منذ ما يقرب من 10 أعوام، أُرسِل مبعوث من تنظيم القاعدة لكي يطلب من أبي مصعب الزرقاوي أن يُخفف من حدة أعماله الإرهابية. ملابسات الرحلة، وقصة فشلها، هي السبب في نشأة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).. إليك الحكاية كاملة:
دقَّ هاتف مديرية مكافحة الجريمة المنظمة والتهريب بمقر الشرطة في مدينة غازي عنتاب، جنوب تركيا، في حوالي الساعة 4:30 من مساء يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2006. لم يُفصح المتصل عن هويته، ولم تُشر السجلات إلى جنس الشخص. لكن المتصل قدَّم معلومات سرية للغاية تُفيد بأن “هناك العديد من الإيرانيين يسافرون إلى مدينة كيليس، وهي بلدة تركية على الحدود السورية، عن طريق غازي عنتاب. وأن أولئك الإيرانيين يستخدمون جوازات سفر مزورة، كما أوضح المتصل، ويستقلون سيارة تحمل رقم 79 M 0064، بحسب تقرير نشرته فورين بوليسي.
العالم لم ينتبه إلى مدينة غازي عنتاب على مدار خمس سنوات، منذ أن بدأت الحرب الأهلية في سوريا. وعند هذه النقطة، أصبحت المدينة مركزاً لرجال ونساء من مشارب مختلفة جذبتهم الكارثة: جهاديون أجانب، جواسيس، صحفيون، وعمال إغاثة. بالنسبة للجهاديين كانت مدينة غازي عنتاب النقطة الأخيرة قبل أن يكملوا وجهتهم للانضمام إلى دولة الـ”خلافة”.
دولة “الخلافة” لم تكُن قد ظهرت بعد في عام 2006. فقد كان هناك عدد قليل من الأجانب في مدينة غازي عنتاب- ولكن السيارة ذات الرقم 79 M 0064 لفتت أنظار الكثيرين.
وبدأت المعلومات السرية التي أدلى بها المتصل تتجلَّى آثارها؛ إذ اعترضت سيارة الشرطة في مساء يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول السيارة التي تحمل الرقم المبلغ عنه، في الزاوية الجنوبية الشرقية من جامعة غازي عنتاب. وكان بداخل هذه السيارة رجلان وسيدة وأربعة أطفال. والقيادي في الجماعة قدم نفسه على أنه محمد رضا رضائي ريان جيبار إيراني الجنسية، وهو الاسم المطابق في جواز السفر الإيراني الذي قدمه.
وقد اشتبهت مديرية الأجانب في إدارة شرطة غازي عنتاب في جواز السفر الذي قدمه رضائي. واكتشفت الشرطة أن ختم الدخول إلى تركيا مؤرخ بتاريخ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، مطابقاً لسجل الدخول الذي وضحته أجهزة الحاسوب، لكن لم يكن على جواز السفر ختم الخروج – وادعى رضائي أنهم قد عبروا الحدود من إيران إلى تركيا منذ أيام. وعلاوة على ذلك، لم تُشر سجلات الحاسوب إلى وجود تصريحات دخول وخروج تطابق تلك الموجودة على أختام جوازات السفر للأفراد الباقين. ويبدو أن الشخص المجهول الذي قدم المعلومات السرية إلى قسم الشرطة كان على حقٍ بشكل من الأشكال.
وبدأ التحقيق الرسمي مع الرجل الذي أطلق على نفسه رضائي بعد أن تم تفتيشه والسماح له باستدعاء محامٍ في الساعة 23:00 يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول. وبعد تفتيش المتهمين وتفتيش سيارتهم وجد أفراد الشرطة بحوزتهم ما يقرب من 10625 دولار وجهازي هاتف محمول، وشريحتي هاتف، ومصباحاً يُثبَّت على الرأس.
الأهم من ذلك، بعد مواجهة المتهم بالتناقضات الموجودة في جواز سفره، اعترف الرجل بأن اسمه الحقيقي ليس محمد رضا رضائي ريان جيبار. واعترف بأن اسمه الحقيقي عبد الرحمن بن يار محمد، وبأنه لم يكن إيرانياً: فقد ولد في مدينة تخار بأفغانستان، وعاش في كابل مع زوجته وأطفاله الأربعة.
وجاء في تقرير الشرطة التركية أن “محمد ادعى بأنه توجه إلى أوروبا، لأنه كان ينوي طلب اللجوء السياسي، وأنه يريد أن “يسافر إلى بلد يوفر له وظيفة أفضل، وتعليماً أفضل لأطفاله، حتى يعيش هو وأسرته حياة أفضل.” وفي نهاية التحقيق طلب اللجوء إلى تركيا.
ولكن إذا كان يريد التوجه إلى أوروبا، فلماذا استوقفت الشرطة سيارته وهي في طريقها إلى سوريا؟ قدَّم “محمد” سبباً غير مقنع، إذ قال إنه يُريد “زيارة بعض المعالم السورية” خلال شهر رمضان قبل أن ينتقل إلى أوروبا. وقال إنهم عبروا الحدود إلى تركيا قبل أربعة أيام عبر معبر دوجوبيزيد بين تركيا وإيران، وبعد استراحة قصيرة على ضفاف بحيرة مدينة وان التركية، وصلوا إلى مدينة غازي عنتاب صباح اليوم الذي أُلقي القبض عليهم فيه. وتُشير التحقيقات المنفردة التي أجريت مع زوجته “سونيا”، إلى أنها قالت نفس القصة.
رفض “محمد” بشدة العودة إلى أفغانستان مرة أخرى، وطلب إرساله إلى باكستان إذا لم يتمكن من البقاء في تركيا. واعتذر “محمد” أيضاً عن جواز السفر الإيراني المزور الذي يحمله وأوضح أنه قد اشتراه بمبلغ 500 دولار من المزورين في إيران، الذين وعدوه بأن جواز السفر الإيراني سيُسهل عليه الدخول والخروج من تركيا أكثر من جواز السفر الأفغاني.
ولم يتضح مدى معرفة الشرطة التركية المحلية بهوية “محمد”، ولكن يُزعَم أن مجموعة مختلفة من الجهات، بما فيها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تعرف معلومات أكثر عن “محمد”. تعرف هذه الجهات أن اثنين من عناصر تنظيم القاعدة الأتراك، وهما “محمد يلمظ” و”محمد رست-أسيك”، قد سافرا إلى إيران لمساعدة “محمد” وعائلته في العبور إلى داخل الحدود التركية. وتعرف السلطات أن “يلمظ” كان يقاتل في أفغانستان وربما كان متورطاً في تقديم المساعدة لتنفيذ سلسلة التفجيرات التي حدثت في إسطنبول في عام 2003.
وكانت تعرف السلطات أيضاً أن المشتبه به الثاني الذي كان موجوداً مع “محمد” وعائلته في السيارة التي تحمل رقم 79 M 0064 هو عنصر آخر في تنظيم القاعدة، ويُدعى “محمد بولات”، وقد قابل “محمد” وعائلته في مدينة غازي عنتاب التركية.
الأهم من ذلك، أن الشرطة التركية تعلم جيداً أن الرجل الذي اُلقي القبض عليه في مدينة غازي عنتاب ليس اسمه الحقيقي “محمد رضا رضائي ريان جيبار” ولا “عبد الرحمن بن يار محمد”. وبالتأكيد لم يكن لاجئاً في طريقه إلى أوروبا.
في الحقيقة، هذا الرجل الذي حجزته شرطة غازي عنتاب يُعرف باسم “عبد الهادي العراقي”، وأنه كان في سعي حثيث إلى تأكيد سلطة تنظيم القاعدة على المجموعة المتمردة المنتسبة إليها في العراق.
وببقاء عبد الهادي محتجزاً في مركز الشرطة، فإنه قد تأكَّد من أن مهمته قد فشلت، لكن من غير المرجح أنه قد عرف وقتئد إلى أي مدى قد فشلت. وبإلقاء القبض على “عبد الهادي”، خسر تنظيم القاعدة أحد أهم عناصره القوية التي أُرسلت في مهمة جريئة لفرض سيطرتها على المجموعة العراقية المتمردة المُنتسبة إليها، وهو التنظيم الذي سيتطوَّر في نهاية المطاف ليُشكل حركة تنافس تنظيم القاعدة على قيادة الحركة الجهادية.
والخلافة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية لم يعلن عنها إلا في عام 2014، أي لم يُعلن عن إقامة الخلافة عندما تأسس تنظيم “الدولة الإسلامية”. الإعلان عن قيام تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” من قبل التنظيم التابع للقاعدة في العراق جاء قبل يوم واحد فقط من اعتقال عبد الهادي، وكانت مهمة “الدولة الإسلامية في العراق” هي حكم هذه الأراضي بهدف إعادة تأسيس الخلافة.
ولم يستشر أتباع القاعدة في العراق قيادة القاعدة الذين يختبئون في المناطق القبلية الباكستانية البعيدة عن العراق. لذلك جاء الإعلان عن تأسيس التنظيم تحدياً كبيراً لسلطة تنظيم القاعدة الذي أنذر بالانفصال العام والعنيف بينه وبين ما يُدعى تنظيم “الدولة الإسلامية”.
هذه هي قصة علاقة تنظيم القاعدة مع المنظمة التي ستصبح فيما بعد “الدولة الإسلامية”، والجهود الفاشلة التي بذلتها المنظمة الجهادية القديمة لإخضاع القادة المغرورين لسلطتها مرة ثانية. الشق الذي حدث بين المجموعتين مرَّ بتقلبات ومنعطفات كثيرة، ولكن أحد أهم التقلبات التي حدثت في تاريخ تنظيم القاعدة كان في أكتوبر/تشرين الأول 2006، قبل أن يُعلن قيام تنظيم “الدولة الإسلامية” ويصبح اسماً معروفاً. لكن محاولة تنظيم القاعدة المستميتة في كبح جماح أتباعها المتمردين في العراق، ستنتهي بإرسال أحد أبرز قادتها إلى السجن في مدينة غازي عنتاب.
القاعدة في العراق وعراق القاعدة
وصل نشوان عبد الرزاق عبد الباقي إلى باكستان في أوائل تسعينيات القرن الماضي، بعد فترة وجيزة من انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان. كان نشوان كردياً من مدينة الموصل العراقية، خدم في صفوف الجيش العراقي أثناء الحرب بين إيران والعراق. واختلفت “كنيته” في السنوات التالية؛ فأحياناً كان يُدعى “عبد الهادي الموصلي”، وأحياناً أخرى كان “عبد الهادي الأنصاري”، لكن أخيراً عرفه الجميع باسم “عبد الهادي العراقي”.
ومثل الكثير من الجهاديين آنذاك، عاش عبد الهادي في باكستان، بينما اشتعلت الحرب الأهلية في أفغانستان بين فصائل المجاهدين الأفغانية السابقة بعد الانسحاب السوفييتي. لكن بدا أنه انتقل لأفغانستان بشكل دائم في عام 1995 أو 1996، عندما فرضت طالبان سيطرتها على الكثير من مناطق أفغانستان. وعندها وظّف عبد الهادي خبرته في الجيش العراقي، وأصبح قائداً مبكراً لكتيبة الأنصار، وهي وحدة عسكرية من الأجانب المقاتلين في صفوف طالبان. وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، اكتُشفَت مخططات لهيكل كتيبة الأنصار، وعمليات تدريبهم، وفكرهم الأيديولوجي، بجانب نسخة من دليل الجيش العراقي أحضرها عبد الهادي من متعلقاته السابقة أثناء خدمته في الجيش العراقي.
وبعد أعوام، قال بعض المحللين إن استخدام تكتيكات خاصة بالجيش العراقي كان دليلاً على أن البعثيين السابقين هم من كانوا يحركون عمليات المجموعة. ربَّما يكون ذلك صحيحاً، لكن عقيدة الجيش العراقي كانت متأصلة في التدريب العسكري للقاعدة والجهاديين منذ سنوات سبقت ذلك – وليس السبب أن صدام حسين كان يدعم هذه المجموعات، بل أن الرجل الذي قاد الجهود العسكرية للقاعدة انشق إلى الجماعة الجهادية بعد خدمته في الجيش العراقي.
وبحلول عام 1998، كان عبد الهادي نجماً لامعاً في تنظيم القاعدة. فقد أدار دار ضيافة للتنظيم في كابل، وكان أحد ستة عرب كانوا محاورين في لجنة الاتصال العربية مع طالبان، مما أعطاه سلطة للتوسُّط باسم العرب في أفغانستان في مطالبهم من حكومة طالبان. وكان اسمه على القائمة القصيرة للأجانب في “مجموعة باميان”، والتي يزعم المحققون الأميركيون أنها تعني مشاركته في عملية تنظيم طالبان الشهيرة بتدمير تمثالي بوذا في باميان في مارس/آذار عام 2001. وفي يونيو/حزيران عام 2001، كان عبد الهادي أحد عشرة أفراد في مجلس شورى تنظيم القاعدة، وهو كيان استشاري لأسامة بن لادن.
وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وسقوط تنظيم طالبان، عُيّن عبد الهادي قائداً عسكرياً لشمال أفغانستان، ويبدو أنه كان متورطاً في عمليات أجنبية أيضاً. وأدرج ريتشارد ريد، “مفجّر الحذاء” الذي حاول تفجير طائرة متجهة من باريس إلى ميامي في ديسمبر/كانون الأول عام 2001، اسم عبد الهادي كمنتفع ثانٍ في وصيته المكتوبة بخط اليد.
وبشكل لا يدعو للدهشة نظراً لأصوله العراقية، ساهم عبد الهادي أيضاً في توجيه استراتيجية القاعدة تجاه العراق. قبيل هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ظل عبد الهادي على اتصال بعائلته وأصدقائه قرب الموصل، وشمل المعسكر الذي تدرَّب فيه الكثير من سكان دار ضيافته “معسكر الأكراد”، مما يشير إلى أن بعض الأكراد العراقيين تدرّبوا فيه.
ولعب عبد الهادي أيضاً دوراً ثانوياً، لكنه محوري، في تبنّي القاعدة لأبي مصعب الزرقاوي، الأردني الذي صار أباً روحياً لتنظيم “الدولة الإسلامية”. أبلغ عبد الهادي عن الجهادي السوري أبي مصعب السوري عندما اكتشف محاولته لتجنيد أفراد من دار ضيافة القاعدة في كابل – ونسَّق تطوير استراتيجية مضادة مع كبار أعضاء تنظيم القاعدة سيف العدل وأبي حفص المصري. وكانت إحدى هذه الاستراتيجيات هي دعم الزرقاوي للحد من التأييد لأبي مصعب السوري في صفوف المجندين الجهاديين في بلاد الشام.
كانت علاقات عبد الهادي مهمة عندما حوّل الزرقاوي اهتمامه للعراق بدلاً من أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. ساعدت القاعدة الزرقاوي في تأسيس معسكرٍ للتدريب في أفغانستان، لكن لم يبايع الأردني الشاب بن لادن في تلك الأثناء. وأدى ذلك لتعقيد مفاوضاته مع القاعدة عند وصوله إلى العراق. وفي عاميّ 2003 و2004، تواصل الزرقاوي بانتظام مع القاعدة، لطلب دعم ماديّ والتفاوض على تقديم المبايعة أخيراً. ورقّى العدل عبد الهادي ليقود قوات القاعدة في شمال أفغانستان بعد 11 سبتمبر/أيلول، وكان عبد الهادي عادةً المتلقي لاتصالات الزرقاوي. وبجانب العدل، كان أحد أهم المشاركين في الحوارات المبكّرة للقاعدة مع الزرقاوي في العراق.
كان إجراء تواصل بين العراق وجنوب آسيا مهمة خطرة. جعلت الجغرافيا وخدمات الاستخبارات السفر بينهما مجازفة، كما يمكن اعتراض الاتصالات الإلكترونية والهاتفية بسهولة. وبالفعل، عندما طلب الزرقاوي دعماً مالياً من القاعدة في عام 2003، تردد عبد الهادي، ظاهرياً لقلقه أن يتم الاستيلاء على المصادر المالية المحدودة أثناء نقلها. وفي النهاية أرسل عبد الهادي مبعوثين للتفاوض مع الزرقاوي، وكان أكثرهم نجاحاً باكستاني من إقليم بلوشستان واسمه حسن غول.
عندما التقى غول بالزرقاوي في يناير/كانون الثاني عام 2004، شرح الزرقاوي صراحةً أن استراتيجيته في العراق تعتمد على التحريض على حرب طائفية دموية. كان سيغتال قادة سياسيين ودينيين شيعة حتى تبدأ الحرب. ونقل غول أنباء هذه الخطة إلى عبد الهادي، والذي أجاب، طبقاً لملخصات للمحادثة نشرتها لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأميركي، أنه “يعارض أية عمليات في العراق تروّج لإراقة الدماء بين المسلمين”. وبعد أن ألقت قوات محاربة الإرهاب الكردية القبض على غول في عام 2004 وهو يغادر العراق، أخبر محققي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن عبد الهادي “نصح الزرقاوي بعدم تنفيذ تلك العمليات”.
كانت مخاوف عبد الهادي مضاعفة، فكان معارضاً لرؤية الزرقاوي الاستراتيجية الوحشية والمروّجة للفتنة، لكن بسبب طول المسافة وفشل الاتصالات بين الطرفين لم يكوِّن عبد الهادي صورة واضحة عن تطور الأحداث في العراق. وكان من الصعب تقييم خطة الزرقاوي، فضلاً عن انتقادها.
وكان من حسن حظ عبد الهادي أن الكثير من أفراد القاعدة كانوا متحمسين للسفر إلى العراق للجهاد هناك. وأمل قائد القاعدة أنه في حال تمكنه من زرع عناصر موثوق بها في المكان، يمكن تكوين صورة أوضح للبيئة التنفيذية هناك وبالتالي تصبح له أفضلية في مقابل الزرقاوي. وعليه أمر عبد الهادي حسن غول بالتطرق إلى الموضوع مع الزرقاوي، وتحديد طريق يسلكه المقاتلون في رحلتهم إلى العراق. كانت للزرقاوي نزعة مستقلة متأصلة، لهذا كان الموضوع حساساً، لكنه أبدى انفتاحاً للفكرة وطلب أفراداً ذوي مهارات تقنية خاصة.
مدفوعاً باستعداد الزرقاوي للتعاون، اقترح عبد الهادي شيئاً أكثر جذرية: سيأتي هو شخصياً إلى العراق. لكن حماس الزرقاوي لمجندين جدد لم يمتد ليشمل قادة تنظيم القاعدة الأعلى شأناً منه، حتى وإن كانوا عراقيين بالفعل. وربما لخوفه من تحد ضمني لسلطة القيادية، رفض الزرقاوي الاقتراح، طبقاً لتقرير لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، فسّر الزرقاوي لغول أن “هذه ليست فكرة جيدة، لأن العمليات القائمة في العراق مختلفة كثيراً عن التي يديرها عبد الهادي في أفغانستان”.
وفي ذلك الوقت، لم يلحّ عبد الهادي على الأمر أبعد من ذلك.
نقطة الانشقاق
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2004، بايع الزرقاوي بن لادن أخيراً، لكن بشروطه الخاصة. شرح الزرقاوي أنه أبدى خضوعه فقط لأن “أخوته الموقرين في القاعدة فهموا استراتيجيته.. وفتحوا قلوبهم لخطتنا” ومن هنا وُلد “تنظيم القاعدة في العراق”، وحُكِم لاستراتيجيته الوحشية والفتنة الطائفية التي حذَّر منها عبد الهادي بالاستمرار.
وكذلك استمر سعي القاعدة إلى التحكم في الزرقاوي. وفي رسالة تعود ليوليو/تموز عام 2005، حذّره أيمن الظواهري، وكان الرجل الثاني في تنظيم القاعدة آنذاك، من استبعاد العراقيين وأمره “بتجنب المجازر”.
لكن هذا لم يعجب الزرقاوي. وبعد أن نشر مدير الأمن القومي الأميركي جون نيغروبونتي نسخة من الرسالة في سبتمبر/أيلول 2005، قال المتحدث باسم الزرقاوي إنها مزورة، قائلاً إنها “بلا أساس سوى مخيلة سياسيي البيت الأسود وعبيدهم”.
تطور الشقاق بين القاعدة والزرقاوي إلى أزمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، عندما نفّذ جنود الزرقاوي تفجيرات في ثلاثة فنادق في عمان، الأردن، ما أسفر عن مقتل أكثر من 60 أردنياً. اشتعلت قيادة القاعدة غضباً. وكتب عطية عبد الرحمن، وهو أحد قياديي القاعدة في إيران، للزرقاوي بعد ثلاثة أيام من تفجيرات عمَّان: “يجب أن تسيطر السياسة على النزعة العسكرية”. وأمر الزرقاوي بإيقاف جميع عملياته خارج العراق.
كرر عطية مخاوف عبد الهادي بشأن قدرة القاعدة على التحكم بما يحدث في العراق عن بعد، وأقلقه ما بدا أنه اعتقاد الزرقاوي بأن رسالة الظواهري مزورة. كتب عطية أن الوثيقة أصلية، وأنها تمثّل “آراء الإخوة، والشيوخ، والقيادة الفكرية والروحية هنا بأكملها”. وقال إن تحسين التعاون بين تنظيم القاعدة و”القاعدة في العراق” هو أهم أولويات التنظيم الآن. وشرح عطية أن “إعداد الإخوة ليكونوا رُسُلاً بينك وبين القيادة هنا هو أمر أكثر أهمية من.. إرسال الإخوة لتنفيذ عمليات مثل.. فنادق عمّان”.
التزم الزرقاوي بالقواعد أخيراً، أو بشكل جزئي على الأقل. عندما أنشأ في يناير/كانون الثاني عام 2006 تحالفاً بين الجماعات الجهادية العراقية، باسم مجلس شورى المجاهدين. وعيَّن المجلس أحد العراقيين أميراً، بينما تراجع الزرقاوي عن الظهور العلني.
لم يستطع مجلس شورى المجاهدين ضم كل الجماعات الجهادية تحت لوائه؛ فلم يشمل المجلس جماعة أنصار السنة، ثاني أكبر جماعة جهادية في العراق والتي لديها أصول كردية ولا تثق في الزرقاوي. حاولت القيادة المركزية في القاعدة توحيد الحركات الجهادية لكن الزرقاوي لم يثق في الجماعة، لذا تواصلت القاعدة مع قيادة أنصار السنة بشكل مباشر.
وفي يناير/كانون الثاني 2006، كتب أيمن الظواهري لأنصار السنة متحدثاً باسم لجنة القاعدة الخاصة لشؤون العراق وأخبرهم أن اللجنة تفضل توحيد صفوف تنظيم القاعدة في العراق وجماعة أنصار السنة. والأهم من هذا، أوضحت اللجنة أن هذه الخطوة ممكنة فقط “بعد تنفيذ إصلاحات أو هيكلة داخلية للقاعدة”. بعدها بثلاثة أيام، أرسلت اللجنة خطاباً آخر تدعو فيه إلى “إزالة كل العوائق التي تقف أمام هذا التوحيد”. إحدى هذه العقبات كانت الزرقاوي نفسه.
تحركت القاعدة سريعاً لحل هذه المشكلة: فأخبرت أنصار السنة أنها اتخذت خطوات لتمهيد الطريق أمام هدف التوحيد بينهما. وقالت القاعدة إنها ستفعل هذا عن طريق “إرسال أخ كريم وشيخ فاضل إلى العراق”. لم تصرح القاعدة عن اسم مبعوثها لكنها قالت لأنصار السنة “أنتم تعرفونه جيداً”.
أوضح خطاب تنظيم القاعدة إلى القيادة الكردية لجماعة أنصار السنة عودة عبد الهادي العراقي، وهو كردي الأصل من مدينة الموصل، إلى موطنه.
في نهاية 2003، سأل عبد الهادي الزرقاوي إذا ما كان ينبغي عليه العودة مرة أخرى إلى العراق. لكن الزرقاوي أجَابه بالرفض. وحين طُرح الأمر مرةً أخرى في يناير/كانون الثاني 2006، لم يكُن للزرقاوي حق الاعتراض.
تغيرت قيادة تنظيم القاعدة في العراق قبل وقت طويل من عودة عبد الهادي إلى العراق. قُتل الزرقاوي بواسطة القصف الجوي الأميركي في العراق في يونيو/حزيران 2006، وحل محلَّه مصري يدعى أبا حمزة المهاجر. وبالرغم من علاقته الطويلة بالقاعدة، أكمل أبو حمزة نهج فصل تنظيم العراق في العراق عن القيادة المركزية.
وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول 2006، أعلن مجلس شورى المجاهدين حل كل الفصائل المكونة له وانضمامها تحت لواء تنظيم جهادي جديد يدعى “الدولة الإسلامية في العراق”. وقبل اندلاع الحرب السورية وبزوغ نفوذ تنظيم داعش على الساحة الدولية بوقت طويل، أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” عن هدفه بوضوح وهو السيطرة على الحكم وإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية.
فوجئت قيادة القاعدة بإعلان تأسيس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”. وفشلت قيادة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” في توحيد صفوف الجهاديين في العراق بعدما رَفضت ضم أنصار السنة إليها، والتي ظلت حذرة من التنظيم رغم مقتل الزرقاوي. للحظة، تحمست قيادة القاعدة عندما سمعت عن اقتراب عبد الهادي من حدود العراق، وأملت أن يجد حلاً للمشكلات التي تواجهها التنظيمات الجهادية. لكن لم تدم هذه اللحظة طويلاً. قبض على عبد الهادي في مدينة غازي عنتاب الواقعة جنوب تركيا بعد يوم واحد فقط من إعلان تأسيس تنظيم داعش في العراق.
وبهذا، خفتت كل آمال القاعدة في السيطرة على الحركة الجهادية الجديدة في العراق وبدأ التنظيم، الذي أنشأه الزرقاوي، في التحليق بعيداً عن مداره. هذا هو لُب القصة.
كتائب كردستان
كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مسؤولة إلى حد كبير عن مراقبة القبض على عبد الهادي، وفقاً للصحفي التركي البارز روسين جاكير.
وأفاد تقرير نشره جاكير في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بأن أعضاء تنظيم القاعدة في تركيا يلمظ ورست- أسيك عبرا إلى إيران لمساعدة عبد الهادي وعائلته في عبور الحدود، ثم أرشداه إلى غازي عنتاب كخطوة أخيرة لعبور الحدود السورية.
تم تعقب رحلة عبد الهادي إلكترونياً، لكن السلطات التركية لم تشأ القبض عليه بناء على هذه المعلومات. وصلت الشرطة في غازي عنتاب معلومات مجهولة المصدر تفيد بأن عبد الهادي يسافر بجواز سفر مزور، ما سمح بالقبض عليه بشكل قانوني.
ومن السهل تخيل حجم القلق الذي انتاب المسؤولين الأميركيين عندما كانت تنظر تركيا في طلب اللجوء الذي قدمه عبد الهادي. ويمتلك عثمان كاراهان، محامي عبد الهادي، سجلاً حافلاً بالدفاع عن الجهاديين في تركيا ووجهت له اتهامات بدعمه للإرهاب.
لم يكن هناك داع للقلق. رُفض طلب لجوء عبد الهادي وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2006، تم ترحيله على الخطوط الجوية التركية من إسطنبول إلى كابل، حيث كان المسؤولون الأميركيون في انتظاره.
وحالياً، ينتظر عبد الهادي الخضوع لمحاكمة عسكرية في خليج غوانتانامو، حيث تم تصنيفه ضمن قائمة أكثر 17 سجيناً أهمية. في يناير/كانون الثاني 2010، أوصت لجنة مراجعة سجلات المعتقلين في غوانتانامو Guantánamo Review Task Force بمحاكمة عبد الهادي ونزعت السرية وأطلقت سراح العديد من الوثائق لاستخدامها كأدلة خلال محاكمته.
ولم يعرف حتى الآن السبب الذي دفع عبد الهادي للسفر إلى العراق. لقد كان قادراً بنفوذه على منافسة الزرقاوي وأبي حمزة. لكن لم يكن واضحاً إذا ما كانت مهمته السيطرة على تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” وإذا ما كانت قيادة التنظيم ستبارك رحلته. ربما كان يخطط لتنفيذ انقلاب؟ ربما كان يريد تأسيس فرع لتنظيم القاعدة من رحم جماعة أنصار السنة؟ ربما كان يهدف فقط للقيام بدور استشاري؟ وربما كان وصوله إلى العراق نذيراً باندلاع حرب مفتوحة الجبهات بين الفصائل الجهادية على غرار ما حدث لاحقاً في سوريا.
وتثير مهمة عبد الهادي العديد من التساؤلات بقدر ما توفر من إجابات. لكن طريقه إلى العراق يخبرنا الكثير عن شكل الشبكة اللوجستية للقاعدة في 2006. لم يحاول عبد الهادي الوصول مباشرة إلى العراق عبر إيران أو تركيا، لكنه سافر عبر اثنين من أكثر الحدود خطورة في المنطقة وقطع مئات الآلاف من الأميال عبر الأراضي السورية والتركية. وسلك عبد الهادي في رحلته طريقاً، استخدمه العديد من المقاتلين الأجانب الذين انضموا إلى تنظيم القاعدة في العراق وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” خلال العامين 2006 و2007، والذي أصبح مشهوراً خلال الحرب السورية.
لم يكن عبد الهادي القيادي الوحيد في القاعدة الذي حاول الوصول إلى العراق. بعد القبض عليه، حاول قائدان آخران رفيعا المستوى، وهما عطية عبد الرحمن ومحمد خليل الحكيم القيام برحلة مشابهة.
لم تتوافر الكثير من المعلومات بشأن رحلاتهما، لكن القائدين أمضيا وقتاً طويلاً في إيران بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ومن المرجح أنهما سلكا الطريق نفسه الذي مر منه عبد الهادي. وتشير الاتصالات الداخلية لتنظيم القاعدة إلى أن الاثنين وقعا في مشكلات، لكن لم يتضح ما إذا كانت شبكة تنظيم القاعدة في تركيا قد تداعت (قتل محمد بولات، سائق عبد الهادي، في غازي عنتاب برصاص الشرطة التركية في بداية 2008) أم أن السلطات الإيرانية قيَّدت حركتهم.
وعلى الرغم من خلافها مع تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، لا يزال لدى القاعدة أنصار في العراق. ظل العديد من الجهاديين في جماعة أنصار السنة منحازين للقاعدة لسنوات عديدة، رغم أنهم لم يحملوا يوماً اسم القاعدة. في هذه الأثناء، هرب يلمظ ورست-أسيك، واللذان عملا مُيسِّرين لعبد الهادي، إلى العراق، حيث أسسا جماعة تدعى “كتائب كردستان”. حاولت الجماعة القيام بدور همزة الوصل بين تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” والقاعدة، لكن بقاءهما لم يدم طويلاً. كانت كتائب كردستان الجماعة الوحيدة التي أعلنت ولاءها لبن لادن وأمير تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”. لكن جهود المصالحة انهارت بعد مقتل يلمظ ورست-أسيك على أيدي القوات الأميركية في يونيو/ حزيران 2007.
بات تنظيم القاعدة أكثر قدرة على نقل القيادات الجهادية إلى أرض المعركة بعد اندلاع الحرب السورية. فقد تمكن العديد من الجهاديين رفيعي المستوى من الوصول إلى وجهتهم في سوريا. بات ممثلو تنظيم القاعدة في سوريا يعرفون باسم “جماعة خراسان”.
في بادئ الأمر، حاولت هذه القيادات السير على نهج عبد الهادي وبناء جسور التواصل مع تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها في النهاية أدانت التنظيم وفضلت التعاون مع جماعات جهادية أخرى صديقة أكثر للقاعدة مثل جبهة فتح الشام وأحرار الشام.
أصبح الوضع الآن مختلفاً عما كان عليه خلال حرب العراق، عندما كانت الدول المجاورة تضيق الخناق على حركة أعضاء تنظيم القاعدة. فقد تمكنت جماعة خراسان من الدخول إلى سوريا بسهولة وكسب الثقة محلياً بفضل معارضتها لتنظيم الدولة الإسلامية. لكنها لم تستطع استعادة سيطرة القاعدة على تنظيم الدولة الإسلامية بأكثر مما كان عبد الهادي قادراً على فعله. إن الوصول إلى صيغة توافقية أمر مهم، لكنه ليس كل شيء.
كان لنجاح القاعدة في إيصال العديد من قياداتها البارزين إلى سوريا أثر بالغ في قدرتها على بناء علاقات قوية مع العديد من جماعات المعارضة، لكن خلافها مع أنصار الزرقاوي أشعل الحرب بينها وبين تنظيم الدولة الإسلامية. فشلت القاعدة في فهم الإيديولوجية الشعبوية التي يرتكز عليها تنظيم الدولة الإسلامية وهي رفض التسلسل الهرمي لقياداته. فبينما يعبر العديد من القيادات الجهادية عن رفضهم تأسيس تسلسل هرمي لقيادتها السياسية والدينية عبر الشرق الأوسط وما وراءه، يصل رفض حركة الزرقاوي للشكل الهرمي للسلطة إلى حد رفض حتى فكرة وجود تنظيم يحتوي نشاط الجهاديين.
انتهت مهمة عبد الهادي عندما قُبض عليه في غازي عنتاب، لكن جهود القاعدة لاستعادة سيطرتها على النشاط الجهادي عالمياً ومنافسة خلفاء أبي مصعب الزرقاوي مازالت مستمرة.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Policy الأميركية. عن موقع .huffpostarabi.com عربي
التعليقات مغلقة.