الأخبار لا تموت لكن صناعتها تعاني التراجع، فلا أحد يشتري أخبارا اليوم، لأن ثمة من يعرضها بشكل سهل ومجاني ومن دون تكاليف.
يمكن أن تكون يوميات محرر أخبار في صحيفة برتغالية لا تختلف كثيرا عن محرر أخبار صحيفة في البحرين، لم تعد الجغرافيا عائقا بقدر ما تلاشت تماما بين البلدان وفق فكرة صناعة الخبر الصحافي.
المشكلة تكمن في أن مصادر الصحيفتين البرتغالية والبحرينية واحدة وفق كل الأحوال، لهذا يمكن تخيّل يوميات المحررين بثقة افتراضية وكأنها صورة من الواقع.
فكل منهما يجلس أمام جهازه في المكتب يتابع شريط الأخبار الذي تبثه وكالات الأنباء، يحاول أن يجد شيئا مختلفا ممكنا التقاطه، شيئا ما يعيد ثقة القارئ غدا بصحيفته الورقية، لكن الشريط الإخباري لوكالات الأنباء العالمية لا يقول أكثر مما نُشر في المواقع الإلكترونية.
هذا التشابه والتكرار يصيبان أي محرر في صحيفة يومية بالعجز والضغط على الأفكار، إنه يأمل أن يقدم طبقا إخباريا ساخنا ليوم غد، إلا أن الإنترنت قضى على مثل هذه الفكرة ونشر أخبار شريط وكالات الأنباء المهم منها والحشو الإخباري، فصارت كل الأخبار باردة وحفظت في ثلاجة سيرفرات غوغل!
عندها يكون الضغط على صناعة الأفكار عند محرر الأخبار أكبر من أن يبقى أسير شريط وكالات الأنباء، ليعيد مفاهيم صناعة الخبر الصحافي، من أجل ألا يكون شاهدا ومساهما في موته.
ستظهر أمامه بدائل مقترحة ونوافذ أفكار فتحها المواطن الصحافي على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذه أيضا ليست صناعة إخبارية تمتلك مقومات مهنية مكتملة أو بتعريف جون همفريز الذي عرف كمحاور لا يقبل التردد مع كبار السياسيين على “بي بي سي”، “كلام حانات” يتداوله الناس يوميا ولا يمكن التعويل عليه بأي حال من الأحوال.
فحسب تعبير همفريز “من يريد أن يعرف ما يفكر فيه الناس العاديون عليه مقابلتهم في حانة أو مقهى”.
ببساطة، لا يصنع هؤلاء الناس في تدوينات على الإنترنت، رأي الجمهور ولا ذائقته بوصفهم صناع خـطاب إعلامي.
هذا عامل آخر يواصل الضغط على محرري الأخبار في الصحف الورقية.
عندما ناقش العشرات من الصحافيين والمتخصصين قبل سنوات مستقبل الصحافة في عصر الإنترنت، كان شعار “صحيفة تصنع مستقبلا” مرجعا لتداول الآراء التي صدر بعدها بيان الإنترنت الذي عد الويب “الكل للكل” في محاولة تحريضية على ضرورة أن تتكيف الصحافة اليوم مع التكنولوجيا المتاحة، بوصف الإنترنت وسيلة تواصل مباشرة مع الأشخاص.
في ما مضى كنّا نتحدث عن القرّاء وعن المُستمعين وعن المتفرّجين واستغلال معرفتهم، واليوم –حسب بيان الإنترنت- لسنا بحاجة إلى صحافيين يعرفون كل شيء مسبقا، ولكن نحن بحاجة إلى الذين يتواصلون، إلى الذين يشكّون ويضعون الأسئلة.
سبق وأن كتبت في هذه المساحة أن الأخبار صناعة، والصنّاع يتراجعون، فلم يعد التاريخ وصناعة المحتوى الإعلامي يستوعبان فكرة “لا أخبار هذه الليلة” فقد حدث مثل ذلك مساء الثامن عشر من أبريل من عام 1930، عندما أعلن مذيع نشرة الأخبار في راديو بي بي سي “لا أخبار هذه الليلة، ليلة سعيدة!”. وانتهت نشرة المساء الإذاعية بمعزوفة على البيانو.
الأخبار لا تموت لكن صناعتها تعاني التراجع، فلا أحد يشتري أخبارا اليوم، لأن ثمة من يعرضها بشكل سهل ومجاني ومن دون تكاليف، لذلك يبقى التحدي أمام رؤوس الأموال في تطوير مفهوم هذه الصناعة لمسايرة الطلب.
لذلك أعادت الصحافية ماك كينون التي تعد من بين أكبر الناشطين في الدفاع عن حرية الإنترنت، تعريف محتوى الصحافة المتميز بإعداد التقارير بالتنقيب عن المعلومات وإضافة تحليل للموضوع ووضعه في السياق المناسب بطريقة لا تتوافر مسبقا على غوغل.
وهي بذلك تمنح متسعا أمام الصحف لإيجاد قصص إخبارية غير مكررة، على الأقل للاحتفاظ بعدد من القراء، كما لا تدع الموضوعية الزائفة -وفق تعبيرها- تقلل من شأن الأخلاقيات المهنية.
وترى كينون أن “المنحى الصحافي الأميركي الكلاسيكي للموضوعية (هو خاص بالولايات المتحدة الأميركية)، فإذا نظرت إلى الصحافة في أوروبا، فستجد أن الصحيفة يمكن أن تكون أكثر ارتباطا بالأحزاب السياسية أو المواقف الفكرية، ومن الشائع في الكثير من أنحاء العالم أن تكون هنـاك صحافة يتابع الناس مـن خلالها الحقائق، وتقدّم فيها الحقائق مع إدراج وجهة نظر سياسية أو أخلاقية، ولسبب ما فإن الكثير من كليات الصحافة تتصرف وكأن هذه الظاهرة غير موجودة”.
ثمة الكثير من الآراء والتنظيرات حول تسييل المحتوى الإخباري، وهذا ما نسمعه في المؤتمرات والندوات بشكل دائم، وهي تنظيرات تمنح –للوهلة الأولى- دفقة أمل لصناعة تكاد تفقد مقومات تفردها بعد أن شاعت بين الجمهور وخرجت من أيادي الصنّاع، لكن واقع الحال يقول إن محرري الأخبار في الصحف مازالوا يمارسون عملهم وكأنهم عاطلون!
التعليقات مغلقة.