ميكافيليّة البعث في واقع الإحصاء ومشروع محمد طلب هلال
“يقول محمد طلب هلال:” إنّ من أوجد الكُرد في سوريّا هم الاستعمار، وأنّه لابدّ من وضع الخطط اللازمة لردع ما أسماه الخطر الكردي المُحدق بالقوميّة العربية، على طول الحدود الشّمالية لسوريا، عبر اثنا عشر مقترحاً؛ منها ما جاءت ملتزمة بالتعاليم الميكافيلية، ومنها ما كانت باجتهادٍ شخصيِّ يوائم الظّروف المرحليّة”
– “هتلر“ الذي كان لا ينام إلّا وذلك الكتاب بجانبه، و“موسليني” الذي اختاره موضوعاً لرسالة الدكتوراه، ومثلهم “ستالين” و” وكمال أتا تورك“.
– النتيجة كانت تجريد أكثر من 150 ألف كردي من جنسيتهم، بينهم عدد كبير من كبار الضباط و الساسة، أمثال السياسي “عبد الباقي نظام الدين” وأخيه اللواء “توفيق نظام الدين” رئيس هيئة الأركان آنذاك.
وليد جولي*
يبدو أنّ سموم الميكافيلية – التي لم يتوقع صاحبها “نيقولا ميكافيلي” من أن تنتشر وتأخذ حيزاً واسعاً من عالم السياسة الحديث- قد أثرت بشكلٍ جَليّ على مصائر الشّعوب وثقافاتهم طيلة مرحلة ما بين القرنين السادس عشر والعشرين، والتي تُعرَف بمرحلة النهوض الأوربيّ، وظهور الفكر القومي الذي تبلور في نشوء الدولة القومية.
فكتاب “الأمير” الذي دونه ميكافيلي، على شكلِ فصول يتناول فيها نصائح وتعاليم يوَجُهها للأمير الفلورنسي “لورينزو ديميديشي” في العقد الثاني من القرن السادس عشر، بهدف توحيد ايطاليا حسب زعمه، مفادها، أنّه مهما كانت الوسيلة وحشية ومتنافية مع القيم والمبادئ الأخلاقيّة، فأنّ الغاية تكون مبرّراً بديهيّاً لها في سبيل تحقيق الهدف، حتى لو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء والمظلومين، و يختصرها بثلاث كلمات “الغاية تبرر الوسيلة”، والتي أصبحت مقولة عالميّة معروفة للجميع.
ومن هذا المبدأ، الكثير من قادة الأنظمة الشوفينية والمستبدة وجده أسلوبا لهم في ممارسة سياساتهم القمعيّة بحق الشّعوب وثقافاتهم.
حيث شرعت القوانين وصدرت الأحكام الإقصائية بحقهم، وأُبيد عشرات الملايين من الأبرياء في حروب عالمية دموية، لم يكن الهدف منها سوى إشباع الرغبات السلطويّة لدى قادة الأنظمة الاستبدادية، خاصة أنظمة الدولة القومية وقادتها؛ الذين وجدوا ضالتهم في ذلك الكتاب المشؤوم، بحكم فكرهم الإقصائي الأُحادي، أمثال “هتلر” الذي كان لا ينام إلا وذلك الكتاب بجانبه، و”موسليني” الذي اختاره موضوعاً لرسالة الدكتوراه، ومثلهم “ستالين”و”أتا تورك”، وما تلاه من الأنظمة التركية المتعاقبة وصولاً لأردوغان.
وهكذا تلامذة الفكر الميكافيلي لم يتوقفوا عند حدود ما تناوله الأخير في كتابه الشهير” الأمير”، بل أبدعوا وطوروا مما تيسر لهم من أفكار إقصائية بحقّ الشعوب، سيما الشّعب الكُردي الذي نال القسط الأوفر من محاكاة تلك التعاليم على أرض الواقع، لينتج عنها المظلومية الأكبر في القرن العشرين، ويمكن القول – دون أي إجحاف بحق تلك التعاليم- تم تطبيقها بشكل كامل وبإبداعية تامّة وفق تداعيات المرحلة، والقالب السوريّ الذي سيكون جلّ ما سنتناوله عن استلهام القوميين السوريين من تلك التعاليم، منهم قادة ومفكري البعث العرب؛ أمثال “زكي الأرسوزي”،”ميشيل عفلق”، “صلاح بيطار”، “أكرم الحوراني” وتلميذهم الفتى المخضرم بالأفكار الميكافيلية والشوفينية “محمد طلب هلال” صاحب الدراسة المقدمة للقيادة القطرية لحزب البعث العربي، حول محافظة الجزيرة( الحسكة) في العام 1963من النواحي السياسيّة والاجتماعيّة والقوميّة.
تلك الدراسة التي لم تكن وليدةَ اللحظة، بل كانت تعبر عن فكر قوموي راسخ، ورغبة جامحة في صهر الشعب الكُردي ضمن بوتقة القومية العربية، الرافضة للاعتراف -ولو ضمناً- بأيّة ثقافة أخرى مختلفة عن الثقافة العربية.
وهذا يتجلى في دراسة “طلب هلال” وأوجه التشابه بما ورد في التعاليم الميكافيلية في فصله الثالث حول كيفية التعامل مع الممالك المختلطة. ويتضح أنّ هلال لم يكن مجرد قارئ للفكر الميكافيلي، بل كان تلميذاً نجيباً مُتقناً لكل ما قرأه، معتمداً على الأرضية الخصبة التي تمكّنه من تنفيذ تلك النظريّة على أرض الواقع، لاكتمال العناصر المطلوبة من قدرة الظالم وضعف المظلوم، وهذا يعطي انعكاساً على دور المدرسة البعثية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تسلُّم زمام السلطة في انقلاب 8 آذار في العام 1963 ودور “معلميه” أمثال أكرم الحوراني والبيطار.. الخ في مشروع الإحصاء الخاص بمحافظة الجزيرة عام 1962،الذي لم يكن سوى بذرةً دأبَ البعث على رعايتها وتوفير كل الظروف التي تمخضت عن جني ثمارها بالشكل الشوفيني المطلوب والتي كان شعبنا المتذوق الوحيد لعلقم هذه الثّمرة.
وسأورد للقارئ العزيز ما تضمنته الرؤية الميكافيلية، وأُلحق بها مطالب واقتراحات طلب هلال، حينها ستكون من السذاجة أن نبحث في أوجه الشبه بينهما.
وإليكم المقتضبات الخاصّة بكيفية التعامل مع المناطق التي تسودها ثقافة ولغة مغايرة لثقافة الحاكم ولغته التي تُرسِّخ من حكمه؛ وهي على شكل خيارين: أولهما يتعلق بضرورة تواجد الحاكم في تلك المناطق والإقامة فيها، ليمكَّنه من معاصرة الأحداث والاضطرابات المتوقِّعة، وهي لاتزال في المهد، إذ يتمكن الحاكم من القضاء عليها قبل استفحالها.
أمّا الخيار الثاني يجدهُ الكاتب بأنّه الأفضل والأنجح، فيقول: “العلاج الآخر هو الأفضل، يتمثّل في زرع المستعمرات في عدّة أماكن مميزة بالأرض المستعمرة، ومن الضروري أن نفعل ذلك أو أن نحتفظ بعدد كبير من القوات المسلَّحة في نفس المكان. والمستعمرات ستكلّف الأمير أمولاً أقل، فهو يستطيع إرسال المستعمرين للإقامة هناك، بدون أيّ تكلفة ماديّة يدفعها، أو بتكلفة قليلة، والمَضرةَ ستقع فقط على هؤلاء الذين ستؤخذ بيوتهم أو أراضيهم، لمنحها للمقيمين الجدد، وهذا يُعتبر نوعاً من الحماية للدولة، أما من تضرَّروا فإنهم لن يستطيعوا الانتقام من الحاكم إنْ ظلوا فقراء ومتفرقين.
أما الباقون الذين لم تصبهم مَضَرة، فمن السهل تهدئتِهم، حيث سَيَخشَونْ لقاء نفس المصير، إنْ هم اعترضوا فسوف يُجردون من ممتلكاتهم..
يجب أن نلاحظ أنْ الرجال إما يُسْتَمَالُوا أو تتم إبادتهم، كما أنّهم يثأرون لأنفسهم في الأمور الكبيرة، فإذا ما أُضِر الرجلُ مَضرّةً كبرى، فلا يجب علينا أن نخشى انتقامه، ووجود القوات بدلاً من استخدام طريقة المستعمرات، سيكلف الحاكم مالاً أكثر، مما سيجعله يُنفق كل عائدات هذه المستعمرة في المحافظة عليها، وبذلك يكون ضُمها خسارة مادية، إضافةً إلى أنْ ضرر القوات العسكريّة كبيرة، حيث يتأذى كل من يعيش في تلك الأرض من عسكرة الجيش عليها، وعلى أي حال ستكون معسكرات الجيش عديمة الفائدة، بينما تحقق المستعمرات فوائدها”.
وبخطوة زمنيّة فقط لما ذكرناه سابقاً، سنورد لكم مطالب هلال، ولكن لابدّ من إلقاء الضوء على الصورة التي كانت راسخة في ذهنه تجاه الكرد، من خلال سرده المشوه لتاريخ الكرد، واعتبارهم مجموعة من القبائل المتناحرة التي كانت وليدة بقايا جحافل صراعات الإمبراطوريات الكبرى وبرابرة المغول والتتار، وأنّهم كانوا دوماً سلاحاً بيد الغير، نافياً عنهم صفة الأمّة المُتكاملة و من أوجدهم في سوريا هم الاستعمار، و لابدّ من وضع الخطط اللازمة لردع ما أسماه الخطر الكُردي المُحدّق بالقوميّة العربيّة على طول الحدود الشّمالية لسوريا، عبر اثنا عشر مقترحاً، منها ما جاءت ملتزمة بالتعاليم الميكافيلية، ومنها ما كانت باجتهادٍ شخصيّ يوائم الظّروف المرحليّة.
“قرية “حمدوني” أنشئت في نهاية 1973 و تعود ملكيتها لعائلتي( آل چولي) ومسقط رأسي، تبلغ مساحتها 6000 دونم، أصبحت مركزا لتجمع /100/ وحدة سكنيّة نموذجيّة، والتي سميت بـ“بهيرة الغمر“، و تم إلحاق مساحات من الأراضي بها تُقدَّر بـ 15000 دونم من القرى المجاورة لها، وهي: (معيريكي، قازان بوكي، ديكي، ماريتي ووتل حبشي) بحيث أصبحت مساحة مستوطنة بهيرة أكثر من 20000 دونم، وأكثر من 500 فرد وفدوا إليها كمستوطنين”
حيث يقترح التالي:
1- أن نعتمد إلى عمليّات التّهجير إلى الدّاخل، مع التّوزيع في الدّاخل، ومع ملاحظة عناصر الخطر أولاً فأولاً، ولا بأس أن تكون الخُطّة ثنائيّة أو ثلاثية السنين(أسوةً بالخطط الخمسيّة؛ أي عمرها الزمنيّ للتنفيذ)، تبدأ بالعناصر الخطرة، لتنتهي بالعناصر الأقل خطورةً وهكذا…
2- سياسة التّجهيل: أي عدم إنشاء مدارس أو معاهد علمية في المنطقة، لأنّ هذا أثبتَ عكس المطلوب.
3-أنّ الأكثريّة الساحقة من الأكراد المقيمين في الجزيرة، يتمتعون بالجنسية التركيّة، فلابدّ من تصحيح السجّلات المدنيّة- وهذا يجري الآن- إنّما نطلب أن يترتب على ذلك إجلاء كل من لم تُثبت جنسيتُه، وتسليمه إلى الدولة التابع لها- أضف إلى ذلك- يجب أن يدرس من تثبت جنسيته دراسة معقولة، وملاحظة كيفية كسب الجنسية، لأن الجنسية لا تُكسب إلا بمرسومٍ جمهوريِّ.
فكل جنسيّة ليست بمرسوم يجب أن تناقش، تبقي من تبقي، أي الأقل خطراً، وتنزع عنه الجنسيّة، ليعيده بالتالي إلى وطنه.
ثم هناك تنازع الجنسيات، فأنّك تجد أحدهم يحمل جنسيتين في آنٍ واحد أو قُلْ ثلاث جنسيات، فلابدّ والحالة هذه أن يعاد إلى جنسيته الأولى، و ما يترتب على ذلك الإحصاء والتدقيق من أعمال، حيث يجب أن تقوم فوراً عمليات الإجلاء.
4- سد باب العمل: لابدّ لنا المساهمة في الخطة من سد أبواب العمل أمام الأكراد، حتى نجعلهم أولاً في وضعٍ غير قادرين على التحرُّك، وثانياً وضع غير المستقر المستعد للرحيل في أيّة لحظة، وهذا يجب أن يأخذ به الإصلاح الزراعي؛ أولاً في الجزيرة بأن لا يؤجر ولا يُملّك الأكراد، العناصر العربية موفرة وبحمد الله.
5- شن حملة من الدّعاية الواسعة بين العناصر العربية ومركزة على الأكراد، بتهيئة العناصر العربية أولاً لحسابٍ ما، وخلخلة وضع الأكراد ثانياً، بحيث يجعلهم في وضعٍ غير مستقر.
6- نزع الصّفة الدينية عن مشايخ الدين عند الأكراد و إرسال مشايخ بخطّة مرسومة عرباً أقحاحاً، أو نقلهم إلى الدّاخل بدلاً من غيرهم، لأنّ مجالسهم ليست مجالس دينية أبداً، بل وبدقّة العبارة مجالس كرديّة. فهم لدى دعوتنا إيّاهم لا يرسلون برقيات ضد البارزاني، إنما يرسلون ضد سفك دماء المسلمين.
7- ضرب الأكراد في بعضهم: وهذا أسهل، وقد يكون ميسوراً بإثارة من يدّعون بأنّهم من أصولٍ عربيّة على العناصر الخَطرة منهم، كما يكشف هذا أوراق من يدّعون بأنّهم عرباً.
8- إسكان عناصر عربيّة و قوميّة في المناطق الكرديّة على الحدود؛ فهم حصن المستقبل ورقابة في نفس الوقت على الأكراد، ريثما يتم تهجيرهم، ونقترح أن تكون هذه من “شمَّر” لأنّهم أولاً أفقر القبائل، وثانيا مضمونون قومياً مئة بالمئة.
9- جعل الشّريط الشّمالي للجزيرة منطقة عسكريّة كمنطقة الجبهة، بحيث تُوضَع فيها قطعات عسكريّة، مهمتُها إسكان العرب وإجلاء الأكراد، وفق ما ترسم الدّولة من خطّة.
10- إنشاء مزارع جماعيّة للعرب الذين تسكّنهم الدولة في الشريط الشّمالي، على أن تكون هذه المزارع مُدرَّبة ومُسلَّحة عسكريّاً، كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً.
11- عدم السماح لمن لا يتكلّم اللّغة العربيّة بأن يمارس حق الانتخاب والترشيح في المناطق المذكورة.
12- منع إعطاء الجنسيّة السورية مُطلَقاً لمن يريد السكن في تلك المنطقة، مهما كانت جنسيته الأصلية، عدا الجنسية العربيّة.
هذا وأن هذه المقترحات ليست كافية، بل أردنا منها إثارة المسؤولين بحسب خبرتنا، لتكون تباشير مشروع خطّة جذريّة شاملة، لتؤخذ للذكرى بعين الاعتبار.
الملازم محمد طلب هلال
رئيس الشعبة السياسية– الحسكة في 11/12/1963
لذلك سنترك للقارئ حرية التنقُّل بين السّطور، وانتقاء الروابط التي تجمع المعلم والتلميذ، في غرفةٍ تجاوزت مساحتُها الزمن، وسنعمل على إيضاح نتائج وحيثيات مشروعيِّ الإحصاء والحزام العربي في السطور المتبقيّة.
رغم التشكيك الذي يظهره البعض من تلامذة البعث، في واقعيّة تطبيق كامل مقترحات هلال على أرض الواقع، وادّعائهم بأنها لم تكن فرماناً تم تنفيذها، خاصة فيما يتعلق بالمقترحات التي تخصّ تهجير الكرد وإسكان عرب الشمَّر في المناطق الكردّية والتخفيف المُعمَّد من حجم نتائج تلك الاقتراحات، من حيث عدد المحرومين من الجنسية ونسبة الوافدين إلى المستعمرات وعدد القرى التي استوطنوا فيها.
إلّا أن الوقائع السياسيّة والاجتماعية – التي عشناها نحن الكرد- تؤكد عكس ادّعائهم، تؤكد أنّ ما لم يتم التحقيق به بشكلٍ مباشر، تحققَّ من خلال نتائج مقترحي الإحصاء والاستيطان تلقائياً -إن صح التعبير- أنّها كانت تحصيل حاصل بالنسبة للأساسيات التي كانت كفيلة باستجرار ما تبقى من المقترحات الأخرى.
أي ؛ ستكون محروماً من كافّة حقوقك المدنيّة والسياسيّة (التوظيف، الاستملاك، التعلُّم، حق الترشيح والترشُّح للانتخابات) إنْ كنت لا تتمتع بالجنسيّة.
وهذا ما سيدفعك للبحث عن أسباب العيش والهجرة إلى الدّاخل والخارج وفي الاتجاهين ستتعرض للصهر الثّقافي، وهذا ما أراده طلب هلال وتحقق له ذلك من خلال هجرة آلاف العوائل الكرديّة إلى الدّاخل السوري وخارجه طيلة الأعوام التي تلت الإحصاء الاستثنائيّ عام 1962 لمحافظة الجزيرة والاستيطان الملحق به . وما يتعلّق بالتشكيك على مساحات الأراضي التي تم الاستيلاء عليها وعدد الوافدين من ما يُسمَّى بـ عرب الغمر إليها؛ ذُكرت في بعض المصادر المذكورة، أنّ هناك مبالغة من قِبل الكرد في تصورهم لحجم مقترحات طلب هلال وواقعية تطبيقها بشكلٍ كامل من قبل الدّولة عبر تأكيدهم على أنْ نسبة الوافدين لم يتجاوز الـ 4000 فرداً، وأن القرى التي تم إنشاؤها لم تتعدَّ الـ 42 قريةً كما أنّ هذه النسبة لا تمثّل شيئاً أمام ما تضمَّنه مقترح طلب هلال، وكأن يقولون في قَرارة أنفسهم أردنا البتر فأكتفت السّلطة بالكي بالنّار فقط.
هنا يجدر الذّكر، رغم عدم إظهار الدّولة لتلك المعلومات على العامّة بشكل دقيق، كيلا تظهر كخطّةٍ مُنَظَّمة ومُعدٍّ لها بشكل مسبق وإخفاء وتيرتها المتسارعة في كبح أي نظرة قومية للشّعب الكُرديّ في هذه المنطقة وقتلها وهي في طور الشّرنقة. إلا أن الكُرد يعلمون جيداً ما لهم وما عليهم، كونهم أصحاب حق، و ذو تاريخ عريق يمتد لآلاف السنين في هذه الأرض، وعائلتي من ضمن العوائل التي تضررت من نتائج الاستيطان وما سُميِّ بالإصلاح الزراعيّ.
إضافة إلى بعض المستوطنات الأخرى، كـ مستوطنة “قيروان”؛ تم إنشاؤها على حساب قرية “تعلكي” ” بيركنيسي” “شويرخي” “تورات” “حاجي أوغلي” “گر كوند” و”هرم رش”، و تبلغ مساحتها المسجَّلة 30000 دونم.
ومستوطنة القنيطرة التي أنشأت على حساب قرى “شاه مسوري” “گربشكي” “قرماني”غنامية”و”برگڤري”، هذه القرى كانت أنموذجاً لكافّة المستوطنات الأخرى.
ويمكن القول: أنّ معدل مساحة كل مستوطنة تبلغ 25000 دونم، وهكذا ستكون مجمل مساحة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها لصالح الغمر 1050000دنم، قياساً بعدد المستوطنات التي يبلغ عددها 42 حسب المتفق عليه.
وأن عدد الوافدين – بأقل تقدير- سيكون 21000 شخصاً، حسب عدد الوحدات التي تم إنشاؤها في 42 مستوطنة، بمعدل100 وحدة أو أكثر لكل مستوطنة، وخمسة أفراد لكل وحدة.
لا شك أنّ هذه الأرقام هي الأقرب إلى الواقع و تثبت حقيقة الدّمار الذي لحق بالكُرد، جراء السياسات الإقصائية التي مارسها النّظام البعثيّ بحقّهم.
ومن غير المستبعد أن يتساءل البعض حول أسبقية الإحصاء لدراسة طلب هلال وتوافق الهدف، بالشكل الذي يتناقض مع تاريخ انقلاب البعث .
و أثناء البحث في حيثيات تلك المرحلة، اتضح أنّ حزب البعث كان له دوراً هاما في تمرير وتنفيذ المشاريع العنصريّة قبل انقلابه العسكريّ 1963.
وهذا يتجلى في تأكيد طلب هلال على ضرورة تنفيذ ما يتمخض عن نتائج الإحصاء، من حيث التهجير وما يتعلق به من ترتيبات أخرى.
وتأكيداً على ذلك، يذكر الدكتور “آزاد أحمد علي” في إحدى دراسته بعنوان: بعد سبعين سنة قراءة…في العدد الأول من جريدة البعث، الصادرة بتاريخ 3تموز العام 1946، يكشف عن بعض المقالات المتعلّقة بالشأن ذاته، منها بقلم “جلال السيد” المعروف بعدائيته المتطرِّفة للشّعب الكُرديّ، ومادته يتحدث فيها عن حل الخلافات بين البدو العرب في البادية السورية، ولم شملهم تمهيداً في توطينهم في المناطق الكردية.
أيضاً، مادة خبرية أخرى في نفس الصحيفة، بعنوان:” نافذة” تكشف عن فكرة لإسكان نصف المتحضرون من بدو الجزيرة في الأراضي العائدة ملكيتها للدولة السورية حسب زعمهم، ذُكر في المجلة في نفس السياق والمضمون.
و ذُكر في مجلة “الأسبوع العربي” في عددها الـ 132 بتاريخ 18ديسمبر كانون الأول من عام 1961، حول أجواء التنافس بين مرشحيْ رئاسة الجمهورية “خالد العظم” وناظم القدسي”- الذي فاز بالمنصب وأصدر المرسوم الرئاسيّ الخاص بالإحصاء- ذكر أنّ وفداً برلمانيّاً زار خالد العظم وطلب منه سحب ترشيحه أمام ناظم القدسي، وأنّ خالد العظم لم يتفاجأ بزيارة الوفد البرلماني له، بل تفاجئ بوجود “أكرم الحوراني” على رأس الوفد، ففهم الأمر بسرعة ووافق على سحب ترشيحه فوراً.
إضافةً لذلك، طبقت عمليات استيطانية قبل عام 1963 ،مثل منطقة جرابلس الواصلة ما بين عفرين وكوباني، وفي تل أبيض( گري سپي) التي توصّل الجزيرة( الحسكة) بكوباني، عبر التسهيل وتشجيع عرب السخنة للاستيطان فيها.
وفي 1958- 1960 وعلى طول وادي الخابور تم إنشاء مستوطنات في سري كانيه، المناجير، الأهراس، ليلان، العامرية، أم الخير وتوينة، إضافة إلى محاولة تثليم الخنجر الكرديّ ومنع شحذه مع الكرد في العراق وتركيا بزرع مستوطنات في دلتا الكرد المشبعة بأخصب الأراضي الزراعية والمشكّلة لمنقار البطة في خريطة سوريا الجغرافية الواقعة على ضفة نهر دجلة في منطقة ديريك مثل الأحمدية والزهيرية.
وهذا يدل على أن البعث كان يتحكم بمفاصل الدّولة من خلال أكرم الحوراني، وأن الأخير كان صاحب فكرة الإحصاء الاستثنائي الذي أُجري لمحافظة الجزيرة (الحسكة) في الـ 23يوليو تموز من عام1962، وجاء موائماً لمشروع طلب هلال الذي لم يكن سوى استمرارية أو اجتهاد لما كان يخطّط له معلميه.
وبالتالي النتيجة كانت تجريد أكثر من 150 ألف كردي من جنسيتهم، بينهم عدد كبير من كبار الضباط و الساسة، أمثال السياسي “عبد الباقي نظام الدين” وأخيه اللواء “توفيق نظام الدين” رئيس هيئة الأركان آنذاك، و المئات من المعلمين وموظفي مؤسسات الدولة.
البحث المعمّق بمحاولات طمس الكُرد كشعبٍ يملك ثقافة ووجود يدفعك إلى أن تجد وسائل قتل مباشرة ووسائل موت بطيء لتجعل منهم شعب يضمحل بهدوء لصالح شعب القومية الحاكمة، والحرمان من الجنسية السوريّة كانت من وسائل القتل المباشر؛ وهي عملية تجعل من استمرارية تطوّرك في المجتمع المُتمدِّن شبه مستحيلة، أي النشاط البشري سيكون عقيماً، مما تسبب للكثير فقدانهم الرغبة في التعلّم لإدراكهم أنّ المجهود التعليمي لن يتمخض عنه أيّة وظيفة في هذه الدولة وعدم إمكانية استخراج وثائق تخولهم السفر فعكفوا على المهن الحرفية.
وما حصل أثناء اندلاع الحراك في سوريا حين أذدر بشار الاسد مرسوماً منح بموجبه تجنيس الكرد الذين مُورست عليهم سياسة حجب الجنسية، كان كالذي يمَنحكَ نظارة طبيّة بعدما فقئ كلتا عيناكَ لأن السُّم الذي دُسَ للكرد ما عاد ينفع معه ترياق.
ونشر ثقافة الذي لايعني لتاريخنا شيء -هو نوع من وسائل القتل المبطئ- وإشغالنا بقضايا لا تمت لنا بصلة ليدرك الجيل الأول ما المطلوب من ذلك، ولكن ليضعف بعدها هذا الوعي من جيل لآخر ليبدأ الكردي يصرخ هاتفاً بحياة أمّةٍ ودمار الأخرى دونما أن يكون لكليهما مسمار جحا في الشأن الكُردي. علماً أنه ورغم المكاسب التي تحققت للكرد في ظل الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، ألا أنّ الكرد لازال يعانون من نتائج تلك السياسات الإقصائية بحقّهم، من حيث استغلال البعض من المستوطنين لمفهوم الإدارة الذاتيّة عبر مجالسهم المحليّة الخاصة بهم في سبيل التوسُّع المعماريّ العشوائيّ ضمن المواقع الأثريّة والزراعيّة الخاضعة لقرار المنع ؛الصادر من رئيس البعثة الأثرية في تل موزان( گري موزا) وجورجيو بوتشيلاني.
هذا كان جزءٌ بسيط من معاناة الكرد من النظريات الميكافيلة التآمريّة المُطبَّقة بالجزء الكردستاني الملحق بسوريا، بينما الحالة كانت أكثر وحشية في الأجزاء الأخرى التي كانت أنظمتها المتمثلة بالأتاتوركية، الشاهنشاهية، الملالية والبعثية العراقية، كانت تتبع تلك التعاليم بشكل أوسع.
* عضو الهيئة السياسية لحزب السلام الكردستاني
نشرت هذه الدراسة في العدد /72/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/1/2017
التعليقات مغلقة.