قمع الكرد داخل وخارج تركيا في مرآة تقرير “هيومن رايتس ووتش” لعام 2023
خضعت أوضاع حقوق الإنسان بالنسبة للكرد خلال عام 2023 في كل من تركيا وإيران وسوريا لمزيد من التراجع والانتكاسات. لطالما كانت «هيومن رايتس ووتش» ترصد أوضاع الكرد في كل دولة على حدة، ولا تتحدث عنهم في إطار عمليات القمع خارج الحدود التي باتت سمة السياسة التركية التي تواصل استهداف الكرد في ثلاثة دول في آن واحد، ما عنى أن الأدوار التركية في قمع الكرد باتت تتخطّى الحدود الإقليمية للدولة وأضحت تأخذ طابع الحرب المفتوحة على ما تحمله من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم حرب ترقى لاعتبارها حرب إبادة مشفوعة بصمت دولي مطبق.
بالنسبة للداخل التركي، ركز التقرير السنوي الذي حمل عنوان «في مئوية تركيا، تسييس المحاكم وتكميم أفواه الإعلام» على جملة السياسات المضللة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية إبان الانتخابات التي جرت في مايو/أيار 2023 حين عملت حكومة رجب طيب أردوغان على تبني خطاب شعبوي مضلل يثير الانقسام الشديد ضد أحزاب المعارضة، إذ «اتهمت باستمرار حزب الشعب الجمهوري بدعم حزب العمال الكردستاني، ووزعت فيديو مزيفاً يُظهر كمال كيليتشدار أوغلو من حزب الشعب الجمهوري مع لقطات لقادة حزب العمال الكردستاني». ولعل لجوء أردوغان إلى مثل هذا الترويج المبتذل لعلاقة تجمع منافسه بالقيادات الكردستانية إنما كان هدفه الشدّ من عصب الناخب التركي الشوفيني واستقطاب الاتجاهات الفاشية نحو خطاب يعادي أي أفق مستقبلي للسلام. ولم تنفع إلى ذلك محاولات المعارضة في «طاولة الستة» الردّ على مزاعم حزب العدالة والتنمية أو الإشارة إلى حقيقة أن أردوغان نفسه كان يسعى للتفاوض مع حزب العمال الكردستاني إبان عملية السلام الكردية التركية. كذلك، سعت الحكومة التي استأثرت بأكثر وسائل الإعلام أهمية وانتشاراً لدفع مرشح المعارضة لرئاسة الجمهورية للتفوّه بكلمات ضد حزب العمال، وهو الأمر الذي أضفى الكثير من الفتور على مواقف الناخبين الكرد الذي نجح أردوغان في وضع نسبة منهم أمام ثلاثة خيارات: انتخاب الاتجاه الفاشي الذي يمثّله التحالف الحاكم، أو انتخاب مرشّح المعارضة الذي بالغ في ردّ فعله تجاه «الكردستاني»، أو العدول عن فكرة انتخاب أيّ من المرشّحين للرئاسة.
ومن بين الأدلة التي احتكمت إليها «هيومن رايتس ووتش» ما تعرّض له حزب الشعوب الديمقراطي من تسييس قضائي أدى إلى اختلاق قضية إغلاق طاولته ولم يتم البت بها أمام المحكمة الدستورية التركية، فيما أوصى أنصاره بدل ذلك بالتصويت لحزب آخر هو حزب اليسار الأخضر الذي فاز بـ61 مقعداً. وفي إزاء شرح السياسة القمعية للنظام التركي، تحدّث التقرير عن أن عشرات رؤساء البلديات وأعضاء البرلمان السابقين في حزب الشعوب الديمقراطي ومسؤوليه يقبعون «في السجن احتياطياً أو يقضون أحكاماً بعد إدانتهم بجرائم إرهابية بسبب أنشطتهم السياسية المشروعة غير العنيفة وخطبهم ومنشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، من بينهم الرئيسان المشاركان السابقان لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش وفيغن يوكسكداغ، المسجونان منذ 4 نوفمبر 2016، رغم أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بإطلاق سراحهما فوراً».
وفي مبحثها الخاص حول «حرية التعبير»، أوضح التقرير الآلية التي تمكّن الحكومة من السيطرة على مؤسسات الدولة، لاسيما وسائل الإعلام الحكومية، ودفعها لإصدار قرارات منها قرار «المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون»، وهي هيئة تنظيم البث المؤيدة للحكومة، «غرامات تعسفية على القنوات التلفزيونية القليلة المنتقدة للحكومة، لا سيما قناة [خلق تي في]، بسبب التعليقات التي أُدلي بها على منصتها خلال فترة الانتخابات. ومن بين مَن غُرِّموا وفُرضت عقوبات عليهم قناة (تيلي 1)، التي اعتُقل رئيس تحريرها ميردان يانارداغ في 27 يونيو بحجة تعليقاته غير التحريضية بشأن عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني خلال بث تلفزيوني»، وهو ما عنى أن هناك تهمة جاهزة وهي ذكر اسم أوجلان، دون التحريض عليه أو على أفكاره، قد تعتبر تهمة بحدّ ذاتها. وفي المحصلة، أُطلق سراح يانارداغ من الحبس الاحتياطي في جلسة محاكمته الأولى في 4 أكتوبر/تشرين الأول بعد محاكمته بتهمة «نشر الدعاية الإرهابية» و«الإشادة بالجريمة والمجرمين»، إذ أدين وحكم عليه بالسَّجن 30 شهراً، وهو الحكم الذي استأنفه. بالإضافة إلى ذلك، عُوقبت في أغسطس/آب قناة «تيلي 1» نتيجة تصريحات يانارداغ بتعليق بث القناة لسبعة أيام، وهو إجراء غير مسبوق.
وفي المبحث نفسه، أبرز التقرير أن الصحافيين الكرد هم عرضة للاستهداف «بشكل غير متناسب»، ليستعرض التقرير كيف أن محاكمةً في آمد ديار/ بكر شملت 18 صحافياً وإعلامياً كردياً متهمين بـ«الانتماء إلى منظمة إرهابية»، كان 15 منهم أمضوا بالفعل 13 شهراً في الحبس الاحتياطي قبل إطلاق سراحهم في الجلسة الأولى في يوليو/تموز. وفي محاكمة في أنقرة شملت 11 صحافياً كردياً، كان تسعة أمضوا بالفعل سبعة أشهر في الحبس الاحتياطي قبل إطلاق سراحهم في جلسة الاستماع الأولى في مايو/أيار. إن تقييد حرية الرأي الذي يطاول الصحافيين الكرد أكثر من نظرائهم الأتراك طبقاً للأرقام، يعكس مقدار قمع السلطات التي تسعى إلى كم أفواه الصحافيين الكرد باتباع وسائل قانونية مسيّسة تتبع للسلطة التنفيذية التي باتت تخالف مضامين الدستور والقوانين المرعية.
أما في الفصل الذي حمل عنوان «حرية التجمع وحرية تكوين الجمعيات» بوصفها إحدى الحريات العامة المؤيدة بنص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بيّن التقرير كيف تحظر الحكومة «بشكل معتاد الاحتجاجات والتجمعات للدوائر الانتخابية المنتقدة للحكومة، وغالبا ما تنتهك أحكام المحاكم المحلية التي تخلص إلى هذا الحظر غير متناسب»، وهو ما يعني أن الدولة باتت من جهة تفرض مناخاً ديكتاتورياً على حقي التجمّع وتكوين الجمعيات، ومن جهة أخرى لم تعد تقيم وزناً للأحكام القضائية، إضافة إلى العنف الذي تمارسه الشرطة بحق المتظاهرين المرتبطين بـ«الجماعات اليسارية أو الكردية». والأدهى من ذلك أن اعتقال بعض المتظاهرين أو حبسهم احتياطياّ يأتي على خلفية «تهمة مقاومة الشرطة أو عدم التفرّق».
ولئن كانت سياسات قمع الكرد تتجاوز حدود تركيا، فإن تقرير «هيومن رايتس ووتش» الخاص بتركيا نفسها أشار في الفقرة التي عنونتها بـ«النزاع الكردي وقمع المعارضة» إلى جملة سياسات قمعية طالت الكرد خارج تركيا أيضاً. من ذلك، تركيز تركيا في «حملتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني بضربات طائرات مسيّرة في شمال العراق (إقليم كردستان العراق).. وكذلك بشكل متزايد في شمال شرق سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية.. حيث دمرت الغارات التركية في أكتوبر البنية التحتية الحيوية وقطعت المياه والكهرباء عن الملايين»، وهو الموضوع الذي سنلحظ تداخله في سياق تقرير المنظمة عن تركيا، وتقريرها السنويّ الآخر عن سوريا.
ومن اللافت أيضاً، إبقاء المنظمة الدولية على استخدام لفظ «الاحتلال» فيما خص طبيعة التواجد التركي في سوريا دون استخدام أي لفظٍ موارب، إذ جاء في التقرير: «تواصل تركيا احتلال الأراضي في شمال سوريا، حيث انتهك وكلاؤها السوريون (فصائل المعارضة المسلّحة) حقوق المدنيين مع الإفلات من العقاب»، هو ما سيتكرر بشيء من التوسّع في تقريرها عن سوريا بالإشارة الواضحة في الفقرة التي حملت عنوان «الأراضي التي تحتلها تركيا في شمال سوريا»، إذ ذكرت أنه «في الأراضي التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، ارتكبت فصائل مختلفة من الجيش الوطني السوري والشرطة العسكرية، وهي قوة أنشأتها الحكومة السورية المؤقتة للحد من انتهاكات الفصائل، انتهاكات عديدة ضد عشرات الأشخاص، مع إفلات من العقاب. شملت الانتهاكات الاعتقال والاحتجاز التعسفيين، والإخفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والعنف الجنسي، والمحاكمات العسكرية غير العادلة».
من اللافت في التقرير التذكير بما قامت به الولايات المتحدة عام 2023 حين أعادت تركيا إلى قائمتها للدول «المتورطة في استخدام الجنود الأطفال رداً على دعمها لفصائل الجيش الوطني السوري المتهمة بتجنيد الأطفال»، وهو ما يكشف وجهاً آخر لطبيعة وأدوار تركيا التي تسعى إلى توسيع حقل سيطرتها حتى وإن كان الداخلون في خدمتها هم من الأطفال.
ما غاب عن التقرير هو عدم ذكر المناطق التي أُشير إليها بالآتي «واصلت فصائل الجيش الوطني السوري انتهاك حقوق المدنيين في السكن والأراضي والممتلكات، بما فيه الاستيلاء على المنازل والأراضي والمتاجر بالقوة. لا يزال مئات الآلاف من السوريين الذين فروا من منازلهم أثناء وبعد العمليات العسكرية التركية المتعاقبة في المنطقة نازحين ومحرومين من أملاكهم»، ذلك أن المناطق التي جرت فيها عمليات الاستيلاء بالقوة هي مناطق عفرين ورأس العين/سرى كانيه بدرجة أساس، وتحديداً الأملاك التي تعود لمواطنين كرد سوريين.
وفي تقريرها عن سوريا وفي الفقرة التي تحدّثت عن «شمال وشرق سوريا»، كثّف التقرير ما أقدمت عليه تركيا على مدار عام كامل في بضع كلمات، إذ «أدت ضربات الطائرات المسيرة التي شنتها القوات التركية إلى مقتل وإصابة مدنيين». غير أن التقرير استخدم خطاباً مضللاً في حديثه عن مشكلة المياه التي تتسبب بها تركيا واعتبارها ناجمة عن استمرار النزاع على المياه بين تركيا و«الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، ذلك أن مشكلة المياه تتأتى من تقليل تركيا لحصة سوريا من تدفقات نهر الفرات وقصفها للخزانات ومحطات المياه، وكذلك سيطرتها على محطّة علوك سره كانيه /برأس العين، فيما النتيجة التي خلص إليها التقرير تبدو دقيقة إذ إن مشكلة المياه أدت إلى «تعريض حق نحو مليون شخص في الحصول على المياه في مدينة الحسكة والمناطق المحيطة بها للخطر».
وإلى جانب الانتهاكات التركية في تركيا وسوريا، أشار التقرير في الفصل المخصص للعراق إلى مواصلة تركيا شن غارات جوية بانتظام واغتيالات مستهدفة في شمال العراق (إقليم كردستان العراق)، إذ تؤدي الاستهدافات التركية «إلى مقتل مدنيين». وفي يوليو/تموز 2023، «قدّم أربعة من الذين نجوا أو شهدوا غارة جوية تركية يُزعم أنها استهدفت مستشفى مدني في سنجار وقتلت ثمانية أشخاص شكوى رسمية إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. أدان العراق الهجمات مراراً باعتبارها انتهاكاً لسيادته، لكنه امتنع إلى حد كبير عن التحقيق في الهجمات أو تقديم تعويضات للضحايا».
في مجمل الأحوال، باتت حالات القمع والاستهداف والانتهاكات التركية لحقوق الإنسان وشنّها حرباً مفتوحة سياسية وأخرى عسكرية على الكرد تتخطى الحدود التركية وتأخذ طابعاً إقليمياً منذ التسعينيات، إلّا أن تصاعد وتيرتها مع احتلالها لأجزاء من المناطق الكردية السورية وإنشائها لقواعد ونقاط عسكرية ثابتة في إقليم كردستان العراق يشي بإمكانية استدامة الحرب واشتدادها في فترات متقاربة، فضلاً عن أن طبيعة الاستهدافات التركية في سوريا باتت تتسم بأنها جرائم حرب تتكثّف فيها كل ملامح حرب إبادة موصوفة.
وحدة الدراسات التركية- المركز الكردي للدراسات
التعليقات مغلقة.