يوسف حطيني في مجموعة «جمل المحامل»: ملح كثيف.. فوق صهوة النزيف!
«مازالت أم الخير تبحث عن ابنها، ومازلت أبحث عنها وعن وسادتها، ومازلنا، هي وأنتم وأنا نبحث عن عبق حيفا»..
هذا مقتطف من قصة قصيرة جداً تنتمي إلى مجموعة «جمل المحامل» يحكي حكاية المجموعة، وحكاية الكاتب، وحكايتنا جميعاً، نحن القراء العرب الذين نتنفس هذه اللغة الشريفة منذ طفولة البشرية…
«جمل المحامل» هي مئة قصة فلسطينية قصيرة جداً، كتبها الدكتور يوسف حطيني، وقدّم لها الأستاذ مصطفى لغتيري، ونشرتها دار الوطن المغربية مؤخراً، وتحمل هذه المجموعة همّ فلسطين، بوصفها ثيمة، وهمّ القصة القصيرة جداً، بوصفها بنية فنّية؛ ذلك أنّ كاتبها حطيني يعدّ من أهمّ منظري هذا الفنّ، ومن أشدّ المنتصرين له، في الوطن العربي.
«جمل المحامل» إذاً، مئة صرخة، تتوحّد في صرخة واحدة، تحكي معاناة أهالي الشهداء، معاناة الأسرى والجرحى والمعتقلين والمبعدين عن أرضهم، صرخة واحدة، تصمّ الآذان: «إلى متى تُحصد الأرواح فداء لفلسطين الأسيرة؟»
لم تكتفِ المجموعة بالإشارة إلى كونها قصصاً فلسطينية، بل سكنت غلافها قبة الصخرة المشرّفة، بينما يقسم الغلاف، ويقسم ظهر الفلسطينيين، سلك شائك يقطر دما، ويمنع اللقاء بين المشتاق والمشتاق، بين المنفي والأرض الطاهرة النقية، التي ملأت جزءاً من لوحة الغلاف بالأبيض الناصع الذي تفقده براءته قطرات دم مهدورة على ذلك السلك. فيما يشير الشفق الذي يملأ أعلى اللوحة إلى اقتراب إشراق حلمٍ لم يستطع المغتصب أن يجهضه.
وعلى الرغم من جمال الغلاف وإيحاءاته، فيبدو لي أنّ اختيار لوحة «جمل المحامل» للفنان الفلسطيني سليمان منصور، كان سيكون دالاً أكثر، لارتباط العنوان نصّاً ودلالة بتلك اللوحة الشهيرة التي تمثل رحلة الكفاح الفلسطيني؛ إذ يحمل الرجل المسنّ الصخرة المشرّفة بتاريخها ورمزيتها، وما تمثله من حقّ الشعب الفلسطيني وإرثه وتاريخه وعدالة قضيته في مواجهة المحتل، يحملها ذلك الرجل، دون أن يشكو، على الرغم من بشاعة ما يواجهه.
لقد تميزت مجموعة «جمل المحامل» للدكتور يوسف حطيني بالتنوع الشديد الذي يتمركز حول القضية الفلسطينية التي كانت القاسم المشترك بينها جميعا، وكانت مخلصة لعنوانها الفرعي «100 قصة فلسطينية قصيرة جدا»، وأتساءل هنا أليس من الأكثر لياقة كتابة العدد بدل الرقم، سؤال برسم المؤلف ودار النشر، في ظلّ دفاعنا عن نصاعة اللغة وأسلوبها الرفيع.
المجموعة التي اتخذت من تفاصيل معاناة الفلسطينيين ثيمات حكاياتها هي تأريخ ضمني لأحداث عرفتها ساحة القضية الفلسطينية، إذ تتسع تلك الحكايات على مدى قرن من الزمان، تحكي عن وعد بلفور المشؤوم الذي قدّم فلسطين لقمة سائغة للمغتصبين، وتفضح من يتشدقون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تقول القصة الثانية عشرة في المجموعة التي حملت عنوان وعد بلفور:
«في ليلة داكنة السواد، دخل اللص بيتي، قتل أبي وجدي..
وفي ليلة داكنة أخرى أهدى حزني وقصائدي وترابي إلى لص آخر..
ها أنا ذا أبحث بين ليال سود عن فجر جديد..»
إنّ كل قصة في هذه المجموعة تشعل في قلب القارئ العربي سراج الحنين، وتجدّد الشعور بالانتماء إلى المدن الأسيرة التي تتوزع على الحكايات، إذ تتدفق في قلب السرد جنين وحيفا ويافا وطبريا في تفاصيل الدم والبرتقال والعشق الصوفي.
من بين تلك الحكايات تنبع رموز يعرفها الفلسطيني حق المعرفة، الميرمية والزعتر وفيروز، حيث كل مفردة تزرع حروفها في عمق الأرض. في القصة الخامسة والثمانين «وجهان يبكيان» نقرأ ما يلي:
«كان فارس يحب الموسيقى، يجمع حوله العصافير وأصدقاء المدرسة الابتدائية، ليغني معهم أغنية يتيمة كان قد أتقن عزفها..
تضع أمه الحب والماء للعصافير، وتصنع عرائس الزعتر للأطفال.
ذاتَ قصف.. فقد أصدقاءه ويديه الصغيرتين، فتجمعت العصافير حوله، وحول أمه الدامعة، وهي تنشد لهما الأغنية ذاتها: الطفل في المغارة، وأمه مريم، وجهان يبكيان».
ومثلما رصدت القصص مدن فلسطين ورموزها قامت أيضا برصد المجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد الفلسطينيين (كفر قاسم، وصبرا وشاتيلا، ودير ياسين وغيرها)، واحتفت إلى جانب ذلك بالرموز الثقافية والنضالية الفلسطينية، من مثل (ناجي العلي، وسحر خليفة وغسان كنفاني ومحمود درويش، ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير وفرحان السعدي وأحمد ياسين ومحمد الدرة وغيرهم). فالقصة الخامسة عشرة حملت عنوان «أحمد ياسين» الذي يمثّل رمزاً من رموز المقاومة، يقول الكاتب:
«داهمه صاروخ مبكر، باغت المؤذّن والمصلين والشيخ الجليل.
انتفض كرسيه مثلما انتفضت فلسطين..
ها هو ذا يطلّ على نهار غزة محمولاً على الأكتاف، يمشي فوق الغيم، ويوزع بسمته الخضراء من النهر إلى البحر.
الصواريخ المبكرة تهطل كالمطر بين وقت وآخر، تباغت أطفالاً ونساءً وشيوخاً.. ولكنّ كراسيَ أخرى كثيرة لم تنتفض مثلما انتفضت فلسطين».
وتركّز المجموعة على الوفاء المتبادل بين الأرض وأهلها، ففي القصة الرابعة عشرة «غيمة» لا يهطل المطر فوق المستوطنات بل فوق حقل الجدّ، صاحب الأرض، وفي القصة التسعين «وفاء» لا تنبت الأرض الفلسطينية للمستوطنين إلا الشوك:
«زرع جدي أرضه الواسعة زيتونا وبرتقالاً وقمحاً، وحين طردوه منها ودعها بنظرة حزينة.. بكت الأرض يومذاك، وخبأت بين جوانحها سرّاً.
منذ ذلك اليوم لم يجن الغرباء من أرضه إلا الشوك»
وفي سلوك موازٍ لتمسك الدكتور حطيني ثيمياً بالماضي، تأكيداً لهوية حضارية فلسطينية، فإنه يتمسك بذلك الماضي، بوصفه هوية لغوية؛ إذ كثيراً ما نجده يعود بذاكرة اللغة إلى الموروث، فيستفيد من آي القرآن مرّات متعددة، ليخدم النص ويجعل الصورة أكثر قربا، والفكرة أكثر إدراكاً، فثمة قصة بعنوان «اجتياح» يوظف فيها الكاتب قوله تعالى في الآية 18 من سورة النمل: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
يقول الكاتب في قصة «اجتياح» وهي الخامسة والثلاثون، مدللاً على همجية المحتل الذي لا يعبأ برموز الحياة الناضرة:
قالت رضيعة في بيت حانون، وهي تلتصق بصدر أمها، أريد أن أحفظ طعم الحليب.
قالت وردة في مخيم جباليا، ناشرةً عبقها الحزين: ربما تدوسني مجنزرة متأهبة.
قالت حمامة من مخيم البريج برعب: جناحاي ما زالا أبيضين.
قالت نملة من مخيم المغازي: «يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم» لا يحطمنّكم أفيخاي وجنوده
تبسم أفيخاي ضاحكاً مما سمع، وأعطى أوامره ببدء الاجتياح».
وثمة عدد من القصص، يجرّب فيها القاص تنويعات مختلفة على قصة يوسف عليه السلام، ومنها القصة الحادية والأربعون «إعادة تقييم» حيث يرفض يوسف الفلسطيني أن يخضع لابتزاز ثنائية الغياب والسلطة/ وهو يصرّ على تحقيق حلم العودة:
«(بنوع من التردد)..
ـ ألستَ يوسف؟
ـ بلى..
(بنوع من الخوف)..
ـ أتغفر لإخوتك سوء صنيعهم؟
ـ نعم.
(بنوع من الخبث)
ـ نجعلك على خزائن الأرض، وتأتي بأبيك وجدّك وعشيرتك معزّزين مكرّمين إلى هنا.
ـ بل أذهب إليهم.. إلى هناك.»
إنه الفلسطيني، الذي ما زال يحتفظ بمفتاح بيته، يتوارثه جيلا بعد جيل، يحمل أغنياته مثلما يحمل أحلامه، يحمل «زغردي يا أم الجدايل زغردي»، مثلما يحمل «حيّد عن الجيشي يا غبيشي»، يحمل أغنياته، مثلما يحمل قرآنه، وأحاديثه النبوية، وتاريخه وحكاياته الشعبية، يحمل شهرزاد الفلسطينية التي تصوغ حكايتها، وهي تلد الأبطال، وترضعهم الصمود، وتعلّمهم منذ الصغر أنّ السلام وهم، وتسترجع معهم صوتاً قادماً من أعماق التاريخ: لا تصالح.
في القصة السادسة والعشرين التي حملت عنوان «لغة الضاد»، ثمة حوار موظف بين منظومتين فكريتين: منظومة تمثلها طبقة تدعي الثقافة، وهي مهزومة فكرياً، ومجموعة ما زال فكرها نقياً بريئاً من دنس التقهقر، وفي نهاية القصة ثمة سخرية تثير البكاء أكثر مما تثير الضحك:
«قال معلم اللغة العربية: لسان الضاد يجمعنا، هات فعلا يحوي حرف الضاد.
قال طفل صغير: ضرب
استخدموا الفعل ضرب قي جملة
قال الصغير: ضرب الطفل جنود الاحتلال بالحجارة.
كالصاعقة انقضّ المعلم على الباب يغلقه، ثم على فم الطفل يغلقه أيضا، حتى لا يُتّهم باعاقة عملية السلام».
وفي مقابل هاتين المنظومتين ثمة منظومتان أخريتان تبرزان في القصص، لتؤكدا استحالة السلام، إنهما منظومتا المغتصِب والمغتصَب، اللذين لن يلتقيا في أي زمان أو مكان، لأن لكل منهما تاريخاً مختلفاً، وأحلاماً متناقضة:
«مصادفة في شارعٍ باريسي أعجبته سُمرتُها اللافحة، وعيناها اللتان ترقبان المجهول، أعجبتها عيناه الخضراوان الغامضتان. دون مقدّمات اتفقا أن يلتقيا في التاسعة مساء، تحت قوس النصر، وقد أضمر كل منهما أن يعترف للآخر بصدمة الحبّ العاصف.
قبل خروجه للموعد تلا فصلاً من تلموده ثم وضع عطراً يليق بالمناسبة، بينما استذكرتْ قصيدةً لمحمود درويش، وهي تلبس شالها الأخضر.
في التاسعة تماماً كانا على الموعد، في المكان المحدّد، ولكنهما لم يلتقيا.. ولن يلتقيا أبداً»
إذاً لقد بنيت قصص المجموعة على الثنائيات التي تركّز على التضاد مبني على الفعل ورد الفعل، بين الخير والشر، لتظهر الفروقات الشاسعة بين المقاومة الباسلة والمغتصب الذي يقف في خندق الرذيلة والانهزامية، على نحو ما نجد في القصة الستين «تاريخ الأيدي» وفي القصة الثانية والتسعين «بِركتان» حيث يبدو اللعب بالمفردات والتضادات أكثر حرفية وأثرى دلالة:
«قبل أن يذهب يعالون في إجازة أوصى أحد جنوده بتعذيب طفل فلسطيني تم اعتقاله مؤخرا:
أخذ يعالون طفله وزوجته إلى المسبح، وكانت الأسرة تعيش أسعد لحظاتها. حين ألقى الطفل نفسه سعيدا في بركة المسبح، كان ثمة طفل آخر يسبح في بركة دمائه».
هذه المقابلة تبدو أشد ألماً وأشد فتكاً في القصة الرابعة والستين التي حملت عنوان «ربيع عربي» حيث تبرز الثنائية الضدية بين مجاز يشير إلى ربيع أخضر منتظر، وواقع يشير إلى دم وحرب قبائل في مسرح دمى، يمسك خيوطه أعداء الأمة من وراء الستار:
ربيع عربي
«شجرة، قيل: إنها مباركة، نبتت في أرضنا مثل خبر عاجل، وإذ ذاك سال دم كثير، وهاجر الحمام من مآذن المساجد، وبكى الياسمين.
وحين خرج مارد أزرق العينين من الشجرة سأله صابر: وأين فلسطين؟
فتلا المارد عليه أحد مزاميره، ثم اختفى بين أوراقها الصفراء».
تلك االمقابلة وأمثالها هي التي تخلق المفارقة، وتجعل الحكايات جديرة بالانتماء للقصة القصيرة جداً.
والمفارقة كما هو معلوم عنصر لا غنى عنه في هذا الفن، كما يؤكد الدكتور حطيني نفسه، ويبدو لي همّه ها هنا وطنياً، أكثر منه فنيّاً، فالمفارقة النصيّة التي تشغل باله كثيراً ما تلتقط الفروق بين صاحب القضية (الواثق بأرضه وتراثه وتاريخه) وبين المغتصب الذي لا يزيده سلاحه إلا خوفاً. ونمثّل هنا بالقصة الثالثة عشرة التي حملت عنوان «وجهاً لوجه:
«جلسنا متقابلين تحت ضوء الشمس، كانت عيناه تشبهان عيني ذئب، وهو يتكئ على بندقيته التي يلتمع نصلها. بينما اتكأت على زوادة من قمح وذكريات وموال حزين..
كنت أشعر باطمئنان لاحد له، أما هو فقد كان يخفي خلف ملامحه القاسية قلبا مذعورا».
ويمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة مدى إخلاص القصة لرؤية الكاتب النقدية حول القصة القصيرة جداً؛ إذ نجد تكثيفاً لا يؤثر سلباً على وضوح النص، وحكائية تحمل الحدث سريعاً إلى نتيجتها الصادمة، معتمداً على جمل فعلية قادرة على القيام بتلك المهمة، دون أن يغفل الاهتمام بشعرية اللغة وصفاء المفردة، والوصف المختزل الضروي ليبني سرداً لا يخيّب أفق انتظار القارئ.
«جمل المحامل» مجموعة قصصية تختزل كثيراً من الألم الفلسطيني، وحتى لا يضيع القارئ بين الألم والأمل يترك لنا الكاتب قصته الأخيرة «مصير الأمواج» لتقول الفكرة الجوهرية التي تريد المجموعة قولها:
«وقفتُ على شاطئ البحر، تأكلني أنياب الغربة، رأيت على بعد مئات الأمتار موجات عالية متلاطمة، لاحظت أنها كانت تضعف كلما اقتربت، وعند أقدام الشاطئ تلفظ أنفاسها.
تذكرت آنئذٍ موجة عاتية هبّت على شاطئ الوطن».
إنها البشارة المنتظرة التي تفتح باب الرؤى على مصراعيه، إنه الحزن الذي يؤصل لفرح قادم، فرح يشبه الزغرودة التي ترافق الشهيد إلى مثواه الأخير، لتعلن أن الفجر قاب قوسين أو أدنى.
التعليقات مغلقة.