جوهر الموضوع: نهاية الأمر الواقع

44

كامران قره داغي

حتى كتـــابة هذه السطور قبـــــل ثلاثة أيام عـــلى المــــوعــد المحــــدد للاستفتاء، يبدو محسوماً أمر إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان غداً الإثنين. لكن هذا المقال ليس في وارد التكهنات في ما إذا كان الاستفتاء سيجرى في موعده المقرر أم أنه سيُلغى جملة وتفصيلاً، كما طالبت بغداد قبل أيام على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي، أم سيؤجل الى موعد آخر إذا قُدم بديل منه يلبي شروطاً محددة طالب بها الإقليم بحلول موعد يكون قد انتهى الآن في أي حال.

 

يُشار الى أن الطرف الكردي رفض التراجع عن إجراء الاستفتاء على رغم المناشدات والطلبات والتهديدات والعروض بما فيها «البدائل» التي كان آخرها وأبرزها ذلك الذي قدمه وفد أممي برئاسة المبعوث الأميركي المنسق لعمليات المواجهة ضد تنظيم «داعش» بريت ماكغورك، وضم إضافة الى السفير الأميركي في بغداد نظيره البريطاني وممثلاً عن الأمم المتحدة. المسعى الأميركي سبقته وتبعته مساع أخرى من دول المنطقة شملت السعودية وإيران وتركيا وكلها لم تجد أذناً صاغية من الطرف الكردي الذي تمسك بموقفه مطالباً، في مقابل التأجيل الى موعد محدد وليس الإلغاء، ببديل تسنده ضمانات دولية مكتوبة تعترف بحق الإقليم في إجراء الاستفتاء وفي دولته الوطنية.

 

تلك المساعي أجمعت على رفض الاستفتاء تأييداً لوحدة العراق، معتبرة أن إجراءه ليس في وقته، لأن المعركة ضد «داعش» لم تنته، الأمر الذي يستدعي تركيز كل الجهود على هذه المعركة. ومن نافل القول أن المساعي المذكورة خيبت الطرف الكردي واعتبر أنها، خصوصاً الموقف الأميركي، شجعت بغداد، حكومة وأحزاباً وبرلماناً وقضاءً، على تصعيد موقفها العدائي حيال الإقليم وإطلاق التهديدات التي وصلت الى حد التلويح باستخدام القوة ضده وحتى تحريض تركيا وإيران على ذلك. المحادثات مع ماكغورك لم تنجح لأن «البديل» الذي قدمه لم يكن عملياً جديداً، بل هو تكرار بصيغة مختلفة لاقتراحات أبلغها الى الطرف الكردي قبل أشهر ومفادها أن تؤجل أربيل الاستفتاء في مقابل أن تسهل واشنطن والأمم المتحدة إجراء مفاوضات مع بغداد من دون أي جدول أعمال وضمانات تتعهد بها الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبرته أربيل تسويفاً وعديم الجدوى.

 

على رغم أن الطرف الكردي لم يكن يتوقع أن تعلن واشنطن تأييدها علناً الاستفتاء لكنه لم يتوقع الموقف المتشدد جداً الذي اتخذه المبعوث الأميركي خلال المحادثات مع القيادات الكردية وفي تصريحاته لوسائل الإعلام، وهو ما «شجع» بغداد على التصعيد مع أربيل، وفق سياسي كردي بارز قريب من عملية التفاوض، كالنظام الإيراني المعادي لأميركا». موقف ماكغورك هذا حمل مفاوضين كرداً على الشك بإمكان نجاح مفاوضات يديرها أو يسهلها مبعوث يفتقد الى مرونة مطلوبة في مثل هذه المهمات الحساسة، وذلك وفقاً للسياسي الكردي في حديث مع كاتب هذه السطور طلب فيه عدم الكشف عن هويته، معتبراً أن ماكغورك منحاز الى بغداد «ترضية للإسلاميين الشيعة المرتبطين بمواجهة «داعش» وكل ما عدا ذلك مجرد عراقيل تتعين إزاحتها عن الطريق».

 

لعل الإصرار الكردي على عرض مكتوب وضمانات دولية حمل الأمم المتحدة على مبادرة لاحقة تمثلت في ورقة قدمها ممثلها في العراق يان كوبيتش قيل إنها حظيت بقبول الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ما حدا بالرئيس فؤاد معصوم الى تبنيها في إطار مبادرة أزمع على القيام بها، معتبراً أنها تستحق أن تكون بديلاً من الاستفتاء. تتضمن الورقة جدولاً زمنياً لمفاوضات تبدأ الآن «لــــحل المشاكـــل العالقة وفق مبدأ الشراكة» على أن تنتهي المفاوضات خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات وفي حال فشلها يعود الإقليم الى خيار الاستفتاء. ومن أجل تنفيذ ذلك تُشكل لجنة عليا مشرفة يرأسها رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس اقليم كردستان ويكون ممثل الأمم المتحدة عضواً فيها. بعبارة أخرى هناك نوع من التدويل للقضية.

 

المشكلة في هذه المبادرة أن الطرف الكردي لا يعول على الأمم المتحدة ويعتقد أنها غير قادرة على أن تلعب دور الضامن: ذاك أن أي اعتراف منها بحق الإقليم بإجراء استفتاء على أساس الحق في تقرير المصير سيواجه اعتراضات من دول لديها حساسية إزاء هذا المبدأ بسبب مطالب مماثلة من أقلياتها. على سبيل المثل، الصين التي تعاني مشكلة التيبت أو إسبانيا التي ترفض قرار البرلمان المحلي لكاتالونيا إجراء استفتاء على الاستقلال. الى ذلك، المبادرة تقتصر على حلول في إطار الأمر الواقع لتركيبة العراق بينما الطرف الكردي يسعى الى علاقة مختلفة تماماً بين الإقليم والعراق.

 

من جهة أخرى، المبادرة لا ترضي بغداد أيضاً لأنها ترفض أي شكل من أشكال التدويل، مشيرة الى أن ورقة الامم المتحدة تعترف عملياً بالاستفتاء وهو ما ترفضه بغداد. العبادي رفضها لأنها تضمنت الاستفتاء فيما زعيم حزبه «الدعوة الإسلامية»، نوري المالكي، رفضها بصفته رئيس ائتلاف الأحزاب الشيعية معتبراً أنها تخالف الدستور العراقي، فيما الطرف الكردي رفضها ضمناً لأنها تعني من وجهة النظر الكردية العودة الى المربع الأول في العلاقة مع بغداد. بعبارة أخرى مبادرة معصوم كان مصيرها أشبه بوليد ميت.

 

قصارى الكلام: بدا أن الطريق مسدود أمام مساعي الوصول الى تقريب المواقف باتجاه تأجيل الاستفتاء. لكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد الاستفتاء؟ السؤال ذاته يطرح نفسه ماذا بعد تأجيل الاستفتاء وهو احتمال ظل الأضعف حتى أيام تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الموعد المقرر لإجرائه؟

التكهن بما سيحدث يدخل في باب التنجيم. لكن الأكيد أن الاستفتاء، إن أُجل أم أُجري، يشكل نهاية عراق الأمر الواقع.

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.