ثقافة الموت

56

وحشة زاوية يكتبها

طه خليل

طه خليل

ما لم أكن أعيه جيدا، فكرة: ” عدم التدخل بشؤون الناس.” فلدى الكثير من شعوب أوروبا مثلا معيب أن تقترح لجارك أو لابن صديقك أو لصديقتك أن تدرس هذه الدراسة أو تلك، أو أن تقول لأحدهم هذا القميص أو البنطال يليق بك.. وذاك لا.. أو تحمل تلفونه من أمامه و” تبحبش ” به..الخ… تلك ثقافة، ثقافة أن يسير طفلان أمامي في يوم مثلج وأسمع أحدهم يقول للثاني ” إنه لبرد شديد ” فيرد عليه الآخر:” بالنسبة لي ليس البرد شديدا ” هو لم يقل له: لا ليس شديدا. بل قال : ” بالنسبة لي ليس شديدا” وتلك ثقافة.

أما في بلادنا ” التي تتكلم عربي مثلا تسمع يوميا مفردات وتهديدات يقولها الصبية والكبار معا: ٍأذبحك.. أقتلك.. أحرقك.. أحسب الله ما خلقك.. الخ،  تذهب الى بائع البندورة وأنت في ذهنك شراء كيلو واحد، تعود إلى البيت وفي يدك كيلوين، بطريقة ما يقنعك البائع أن كيلوين أرخص لو اشتريت، وتذهب إلى بائع الألبسة تسأله عن بنطال أسود، فيقول لك: ” أستاذ الأزرق يليق بك أكثر..” تسير في الشارع فيلتقيك صديقك يسلم عليك ويبدي امتعاضه من ” شحاطتك ” المفتوحة من الأمام. تقضي يومك وكل يرميك بجهة، فتأكل لا كما تشتهي، وتشرب لا كما تحتاج، وترتدي ما كنت لا تحبه، وتنام وتستيقظ حسب مزاج الجيران، وتنتظر صديقا قال سأزورك غداـ وغدا يعني أن تنتظره اثنتي عشر ساعة وهذه ثقافة.. ثقافة تجهيل وإلغاء وإنكار وقتل للشخصية الفردية المستقلة واستهتار بقيمة الحياة.

يسأل الطفل سؤالا فنقمعه، أو لا نأخذه بجدية، فنرد عليه بسخرية مريرة، ونوبخه أكثر الاحيان :” اسكت هذا ليس شغلك.. عيب أنت زغير.. روح انقلع العب بالشارع. الخ وهذه ثقافة أيضا، ويكبر هؤلاء الأطفال، فيتركون أوطانهم ويذهبون إلى هؤلاء، ليسخروا منهم، ويرتكبوا آلاف الحماقات بحقهم، يطالبونهم هناك ببناء جوامع، ومنا رات تهدر  بـ ” الله أكبر ” وإن لم يوافقوا فهم كفرة وملحدين ودينهم الحنيف اللطيف أعطاهم الحق بـ  ” فضرب الرقاب ” وتكتشف ان فكرت يوما أنك أمام حثالات التاريخ والمجتمعات، عالات على الآخرين وعلى أنفسنا، نتفاخر بوجودنا بين البشر، ونتفاخر بأننا حصلنا على إقامات أوربية، وأن لدينا سكن وكومبيوتر وتلفون وأننا مدعوون كل مساء لحوار تلفزيوني لشتم ذوينا، وأهلنا وتقريع تاريخ طعين وجريح كالوديان، ننهش لحم بعضنا وأن سنحت الفرصة لمن غادر أو ” هاجر ” فيتدرب على تفخيخ السيارات وإرسالها لتنفجر بين الناس، وان سنحت الفرصة يعود بنفسه ليقوم بالتفجير، وهناك في باريس أو برلين أو لندن أو واشنطن، يشهر مسدسا أو بارودة حربية ويقنص الناس وهم ذاهبون الى أعمالهم، أو يستعدون للسفر في محطة قطار أو مترو أو مطار، وهذه وليدة ثقافة الموت التي شربها مع الحليب، ثقافة أنه هو الأهم والاصح والأجمل والأعرق والأنقى وما تبقى هم عدم.

وجاؤوا هنا، ليشكلو الكتائب والألوية و” الدول ” بحجة محاربة النظام، لكنهم يوما بعد يوم يكتشفون أن الكرد ملاحدة، وان دينهم الحنيف قد أمرهم بتنظيف الأرض من هؤلاء، وتجد من ” الملاحدة ” كثيرين من يبرر لهم أو يصفق لهم شامتا بأخوته ممن تهدمت عليهم دارهم، او بمن ضاعت أعضاء جسده، وتطايرت حتى لم يجد المشيعون ما يحملونه على أكتافهم منه أو منها .. تلك ما ابتليت به قامشلى مؤخرا. وتلك وحشة الثقافة.. ثقافة الموت.. ثقافة الخيانة..  ثقافة الشماته.. ثقافة الوحشة.

001

التعليقات مغلقة.