويات والمصالح المحددة، فإن الأيديولوجيين اليوم يستلهمون بشكل أساسي التفاعلية الرمزية وأنشطة الممثلين والدراما الواقعية. وفي سياق التحول الواسع نحو التطبيق العملي لنظرية العلاقات الدولية، بدأ البنائيون النظر اولا إلى الممارسة اليومية للسياسة العالمية، وتحولوا إلى إيديولوجيات ما بعد الحداثة، وفي أغلب الأحيان ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء دمجها في الأيديولوجيات المقبولة بشكل عام، من هنا فان الأفكار الفلسفية والنظريات التي كانت بالأمس عصرية ومبتكرة اصبحت الان مبتذلة.

ومن الواضح أن الجيل الجديد من الخبراء الدوليين، الذي تم تشكيله بالفعل، سوف يصبح منتقدًا قويا لأفكار معلميهم، علما انها حركة فكرية طبيعية تمامًا.

ومن ناحية أخرى فإن السياق الاجتماعي والسياسي للسياسة العالمية السريعة التغير يشكل أهمية بالغة ــ وهذا ما ينسجم تماماً مع المواقف البنائية. فمنذ نهاية القرن العشرين، تبلورت عملية مكثفة وبشكل متزايد لنهضة الإيديولوجيات من خلال دحض نظرية “نهاية الإيديولوجيات”. والسبب في ذلك واضح تماما. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الاستياء المتزايد بين من هم في السلطة والمواطنين العاديين والاستياء من المبادئ التوجيهية الجديدة التي عفا عليها الزمن بشكل ملحوظ أو غير المقنعة بما فيه الكفاية بشأن “فترة الانتقال” في سياق مجهول. فالمستقبل مخيف، والماضي لم يعد يقدم إجابات مقنعة على ألغاز ما يحدث اليوم.

إن البحث عن أنواع مختلفة من الأيديولوجيات الوطنية والحكومية والحزبية وغيرها من الأيديولوجيات المؤسساتية هو دلالة مكثفة على عصرنا الحالي. لا كما كان الحال في الماضي. فالأيديولوجيات أصبحت اليوم وعلى نحو واضح شكلاً من أشكال تحديد الهوية الذاتية لكل من الأفراد وكيانات الدولة، فضلاً عن كونها مادة وموضوعًا للتحليل العلمي والنظري. إن ثقافة المجتمع البشري غير المتجانس اجتماعيًا تجسد حتماً مجموعة متنوعة من أنواع الأيديولوجيات – (الدينية والسياسية إلى القومية العرقية والمهنية) ومن خلال التشابك والتداخل المتبادل مع الثقافة، تتحول الأيديولوجية إلى خلفية الاتصال الأساسية للتفاعلات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فهو شكل من أشكال معرفة الذات وتقرير المصير وتحديد الهوية الذاتية في عالم فوضوي يفتقر الى الاستقرار واليقين بشكل متزايد.

التعليقات مغلقة.