المفاوضات السورية اتجاه اجباري لإنهاء الكارثة

182

دلدار آشتي

دلدار

مرت الأزمة السورية بمراحل مختلفة, منذ انطلاق الحراك الشعبي السلمي كنتيجة موضوعية تراكمية لجملة المشاكل الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التي واجهت السوريين.. فمن حركة شعبية ثورية ذات مطاليب مشروعة, إلى أزمة وطنية ومن ثم إلى كارثة انسانية بفعل جملة من العوامل الداخلية والبنيوية المرتبطة بالحركة ذاتها, والخارجية الضاغطة على إرادة الحركة والتي ركبت موجتها, بل وحرّفتها عن مسارها ولوّثتها بأدواتها الرخيصة, إلى جانب تعنت النظام واستخدامه للقوة المفرطة في مواجهتها ومحاولة جرّها إلى مواقع الضعف والاشتباه, ليأخذ النزاع بين طرفيْ الصراع طابعا ثأريا تصاعديا استهدف المزيد من القتل والدمار, مستندين إلى وهميّة نظرية (الحسم العسكري- إسقاط النظام ). واستمر النزاع بين المدّ والجزر في الاستحواذ والسيطرة, وصولا إلى حالة الاستعصاء التي بدورها أفضت إلى المزيد من الاستنزاف.

لقد فتحت الأبواب على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية بمسميّاتها وأهدافها المختلفة لتشهد الأرض السورية معارك كاسحة وجارفة ذات أبعاد إقليمية ودوليةً, تتنازع فيها الدول وتدفع بأجنداتها وتتقدم باستراتيجياتها من خلال مفهوم الحرب بالإنابة يحصد فيها الفقراء أرواح بعضهم, فيما لا لقمة لهم فيها ولا كلمة, وصولا إلى التدخل الدولي المباشر, ولتختبر قواها في بحر الدّم السوري تحت ذرائع عديدة  كمحاربة الارهاب أو للحفاظ على الدولة السورية ومنعها من الانهيار…

تستمر الكارثة الانسانية التي قيّمتها الأمم المتحدة بأنها كبر كارثة إنسانية شهدتها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية,حيث يستمر النزوح وتستمر الهجرة ويستمر القتل والدمار ويستمر الشرخ العميق في بنية الوعي الاجتماعي وتتخدش الذاكرة الوطنية والانسانية وتتعرض المنظومة القيمية والأخلاقية إلى أشرس الهجمات وأبشع حملات التمييع. ولم تعد محاربة السوريين وقتلهم بالسلاح وحده,بل وبالجوع والجهل والحصار الداخلي والدولي وبتدهور القدرة الشرائية لليرة السورية أيضا…

إن الأزمة السورية تجاوزت قضية شعب يريد الانعتاق والحرية, وتجاوزت النقاش الدائر حول ما حدث, هل هي ثورة شعب أو مؤامرة دولية, وأن الضرورة تتطلب تجاوز هذه الحلقة نحو الحلقة الأساسية, ومن بقي تفكيره عند هذا الحد,لا يستطيع تجاوز ذاتيته ولا يشعر بحجم الكارثة ولم يستطيع مواكبة التطورات الكبيرة والانتكاسات الكثيرة في مسار الأزمة العاصفة.

فالمخرج الوحيد أمام السوريين للخروج من النفق المظلم ووضع حد لمأساتهم, هو الحلّ السياسيّ الذي شق طريقه, ولم يعد بالأفق غيره, وتم تثبيته من قبل رعاته الدوليين, على أساس بيان جنيف1 والقرارات الدولية المتتالية,وخاصة قراريْ مجلس الأمن2254 و2268 وبياني ميونيخ 2016 وفيينا 2015 للمجموعة الدولية لدعم سوريا.

إن المزاج السوريّ العام المتكوّن خلال سنين الأزمة بات مع استمرار المفاوضات ودفع عملية الانتقال السياسي إلى الأمام, وبذلك بات الحل السياسي هو العنوان الرئيسي للمشهد السياسيّ السوري, فأية عرقلة لسير المفاوضات, هي ضدّ إرادة الشعب ومصالحه, وتتم هذه العرقلة من خلال تعكير الأجواء التفاوضية عبر استفزاز المشاعر, أو من خلال الانسحابات أو وضع شروط تعجيزية أو محاولة جر ّالمفاوضات إلى المربع الأول أو تصعيد التوتر والعمليات العسكرية, كما حدث في حلب مؤخراً, و يقرأ أحداث  الأيام الثلاثة في القامشلي في هذا السياق, سواء بوعي من الأطراف أو بدونه.

وكذلك تتم العرقلة,من خلال عدم اعتراف وفد”الهيئة العليا للمفاوضات”بقوى معارضة سياسية وطنية شقّت طريقا و أثبتت جديتها وفاعليتها بقوة منطقها وبمقترحاتها البنّاءة كوفد الديمقراطيين العلمانيين الذي يرأسه قدري جميل.

ويأتي في هذا السياق, الإصرار على تغييب قوى معارضة متموضعة في مساحات واسعة, كحزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه وإبعاده عن مسار المفاوضات تحت حجج واهية ومنها الضغط التركي وهو موجود, ولكن أبعاد هذا الحزب الذي لعب دورا كبيرا في ملء الفراغ الأمني والإداري وبذل جهداً كبيراً لتنظيم الجماهير في محاربة الإرهاب, إنما هو محاولة لعدم ايجاد حلول جذرية للقضية السورية, وترك ثغرات وبؤر توتّر لاستغلالها لاحقا من قبل القوى المتربصة بالشعب السوري, لأن الذي لا يحضر المفاوضات ليس ملتزما بنتائجها ولا بالقرارات التي تنتج عنها. وبالتالي فتح المجال أمام احتمالات عديدة ربما لا تكون بنتائج مرضية للجميع.

إن الموقف من المفاوضات واستمرارها بات هو المحك الذي يفرز ويفرّق بين الوطنيين الحقيقين وبين المتاجرين بالقضية السورية وبمستقبل السوريين, لأن فشل المفاوضات يفضي إلى اللاسوريا, ويعني الذهاب إلى الفوضى العارمة وفيض الدماء, ليس بسوريا وحدها بل في كل الإقليم, وربما خارج حدوده أيضاً, فحلّ المشكلة السورية في ظل موازين القوى الدولية الجديدة يتوقف عليها حل الكثير من المشاكل في المنطقة والعالم.

إن تثبيت الهدنات واستمرار المفاوضات وسير عملية الانتقال السياسي, هي عملياً تهيئة الظروف الملائمة وتوفير المناخ المناسب لإعادة الدور للشعب السوري وتمكينه من قول كلمته, لأن هذا الدور سلب منه وسلب حقه في التعبير عن ذاته.

وان استكانة البعض إلى القول بان مفتاح الحل بات بيد الدول الكبرى و “ما باليد حيلة” هو ليس كلام متشائم “لللاحول” منزوع الإرادة  وحسب, بل ينم عن موقف سياسي لدى البعض,يخدم المخططات المرسومة لتفتيت المنطقة على غير ما يلبي طموحات الشعوب في التطور والتنمية والتقدم الاجتماعي, على أساس السيادة وحقها في تقرير المصير.

ويبيت في هذا المكمن فئتين:

– قوى فاسدة ضيقة الأفق, تشكل نقطة الاستناد وأداة لتمرير المشروع, تتماهى مصالحها مع المخطط المرسوم, وهي تعي ما تقول. وكيف تهيء الأرضية المناسبة لتنفيذه..

 – وفئة ذات هواجس عديدة تتخوف من عودة الدولة الاستبدادية المركزية وإعادة انتاج منظومة الاضطهاد التي حرمته من كل حقوقه الثقافية والمدنية والسياسية,وطبقت عليه المشاريع العنصرية ويتلمس هذا المزاج في وسط معين لدى الشعب الكردي لذلك لابد من تثبيت وجوده وحقوقه كاملا في الدستور المأمول, إلى جانب تثبيت حقوق الآخرين.

إن التناقض الأساسي في الوضع السوري بات بين قوى الفساد الكبير بجيليه القديم والجديد ومن طرفيْ المتراس وبين الشعب السوري,وهذه القوى لا توفر جهدا من أجل إعاقة المفاوضات وتأجيل الحل متلبساً بالدفاع عن الشعب السوري وعدم التفريط بدمائه.

إن الوضع استثنائي ويتطلب تفكيراً استثنائياً وهو الانطلاق من ضرورة إنهاء الكارثة ومن خلال تفكير مليّ يتجاوز العقلية الانتقامية والاجراءات التي أفرزتها الثورات والتمردات في التاريخ القديم والحديث في المراحل الانتقالية, ولابد من التفكير بعقلية معاصرة, عقلية دولة الحق والقانون, بصورة خلاقة ومبدعة.

نُشر هذا المقال في العدد (43) من صحيفة “Buyerpress”

2016/5/15

مقال2

التعليقات مغلقة.