ماتت رقية.. هل سمعتم بالخبر
رقية أمضت أكثر من عامين تقاوم الرعب في منبعه، مدينة الرقة، عاصمة تنظيم الدولة. رفضت مغادرة الرقة عندما أتيحت لها الفرصة، لم يطاوعها كبرياؤها الإنساني على الهرب طلبا لأمن شخصي قد لا يوجد.
رقية أمضت أكثر من عامين تقاوم الرعب في منبعه، مدينة الرقة، عاصمة تنظيم الدولة. رفضت مغادرة الرقة عندما أتيحت لها الفرصة، لم يطاوعها كبرياؤها الإنساني على الهرب طلبا لأمن شخصي قد لا يوجد.
هذا ما أرادوه لها، أو هذا ما قصدوه على وجه التّحديد، أن تُذبح رقية من الوريد إلى الوريد، وأن تذبح في صمت مطبق حتى تمحى حكايتها، ويختفي خبرها، ويزول أثرها، ويسقط مجدها في دائرة النسيان الأبدي، لكن هيهات. كان مقصودهم تحطيم صورتها كرمز للمرأة التي أشهرت تمرّدها على مفاهيم الفتح والغزو والزّحف وما إلى ذلك من طقوس الانتصاب الدّموي.
كانت امرأة بوجه أميري ووجدان يشبه أنصاف آلهة أرض اليونان. لذلك لم يكن مرجّحا أن تمنحهم ميتة مهينة وقابلة للتّسويق الدّعائي والادعائي، بل يُحتمل أن تكون قد واجهت سفّاحها الأخير بسخريتها المعهودة، سلاحها اللاّذع في مقاومة الجحيم اليومي لسلطات الرّعب التكفيري.
في كل الأحوال، المرأة لمجرّد أن تكون امرأة بكامل أنوثتها فإنّها تزعج العقل المتمركز حول القضيب، وتكشف هشاشة نفسية ثاوية خلف قناع الانتصاب الدموي كنوع من التعويض عن الخصاء الرمزي، فما بالك بامرأة استطاعت أن تسخف إرهابهم وتسفه أوهامهم وتحرج انتصابهم الغوغائي، وهي تمضي راضية مرضية نحو حتفها الأخير بكل كبرياء أنثوي وشموخ إنساني. وللحكاية تفاصيل..
عندما ألقوا القبض عليها في منتصف الصيف الماضي، أخفوها في مكان مجهول، ربّما خوفا من الحمام الزاجل الذي وعدت في العديد من تغريداتها السابقة بأنه سيأتيها أينما كانت لكي يحمل رسائلها إلى النّاس أجمعين. طيلة أشهر عديدة لم يكشفوا شيئا عن التفاصيل. وقد تركوا حسابها على الفيسبوك مفتوحا ردحا من الزمن، على الأرجح لاقتناص ناشطين آخرين. وعندما قرّروا إعدامها لم يعلنوا الأمر، لم يفصحوا عنه، لم يشترطوا وجود طائفة من المتحلقين ليشهدوا على تنفيذ الحكم وفق ما تقتضيه شريعتهم، لم يوثقوا عملية الذبح بأي نحو من الأنحاء.
والواقع، ليس من عاداتهم أن يعدموا شخصا في الخفاء؛ فالإعدام عندهم عبادة لا يجوز كتمانها، وقربان لا يجدر إخفاؤه، وبعد ذلك فإنهم لا يتورعون عن استثمار مشاهد الذبح لأجل الدعاية للجحيم الذي به يتوعدون. لكن، لعلهم هذه المرّة خافوا من تداعيات الموقف، وأن يصبح وجه رقية المقتولة وشما راسخا في ذاكرة الأحياء، فترتدي الضحية قميص شهرزاد الثورة المغدورة، ثم تتناسل ألف حكاية وحكاية، في ليالي ظلمة حالكة. لأجل ذلك ربّما فضلوا التخلي عن هوايتهم هذه المرّة، وتراجعوا عن التصوير.
أمضت رقية حسن محمد أكثر من عامين تقاوم الرعب في منبعه، مدينة الرقة، عاصمة تنظيم الدولة. ومثل الفرسان النشامى رفضت مغادرة الرقة عندما أتيحت لها الفرصة، لم يطاوعها كبرياؤها الإنساني على الهرب طلبا لأمن شخصي قد لا يوجد. في الحقيقة لا نعرف كيف واجهت لحظة ذبحها، كيف نظرت إلى حد السكين قبل أن يجز عنقها الوديع، كيف كانت أحلامها الأخيرة، لا نعرف شيئا عن حجم العذاب الذي تحمّله جسدها الناعم في أقبية التعذيب قبل حلول ساعة الإعدام، لا نعرف أي الأظافر والأنياب تناوبت على نهشها تحت صيحات التكبير، لا نعرف شيئا عن وقفة العز الأخيرة وهي تتطلع إلى الأفق البعيد، لتسمو عن وجع اللحظة؟
أي نعم، لا نعرف شيئا من كل هذا. لربما حرص الجلادون هذه المرة وعلى غير عادتهم على عدم إظهار النهاية. غير أننا لا نشك، قيد أنملة، في أنها لحظة إعدامها واجهت الحكم بعنفوان يليق بامرأة تسري في شرايينها دماء كردية. لكن، ألم تكن رقية تتوقع الثمن الذي قد تدفعه؟ بلى، فقد كانت تتوقع اعتقالها وإعدامها أيضا، ومن ثم كان آخر ما كتبته قبل أن تعتقلها شرطة داعش ما يلي “أنا الآن في الرقة وأتلقى تهديدات بالقتل، وإذا اعتقلني تنظيم الدولة وقتلني فأنا لا أكترث لأني سأبقى مرفوعة الرّأس وسأحتفظ بكرامتي”. ولأنّ قليلا من الناس من كانوا يعرفون حقيقة رقية، فإن القليلين من حملوا الرسالة على محمل الجد.
ولدت رقية حسن محمد في عام 1985، ودرست الفلسفة بجامعة حلب، ثم انضمّت إلى ما كان يسمّى بالثورة السورية مع بداية ما كان يسمى بالرّبيع العربي، واشتهرت كمدونة تلتقط التفاصيل اليومية الدقيقة لسيرة الثورة المجهضة. ظلت رقية مستقرة في مدينة الرقة التي سيطر عليها الجيش الحر مع بداية “الثورة”. في عام 2013، عاشت الرقة مجدا قصيرا دام لبضعة شهور، كانت المدينة وقتها أشبه بالكمونة المستقلة، حيث يشارك النساء والرجال في النقاشات العمومية حول كل مسائل التسيير والتدبير والتغيير، وحيث المطبوعات والمنشورات وصفحات منتديات التواصل الاجتماعي تشتغل بحرية، كان الاتجاه العام للمدينة ينحو نحو مقاومة الاستبداد الأسدي والتطرف التكفيري على حد سواء.
لكن، لم يمض وقت طويل حتى استولت عليها جبهة النصرة، قبل أن يبتلعها داعش ويجعل منها عاصمة. رفضت رقية مغادرة مدينتها بخلاف الكثيرين، وفضلت أن تستمر في مقاومة الغزو التكفيري من الداخل باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي، مستعينة هذه المرّة باسم مستعار، نيسان إبراهيم. وتحكي في إحدى تجاربها المعبرة كيف أنها كانت تمشي في أحد الأيام في شوارع الرقة فإذا بامرأة تنهرها بلهجة تونسية وهي تأمرها بأن تضبط حجابها وفق المعايير. في تلك اللحظة تمنت رقية لو كان معها مسدس لكي تطلق النار على تلك الغازية التي جاءت من أرض بورقيبة (ويا للمفارقة!) لكي تعلم نساء الشام معنى الحياء.
قبيل اختطافها، نشرت يوم 19 يوليو الماضي على حسابها بالفيسبوك عبارة تصف حياة أهل الرقة تحت أحكام داعش باللهجة السورية “كل يوم منعوا منعوا منعوا منعوا.. جاي عبالي شي يوم يسمحوا بشي”. وفي 20 يونيو الماضي نشرت على حسابها عبارة وضعتها تحت مسمى هلوسات الوداع، تقول “ما دامت تركيا تدعم داعش فداعش باق، ومادام داعش باقيا فالأسد لن يسقط”. هذه العبارة خلاصة حدس قوي لامرأة انضمت إلى الثورة السورية منذ اندلاعها، وانخرطت فيها بوجدان صادق وحس مرهف وقلب شجاع. والآن، بكل تأكيد، لن يسقط الأسد قبل سقوط داعش. هذا إذا نحن أردنا أن تبقى سوريا دولة موحدة. وتلك هي البداهة التي ينكرها الكثيرون.
كاتب مغربي
العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.