منارة أخرى تنطفئ/إلياس حرفوش

26

8fb36450bf7447189a179de0d08b7b88

كلما سقطت ورقة من أوراق الشجرة اللبنانية العتيقة نشعر أكثر فأكثر كم أن الخريف ينشر بساطه ويمتد فوق تلك البلاد التي تتفكك وتتحلل، من غير أمل في ربيع قادم ينقذ ما يمكن إنقاذه.

بغياب المفكر اللبناني العروبي منح الصلح نحسّ بوقع الفراغ، وكم أن بيروت، تلك العاصمة التي كانت منارة ذات يوم، تضمحل ويختفي شعاعها. ليس لأن «البيك» كان علامة من علامات تلك المنارة. ليس هذا فحسب، بل لأن من يغيب لا يعوّض. لا شيء في زمن بيروت الحالي، في مقاهيها، في صالوناتها السياسية، في مجالس معظم قادتها، سوى الهذر والسطحية والانغلاق والتعصب الأعمى، المتزاوج مع الأمية والجهل، والذي بات علامة فارقة ووصفة لازمة لممارسة السياسة و»التفكير» في لبنان في هذا الزمن الضّحل.

يصدف أن يغيب منح بيك بعد أسابيع قليلة على غياب العلامة هاني فحص. عملاقان كان يجمع بينهما عمق التفكير ومسؤولية الانتماء الوطني، من غير عداء لمحيطهما، ويلتقيان على قدرة استثنائية على إعادة النظر في الأفكار، بما فيها أفكارهما، على أساس أن كل فكرة تحتمل الخطأ، وأن المثقف الحقيقي هو القادر على الجهر بالخطأ إذا تبين له طريق الصواب.

لم يسعفني الحظ بالتعرف شخصياً إلى السيد هاني فحص. غير أن معرفة مديدة أتيحت لي بمنح الصلح، من زمن يعود إلى أواسط سبعينات القرن الماضي، نتيجة قربه آنذاك من مجلة «الحوادث» وصاحبها الصحافي اللامع سليم اللوزي، الذي كان غيابه هو الآخر مؤشراً إلى النكسات التي ستلحق بالإعلام وبالجسم الصحافي في لبنان. قلة تعرف أن منح الصلح كان واحداً من أعمدة التحرير في «الحوادث»، من وراء الستار ومن دون توقيع. ولا أذكر عنه إلا كونه أستاذاً على تواضع جمّ، تجلس إليه لتتعلم منه، فلا يُشعرك سوى أنك مجرد محاور، يسمع منك بقدر ما يتركك تستفيد من عمق معرفته بتاريخ المنطقة وسياساتها وسياسييها، تلك المعرفة التي كانت تنطوي، حتى في تلك الأيام، على سخرية مضمرة من التخريب الذي يلحقه السياسيون بأصحاب الأفكار والمشاريع القومية الرائدة، سواء تعلق الأمر بمن خلفوا أنطون سعادة أو ورثوا ميشال عفلق، فضلاً عمّا أصاب الموجة الناصرية من تصدع على يد «ناصريي» لبنان وجيرانه.

عدا القفشات التي تنمّ عن سرعة بديهته كان منح الصلح منجماً للشعارات والأقوال التي تحفر عميقاً في العقول. من تلك الشعارات ما يلخص المسألة اللبنانية وحجة قيام هذا البلد الصغير: «لبنان لولا المسيحيين ما قام ولولا المسلمين ما دام». وبإدراكه الحاجة إلى هذا التلازم والتزاوج، التي هي الضرورة اللازمة لقدرة لبنان على البقاء، لم يكن منح الصلح سوى وريث نجيب لهذه الأسرة العريقة التي أسهمت، إلى جانب أسر أخرى، في صنع النموذج اللبناني، النموذج السنّي تحديداً، الذي ظل من أبرز العلامات الفارقة التي ميزت لبنان عن محيطه.

كم سنفتقد مقعد منح الصلح في مقاهي بيروت، التي كان، قبل المرض الذي أقعده في سنواته الأخيرة، واحداً من أبرز روادها. كانت هي صالونه الأدبي والسياسي، ونافذته على الصحافة والصحافيين، وعلى ما يجري في بلده، بلدنا، وفي المحيط. كما كانت تلك الجلسات الممتعة بطرافتها وخفة دمها، مدرستنا التي أقفلت أبوابها اليوم، ولا نرى أحداً يستطيع ملء كرسي التدريس فيها كما كان يملأه منح بيك.

عن الحياة

التعليقات مغلقة.