التحريض على اللاجئين السوريين في تركيا -بكر صدقي
أحدث ما حرر من «حوادث السوريين» في تركيا: فتى سوري في الرابعة عشرة، يعمل في مخبز في مدينة اسكندرون، قيل إنه تحرش جنسياً بطفل تركي في الثامنة. تبع ذلك، كالعادة، تجمع حشود من الأهالي وهجومهم على محلات للسوريين وبيوتهم، ثم تدخل الشرطة، وهتافات: لا نريد السوريين بيننا!
ينتشر الخبر، في وسائل الإعلام، كالنار في الهشيم. مع أن أصل الحكاية لم يتأخر في الظهور: امرأة تتصل برقم البوليس 155 لتشكو تعرض ابنها لتحرش جنسي من قبل سوري (وليس شخصاً ما، ولا فتى سورياً، بل سوري بالإطلاق!). الشرطة قبضت على الفتى السوري، ويتم التحقيق معه، وأخضع الطفل الضحية لفحص طبي أكدت نتيجته أنه لم يتعرض لتحرش.
التكذيب الرسمي من المراجع المختصة قد يفيد في تبرئة الفتى السوري المتهم، لكن «السوريين» باتوا، لدى الرأي العام، مغتصبي أطفال. بل إن النذالة وصلت بـ»السوريين» إلى حد تسميم مياه الشرب في شبكة المياه الحكومية في مدينة غازي عنتاب! هكذا هم السوريون في نظر التركي المتوسط: يضربون الأطفال الأتراك أو يغتصبونهم، يسرقون ويقتلون، يسممون المياه، يتحرشون بالنساء، لا يدفعون إيجارات بيوتهم ويقتلون صاحب البيت، يقيمون في مساكن غير صالحة للسكن البشري، لا يجيدون اللغة التركية، يتسوّلون، يمشي مسلحوهم من «الجيش الحر» أو الدواعش في الشوارع بسلاحهم، يخالفون قوانين السير، يشربون الكحول في الحدائق العامة، يسهرون إلى وقت متقدم من الليل، يقلقون راحة السكان بصخبهم. لكن الطامة الكبرى أنهم موجودون في كل مكان! احتلوا شارع «إينونو» بكامله بمحلاتهم التجارية ومطاعمهم ومقاهيهم، ولا يتورعون عن وضع لافتات على محلاتهم باللغة العربية!
ينقسم اللاجئون السوريون المقيمون خارج المخيمات، في المدن الحدودية غالباً، إلى طبقتين: طبقة القادرين على استئجار مساكن لائقة ويتمتعون بمستوى دخل الطبقات المتوسطة في تركيا، وقسم منهم يملكون سياراتهم الخاصة بلوحات سورية. يمكن القول، بشيء من التعميم، إن هذه هي «الطبقة المعارضة» لنظام دمشق، من تجار وطبقة متوسطة ونشطاء سلميين حصلوا على وظائف في مؤسسات المعارضة أو المنظمات الدولية العاملة انطلاقاً من الأراضي التركية.
أما الطبقة الثانية فهي «عامة الشعب» التي لجأت إلى تركيا لأسباب إنسانية، أي هرباً من الحرب وبعد دمار بيوتهم وأحيائهم وقراهم. لا علاقة لهم بالسياسة، ولا انخرطوا فيها بعد خروجهم من سورية. قد يكون بينهم من يميلون إلى موالاة النظام، وإن كانت الأكثرية لا تعنيها الثورة ولا النظام. أبرز ميزة لهذه الطبقة هي المستوى التعليمي المتدني ومستوى الدخل المتدهور.
بين الطبقتين انفصال يقترب من الإطلاق، في نمط العمل ومحل السكن والاهتمامات والمشكلات. حين تقع حوادث واحتكاكات بين اللاجئين السوريين والسكان، تضع «الطبقة المرتاحة»، وهي الظاهرة والناطقة والعالية الصوت، اللائمة على «أولئك السوريين» من الطبقة المغمورة التي يعمل الفرد منها في أي عمل بأجر عشر ليرات تركية (4 دولارات) ليوم العمل، وهو المبلغ الذي ينفقه الناشط السلمي السابق في جلسة في مقهى.
برز هذا التباغض الطبقي في حادثة المتسولين السوريين في إسطنبول: والي المدينة الكبرى صرح الى الإعلام بأن «سوريين جاؤوا إليه واشتكوا مواطنيهم السوريين المتسولين الذين يشوّهون صورة السوري»!
أكثر الحوادث التي وقعت في الأشهر الثلاثة الأخيرة اتضح أنها إما مفبركة بالكامل أو مضخمة ومحرّفة لأغراض التحريض على اللاجئين السوريين. ومع أن ردود الفعل التركية، بصرف النظر عن مدى صحتها، اتسمت بالغوغائية العنصرية العنيفة، لعب سوريو الطبقة المرتاحة دوراً سلبياً في صورة عامة، فوضعوا الضحية في موقع المسؤولية والمحاسبة، وتملّقوا الأتراك وحكومتهم، واتخذوا موقف المعتذر عما يصدر من سفاهة «بعض السوريين» الذين هم ليسوا منهم قطعاً.
في غضون ذلك، ماذا فعلت الحكومة التركية لمواجهة ظاهرة خطيرة تتفاقم كل يوم وتقوم على الكراهية للاجئين السوريين؟ لا شيء، بل أسوأ.
فبدلاً من معاقبة المحرّضين والغوغاء الذين يقومون بأفعال جرمية صريحة ضد السوريين، فقط لأنهم سوريون، «حلت المشكلة» في كل مرة بترحيل مئات من مساكنهم وأماكن عملهم إلى مخيمات بعيدة. في زيارته إلى غازي عنتاب، في إطار حملته الانتخابية، خاطب رئيس الوزراء رئيس الجمهورية المنتخب رجب طيب أردوغان، أهالي المدينة قائلاً: وجود السوريين بينكم موقت، وسيعودون إلى بلادهم بعد سقوط نظام الأسد! لم يقل محبوب السوريين، ومحبوب بيئة «الإخوان المسلمين» خصوصاً، كلمة زجر واحدة بحق أولئك الأتراك العدوانيين العنصريين الذين يعتدون على أي سوري بذريعة ارتكاب أحد السوريين خطأً حقيقياً أو مفبركاً. لم يقل إن عشرات من الأتراك يرتكبون الجرائم كل يوم في المدينة، فما الغرابة إذا ارتكب شخص ما من بين عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين جريمة ما بمعدل مرة كل بضعة أشهر؟ هل المشكلة في أنه مجرم أم في أنه سوري؟
ولكن كيــف يحــدث أن أشخاصاً عاقلين في المجتمع التركي يساهمون بأشكال مخــتلفة في بث الكراهية العنصرية تجاه اللاجئين السوريين؟ يكمن الجواب في تاريخ طويل من العزلة التي عاشها المجتمع التركي عن جيرانه الأقربيـــن منذ تفكك الامبراطورية العثمانية وقيام جمهورية أتاتورك. عزلة جعلت أجيال ما بعد الجمهورية تُفاجأ حين ترى العربي يجلس في مطعم (بل على كرسي!) ويأكل بالشوكة والسكين، أو العربية ترتدي تنورة قصيرة أو بنطالاً ضيقاً. تربت أجيال من مشاهدي السينما التركية على العربي النمطي الذي يرتدي الجلباب ويعتمر الكوفية ويركب الجمل، ويضرب نساءه اللواتي يشتهيهن طوال الليل والنهار. وهي صورة مســتوردة بالكامل من بعض أحط نماذج السينما الأميركية.
دخلتُ صفحات تركية على موقع «يوتيوب» نشرت مقاطع فيديو تصور حفلات عرس سورية. تعليقات المشاهدين تشير إلى جهل مطبق بالجيران، كأنهم يرون الهنود الحمر يجيدون الرقص في الديسكو!
أيها الأتراك: ثمة فائدة معرفية لكم من لجوئنا إلى معزلكم الذي تسمونه وطناً.
التعليقات مغلقة.