«النازلون على الريح» لمحمد علي شمس الدين

24

12qpt989تضعني قصائد محمد على شمس الدين عند شبق الإنصات، والتلذذ بشجن ما يثيره هذا الإنصات من غواية شاقة، والرغبة بتتبع حمولاتها التعبيرية الضاجة بشهوة ما يتساقط من سوانح التأويل، تلك التي قد يختلط فيها الحياتي مع التاريخي والسري مع الفاضح.. ولعلي أدرك خطورة ان يكون الشاعر صانعا للتآويل أو مغنيا أو مفارقا للمألوف، إذ ليس بالضرورة ان يظل هذا الشاعر حاملا لصناديق السحر، أو حتى متورطا بصناعة الاحجيات، فحكمته تدفعه ايضا إلى المناورة مع قرّائه، بعيدا عن التلبس الاضطراري بأقنعة الشاعر المعرفي، أو شاعر التقية بالعصيان، أو الشاعر المفرط في بلاغته والتقنّع بشفرات الغموض أو التورية، أو جرّ الاستعارات إلى مناطق مفخخة ..
قصائد شمس الدين تحرض على مجاورة الوضوح، الوضوح الأنيق، والشهي المندفع للغناء والشجن، مثلما هي قصائد موحية بحكمتها اليومية الباذخة وطراوة تركيبها. جملته الشعرية جملة تصويرية، تشفّ استعاراتها الحسية عن مقاربة للطبيعة، وللوجود والزمن والجسد والمكان مثلما تستكنه أهمية ان تكشف عن وعي صياغي/لساني، وعن رؤيا تتوغل في المتن اللغوي لاستحضار وتشكيل الكثير من المباني التي تلامس فائض المعنى كما يسميه ريكور، فضلا عن مقاربة المثير والفاجع في ان معا ..
في كتابه الشعري (النازلون على الريح/ دار الاداب/ بيروت نهاية 2013) تبدو قصيدته الرائية وكأنها قصيدة لرثاء الزمن/ العمر، والجسد، إذ هي شهادة على زمن بات يفارق اطمئنانه، ويضعه كثيرا عن السهو، والهروب مع الريح. يضع الشاعر جملته الشعرية أو صورته الشعرية في سياق التعبير الصوفي عن هذه الشهادة، تلك التي تندفع أمام تفجرات تعبيرية، تستجمع اليومي والحسي والكوني في نسق وجودي، يقابل نسق الذات الشعرية التي تعيش قلقها التعبيري الوجودي والاستعاري.
عنونة الكتاب عتبة نصية باعثة على الايحاء، والهاجسة بسيمياء ما يمكن ان يتكشف من علامات للنسق المضمر في القصائد، فالنزول استعارة إلى ملامسة الأرضي، واليومي. مثلما هو مجاورة للاشتباك مع محمولات هذا الأرضي الفجائعي. و(على الريح) شبه جملة تقوم على المفارقة، فحرف الجر يدلّ على العلو، لكنه العلو الغاوي بالتشبث بالمكان الرجراج والمفتت، و(الريح) هي الجوهر الثيمي والاستعاري للقلق، والذي يقارب فيه الشاعر فكرة المتنبي الوجودية (على قلق كأن الريح تحتي)..
هذا العنوان السيميائي، يحيل إلى اسباغ فكرة القلق الوجودي الذي يساكنه الشاعر على قصائد الكتاب، وعلى خلق إيحاء داخلي بحمولاتها النفسية، وأجوائها المسكونة بالكثير من الأسئلة.. أسئلة الوعي الشقي، أسئلة الرؤيا، أسئلة الشاعر الرائي الباحث عن وهم الاكتمال، الشاعر الفاقد لاطمئنانه، والواقف عند عتبة المتاهة..
كلّما أوغلتُ في البحر نأى الشاطئ عنّي
ولكي أسترجعَ الشاطئ في البحر أغنّي
كلّما امتدّت إلى النجم يميني
كان برقٌ خاطفٌ أسرع منّي
كلّما أوضحتُ ما كانت تقول الشجره
خَذَلتني سوسةٌ نائمةٌ في الثمره
هكذا نبدأ من حيث انتهينا
لا لنا شيءٌ ولا شيءٌ علينا.
تهجس هذه القصيدة بالفقدان، والإحساس بالخواء، وربما الايهام بأن لعبة الشاعر باصطياد الزمن عبر اللغة هي لعبة هازئة، وان الشاعر لم يعد يملك روح برومثيوس الاسطوري، إذ اصيب بهوس فقدان النار/القوة، والاستعانة بالأقنعة، ورهاب البحث عن استعارات أكثر تعبيرا عن محنته..فـ (برق خاطف أسرع مني) و(خذلتني سوسة نائمة في الثمرة) كلها موحيات استعارية بالفقدان، والإحساس بروح الكائن المطرود والمخذول والمكتفي بالرؤيا..
إحساس الشاعر بخيبة كائنه الشعري، يعني الاندفاع في بحثه الاستيهامي عن التعويض، عن الإشباع، عن الهاجس المضاد في رمزيته وفي امتلائه. ولعله وجد عبر استعادته لصور المنزل والأب، وجد الجد، أو ثيمة الطائر الغريب نوعا التقابل بالإحساس بوهم الامتلاء الوجودي، الامتلاء المضاد للهشاشة والفقدان..
في المنزل الذي ولدتُ فيه كان طائر،
يعيش مثلما نعيش في أمانْ
ورثه أبي عن جدّه
عن جدّ جدّه، عن الحبيب، مثلما يقولْ
وحينما سألته عن سرّ هذا الطائر الغريبِ
كيف عاش هذه القرونْ؟
أجاب أنّ سرّه في صمتِهِ..
سر الطائر قد يكون هو سر الشاعر، وقد يكون قناعه لرؤيته العميقة لعالم مهدد دائما بالموت الوجودي والرمزي، وحتى شفرة (نعيش في أمان) تحمل معها هذا الإحساس المقابل للموت، لأن الحياة هي دائما وجه مباح للصخب، وللبحث عن التجاوز والتغاير، ولاستكناه مخبوءات صوره واستعاراته، وحتى أشكاله التعبيرية. وأحسب ان استعادته لصورة (محمد الماغوط) هي استعارة لقناعه، قناع الشاعر الاحتجاجي والساخر والمسكون بالمرائر والباحث عن وجه آخر للحياة، إذ يحمل هذا القناع الكثير من هواجس روح الشاعر الملتاعة، والضاجة بأسئلة الخيبة والفقد والعجز..
هل تدور الأرضُ
أم أنّ الذي كان يدورْ
حَجَلُ الوقتِ
وسيّاف الزهور؟
باحثاً عن عشبةٍ
يودِعُها جوفَ الفلاةْ
عشبةٍ
كنّا نسمّيها الحياةْ.
قصائد هذا الكتاب – رغم كل مكرها الشعري- تظل قصائد شخصية جدا تدفع باتجاه الخروج العلني من متن الوجود/ الأمان، إلى هامش التأمل/القلق، هامش الاكتفاء بما يتساقط من الرؤيا، وبما يثيره من استنفارات تدفعه لاستجلاب قاموس تعويضي استعاري وتصويري على المستوى اللغوي، ونفسي على المستوى الايحائي، فضلا عن تلذذه بمرقابه الذي يرصد من خلاله العالم وهو في نوبة انتهاك مرعب، أو التلذذ الايهامي الكلكامشي بعشبة الحياة. وأحسب ان اعتماد الشاعر القصيدة التفعيلية توحي باندفاعه إلى نوع من التلذذ بهاجس الاستعادة، أي استعادة الطلل، واستعادة رموزه وأسمائه، مثلما ان اعتماده قناع (الغزالي) في قصيدة (آلات الفجر) تكشف عن محنة الشاعر المقابلة لمحنة الغزالي المعرفية، فضلا عن استعادة الشفرة الصوفية بوصفها تمثلا عرفانيا لبحثه عن الخلاص، هذا الخلاص الذي يتدفق في مجرى لعبة الشاعر عبر تقانة (النداء) تلك التي تمثل ايضا استعادة متعالية للحلول في وجود أحبته القتلة..
محمد علي شمس الدين يكتب في هذا الكتاب الشعري قصيدة مزاجه، أو قصيدة قلقه وهو ينخرط في سيرة الراكض خلف سنواته الذاهبة باتجاه اللامعنى، والنازلة على أصابع الريح تلذذا بهاجس ذلك الشغف الذي يأخذ الشاعر إلى غواية الحضور، وعرفانية الغياب..
علي حسن فواز/عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.