– غني عن القول أن نقد وتقييم أعمال وكتابات السيد “عبد الله أوج آلان” زعيم حزب العمال الكردستاني لا يمكن أن يفي به مقال صغير كهذا بسبب الغزارة الإنتاجية الاستثنائية التي يتمتع بها الرجل, بالإضافة إلى الثقافة الموسوعية الباذخة التي يبديها في استعراضاته البانورامية لتاريخ وجود الإنسان على الأرض بدءً بأحقابه الثلاث المعروفة الباليوليتيك والميزوليتيك والنيوليتيك وحتى اليوم.
– ما لا يصرح به أوج آلان بشكل مباشر, ولكني أفترض أنه اكتشافه الأعظم, هو أن الكرد قد قضوا تاريخهم كله تقريباً ساعين إلى أن يكونوا كالآخرين “أصحاب دولة قومية” وقد حان الوقت لنجعل من العالم بأسره كالكرد دون دولة قومية. أما ما يصرح به فهو إن الكرد أكثر الشعوب والمجموعات البشرية جدارة وأهلية واستعداداً لاحتضان نظريته وتطبيقها ثم تعميمها على الكون.
– الخطر الأكبر الذي لا يدركه ساسة الاتحاد الديمقراطي والذي قد يتعرض له أي مجتمع ( بعد وقوعه في قبضة الاستبداد ) هو تسرب فيروس السلطة ( لا أعني جانبها المادي فقط ) إلى مفاصله ومساماته وعسكرته ثم تحويله بالكامل إلى ثكنة بشخصيات وشعارات ومؤسسات شعبية مجتمعية في الظاهر ودولتية في الباطن لا تلبث أن تنخرها الديكتاتورية والبيروقراطية والدوغمائية معاً ويرتع في جنباتها الفساد بأشكاله.
مقدمة :
لا يخدع المرء أحداً سوى نفسه حين يتعرض لمناقشة فكرة ما محملاً بآراء ومعتقدات مسبقة حول تلك الفكرة رفضاً أو قبولاً, فهو بتلك الرأس يبعد أن يكون ” طالب حقيقة ” بأي ثمن بمقدار ما هو صياد بدائي تتمحور أفكاره وغاياته, مهما تنوعت وتشعبت, حول نقطة واحدة هي دفع (الطريدة) نحو فخاخه التي أعدها مسبقاً.
ولا يقل عن ذلك خطورة أن يقف اسم صاحب الفكرة عائقاً في وجه نقدها ومراجعتها وتصويبها من قبل أنصارها من جهة, أو تفهمها والاقتناع بها بل حتى القبول بمناقشتها من قبل مناوئيها من جهة أخرى على مبدأ ” وهل يخرج من الناصرة شيء حسن ؟!” التي قالها الفريسيون عن مسيح الناصرة.
ولعلني غير مخطئ حين أردّ جميع موانع المراجعة والمجادلة هذه إلى بقايا “عقدة نقص ” تاريخية وجمعية نعاني منها كشعب يعيش منذ قرون محكوماً من قبل الآخرين, محروماً من تداول السلطة والمعرفة معاً دون أن نستثني هنا معظم النخبة الكردية المثقفة ( المتعلمة ) التي عاشت كل فئة منها في مستوطنة جغرافية ثقافية تقتات على فتات المعارف التي يجود بها نظامها الإقليمي المتخلف والمتعيش بدوره على فتاته الخاص المتسرب من وراء الحدود.
ولذلك تستحق النخبة الكردية أن تحظى بمثل هذا النقد: اقترنت ولادة هذه النخبة بإنجاز عمليات الصهر القومي والثقافي الأزلية الممارسة على المحكومين الكرد من قبل امبراطوريات كونية تحولت في العصر الحديث إلى دول قومية طهرانية محصورة ضمن حدود ضيقة بعد أن حظرت عليها التفاهمات والمواثيق الدولية التوسع والتمدد ولم تُبقِ لها سوى الانكفاء على حصتها من الحجر والبشر وتنقية دواخلها من الشوائب التي تشوه جمال وحدانيتها المفترضة.
وبناء على مفاعيل عقدة النقص تلك, تحولت هذه النخبة إلى شبه ” ملحق ثقافي ” للنظام السياسي الإقليمي الحاكم وبواسطة ماكينته الثقافية التي لا ترحم, وارتضى أفراد هذا الملحق ودون وعي منهم التحول التدريجي إلى ” تلاميذ التلاميذ ” غير مدركين خطورة هذا الوضع الشاذ على أنفسهم كمثقفين طليعيين وعلى (رعيتهم الشعبية ) التي تتطلع إليهم كلما جلّ خطب.
وهكذا ولج المثقف الكردي قرنه الواحد والعشرين ببضاعة ثقافية منقطعة عن جذرها القروي حاملاً على كتفيه قروناً طويلة وثقيلة من المحكومية ما جعله يتوهم أن التطعيم يمكن أن يقوم مقام الجذر وأن التماهي بحكامه التاريخيين البغاة ( سياسياً وثقافياً ) هو غاية المنى. وما حدث هو أن المبادئ المستوردة يساندها افتقاد القاعدة الثقافية الكردية الصلبة قد تكفلت بإعادة صياغة هذا المثقف بشكل أصبح معه “سؤال الهوية” واحداً من الأسئلة الرئيسية التي يواجهها اليوم.
تحلق هذه النخبة بخيالها, وبخيالها فقط, خارج أتون الصهر فتتحدث بالسياسة وتمارس الحزبوية, وتمارس الديكتاتورية في الوقت ذاته الذي ترهق فيه حناجرها بشعارات الحرية والانعتاق, تؤمن بالمطلق أكثر من إيمانها بالنسبي, تفخر بماضٍ عريق وأرض تاريخية وشعب حيّ من جهة ومن جهة أخرى تربأ عن التحدث أو الكتابة بلغتها وتستكثر على أحد أبناء جلدتها ( الكرمانج ) أن يأتي بأيّ جديد مختلف ناهيك عن أن يسمو بفكره لدرجة يقارع بها الأفكار والنظريات الكبرى في الكون ( المختزل في الغرب منذ عقود طويلة).
عرض النظرية ونقدها:
غني عن القول أن نقد وتقييم أعمال وكتابات السيد “عبد الله أوج آلان” زعيم حزب العمال الكردستاني لا يمكن أن يفي به مقال صغير كهذا بسبب الغزارة الإنتاجية الاستثنائية التي يتمتع بها الرجل بالإضافة إلى الثقافة الموسوعية الباذخة التي يبديها في استعراضاته البانورامية لتاريخ وجود الإنسان على الأرض بدءً بأحقابه الثلاث المعروفة الباليوليتيك والميزوليتيك والنيوليتيك وحتى اليوم.
وحقيقة أن عرض أي مجلد منها ونقده يتطلب مجلداً بحجمه لا يجب أن تحول دون تناول طرف من هذه الأعمال ومحاولة تنوير بعض النقاط الهامة والمتميزة والتعرض لها بذهنية محايدة متـّسقة مع روح البحث العلمي الذي نطمح إلى التخلق به.
بغض النظر عن الهوامش والحواشي الشخصية الواردة في أعمال أوج آلان كسيرته الذاتية ( طفولته ودراسته ونضاله وأسره وبعض منعطفات حياته الاجتماعية ومسيرة حزب العمال الكردستاني منذ التأسيس وحتى اليوم والتوقف في أكثر من محطة عند “المؤامرة الكبرى” التي أنتجت اعتقاله في شباط 1999) فإننا أمام عمل فكري ضخم في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع السياسي مجموع في سلسلة من الكتب أهمها على الإطلاق مرافعاته الخمس التي يبلغ مجموع صفحاتها معاً حوالي ( 2160 ) صفحة لا أشك لحظةً أنها ستسجل لاحقاً في كتاب “غينيس” كأطول مرافعة في التاريخ.
تحمل هذه المرافعات عنواناً رئيسياً هو ( مانيفستو الحضارة الديمقراطية ) بالإضافة إلى عناوين فرعية لكل مجلد هي بالترتيب ( المدنية – المدنية الرأسمالية –سوسيولوجيا الحرية – الشرق الأوسط – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية ) مترابطة عضوياً.
أجد من الضروري قبل كل شيء الإشارة إلى ” فترة السجن ” في حياة أوجلان كمنعطف جوهري وحاسم في مسيرته السياسية والفكرية فخلال سنوات الفترة السابقة لعام 1999 لم يكن هناك ما يشي بهذه الانتقالة الإعجازية من مجرد زعيم حزب سياسي محظور ومدير عمليات عسكرية (خارج على قانون الدول الإقليمية ومسنن هامشي في عجلة سياساتها ) إلى مفكر إنساني ومنظر سياسي غير تقليدي, وفي مجمل أعماله الفكرية الصادرة بدءً من مطلع الألفية الثانية بالتحديد, يختفي ” آ ﭙـو ” ليولد “أوجلان” الذي يعلن براءته من معظم تلك الشعارات الدوغمائية القومية ( وعلى رأسها تحرير وتوحيد كردستان ) التي رافقت انطلاقته وساهمت بشكل كبير في صناعة شعبيته وذلك على إثر اعتكافه القسري في إيمرالي (كهفه النبوي) وشروعه في نسج نظرية فكرية جديدة لم يعرف تاريخ الثورات الكردية على الأقل منذ القرن التاسع عشر شبيهاً لها هي نظرية “الحضارة الديمقراطية والأمة الديمقراطية”. ولنا أن نفترض أن هذه الانتقالة واحدة من الحسنات القليلة للسجون.
ما لا يصرح به أوج آلان بشكل مباشر ولكني أفترض أنه اكتشافه الأعظم هو أن الكرد قد قضوا تاريخهم كله تقريباً ساعين إلى أن يكونوا كالآخرين “أصحاب دولة قومية” وقد حان الوقت لنجعل من العالم بأسره كالكرد دون دولة قومية. أما ما يصرّح به فهو إن الكرد أكثر الشعوب والمجموعات البشرية جدارة وأهلية واستعداداً لاحتضان نظريته وتطبيقها ثم تعميمها على الكون.
” الأمة الديمقراطية ” هي النسخة الثالثة من الرؤى والنظريات الكونية بعد الإسلام ( وسوابقه وأشباهه من اليوتوبيات الدينية ) والماركسية ( وما عاصرها وتبعها من الاشتراكيات العلمية ), وهي نسخة منقحة بعناية فائقة, تنهل من الدين روح المثال دون أن تستعيده حرفياً أو حتى تدعي الإيمان به, وتتكئ على الماركسية لا لتبشر بها أو تهاجمها كما جرت العادة ولكن لتضعها على مشرحة النقد فتتجاوزها وتسدّ في طريقها الثغرات التي غفل عنها ماركس ( 1818 – 1883 ) نفسه.
ومثل معظم النظريات الشمولية التي ظهرت عبر التاريخ, تقدم نظرية “الأمة الديمقراطية ” نفسها بوصفها ( الرؤية الوحيدة الصائبة والنهائية للكون ) ويتناول مؤلفها أكبر كم من أجناس العلوم والآداب مستشهداً بأسماء مئات الأعلام والأمكنة والأقوام بدء بالإنسان العاقل وبذاكرة حديدية لا يصيب منها وهن ولا نسيان ولا حتى الوقوع في شرك التكرار, وبمنهج بحثي محترف يربط بين جميع تلك الأسماء والأحداث قديمها وجديدها بسلسلة منطقية يصعب النيل منها.
لا نبخس “أوجلان” حقه حين نؤكد أن (الإبداع في الأصل إعادة تركيب) وأن ( لا شيء يفنى ولا شيء يخلق من العدم ) بل على العكس فإن ذلك ( الإبداع في التركيب ) الذي يعطي انطباعاً بـ ( خلق من عدم ) خليق بأن يضفي على صاحبه الرفعة التي يطمح إليها والتغيير الذي يريده خاصة إذا لعب هذا الإبداع دور الدافعة العقائدية بالنسبة للحراك العملي على الأرض وهو الأمر الذي يفاخر به أوج آلان في أكثر من موضع.
فأطياف الفوضويين من الروسي ميخائيل باكونين( 1814 – 1876 ) إلى مواطنه بيتر كروبوتكين ( 1842 – 1921 ) إلى الأمريكي موراي بوكين ( 1921 – 2006 ) التي تحلق في فضاءات أعماله لا تلعب في الحقيقة أكثر من دور نعل الحصان الفائز في السباق فيما يتعلق بمسائل الدولة والقومية والاشتراكية والمدنية والبيئة والبلديات التحررية.
وأسماء الهولندي باروخ سبينوزا( 1632 – 1677 ) والأمريكي إيمانويل والرشتاين (1930 – ؟ ) والألماني آندريه غوندر فرانك ( 1929 – 2005 ) والفرنسيان فرناند بروديل ( 1902 – 1985 ) وميشيل فوكو (1926 – 1984) التي يقرّ أوج آلان, للمرة الأولى, باطلاعه على أعمالهم وإعجابه ببعض التحليلات والتقييمات الواردة فيها لا تمنعه البتة من نقدها بحدة وجرأة ووضع أصبعه على مواضع الزلل والقصور لديها حين يتطلب الأمر ذلك.
فمن حيث المبدأ, ليس لأحد أن يعلن عداءه للتعايش العرقي الديني ( ما بين البشر أنفسهم كإخوة في الجنس) والتعايش الاقتصادي ( بين البشر كشركاء اضطراريين ) والتعايش البيئي ( بين البشر كأبناء والطبيعة كأم ) لأن البديل الوحيد لكل ذلك يتلخص في كلمة واحدة هي ” الحرب “, حرب يكون فيها الكل ضد الكل ولا أحد منتصر.
إن العوائق التي تحول دون تجسيد الكلام أعلاه على الأرض في مجتمعات كالتي نعيش فيها تحتاج نبياً ولا يبدو أن عصر النبوات قد انتهى – على الأقل في ذهن أوج آلان– وما زال العالم بحاجة على رأس كل مائة كما كان يقال أن يظهر “من يجدد لهذه الأمة دينها” ولكن بكلمات عصره وأدواته ورجاله, وآية ذلك أن أوج آلان لا يمل من الاستشهاد بمواطنه ” النبي إبراهيم ” ومقايسة نفسه به بإسقاطات تاريخية تشمل الفكر والدعوة والهجرة والنضال وتجربة الحرق حياً والثبات على المبدأ.
تبدي النظرية كامل احترامها للنظريات العلمية ( لا العلموية كنهج) فتتقاطع في قبولها لمبدأ التطور (الاجتماعي ) مع الداروينية وتطورها ( البيولوجي ), وتتخذ من فيزياء الكموم حجة لإثبات أهمية التنظيم وطبيعية التعايش والتجاور والتكامل, ومن آينشتاين نسبيته ودحضه للمطلق في مفهومي الزمان والمكان, كما تتقاطع مع الماركسية في نقاط كثيرة على رأسها رفضها للرأسمالية وشرورها, إلا أنها تختلف مع الداروينية اختلافاً جذرياً في رفضها أو تجاهلها لمبادئها الرئيسية الأخرى ( صراع البقاء ) و( البقاء للأصلح ) حين تعلن أن التعايش المجتمعي السلمي قدرٌ يمكن / يجب الوصول إليه عبر تقليد الطبيعة ومكوناتها اللا إنسانية ( الحيوانية والنباتية ), كما تقف في مواجهة الماركسية المتسلحة بمفاهيم (الرأسمالية مرحلة تاريخية) و(حتمية الصراع الطبقي) بين السادة (أرباب العمل) والعبيد ( العمال ) ثم ( دولة العمال ) و( ديكتاتورية البروليتاريا )اللتين سبق لباكونين أن رفضهما.
يقول أوجلان بهذا الصدد : ” … وربما لو نُظر إلى التاريخ من زاوية صراع مقاومات العشائر وتصدياتها بدلاً من الصراع الطبقي لكان سيسود التعاطي الأكثر واقعية بكثير بشأنه ” ( مجلد3/ص234 ) في تنظير متسق تماماً مع رؤيته العامة التي تفضل القرية على المدينة والقبيلة على الأمة وتعالج التاريخ بناء على تاريخ الكلانات الذي ينبسط ليشمل تقريباً معظم الماضي البشري على الأرض.
أما اختلافه الرئيسي مع ماركس فيكمن في اعتراف الأخير بالرأسمالية كمرحلة تاريخية حتمية وكنظام اقتصادي في حين يرى أوج آلان أن الرأسمالية سلطة وهي ليست اقتصاداً بل عدو للاقتصاد, يقول معللاً : ” إن الاعتراف بالأسياد وتعريفهم ومن ثم عرض الاقتراح على خدمهم بخوض الكفاح ضدهم هو النزوع المشترك لشتى أنواع الانتهازية ” ( مج2 / ص71 ), بالإضافة إلى أن ماركس ( وفق أوج آلان في مج4) قد قاس كدح العامل وقيمة عمله بشكل اعتباطي ومنقطع عن المجتمع الذي أنشأه وأنه – أي ماركس – قد غفل عن عقد العلاقة الجدلية الضرورية بين العنف وتراكم فائض القيمة, ويرى من جهة أخرى أن ” قبول الشيوعيين الألمان للدولة القومية المركزية أساساً بما فيهم ماركس وأنجلز كان يعني الاعتراف موضوعياً بالهزيمة ” ( مج2 / ص246 )
في حقيقة الأمر إن أوجلان بتجديده للماركسية يقوم في مجتمعنا بالدور الذي كان منتظراً أن تقوم به شخصية رائدة مثل” خالد بكداش ” فتحليلاته الثورية الأصيلة والمتعلقة على وجه الخصوص بمنطقة الشرق الأوسط وقومياتها الأربعة الكاثرة على ضوء التاريخ والحداثة معاً تتمة حقيقية لأعمال من سبقه من رواد علم الاجتماع السياسي وفلاسفة ومنظري الشيوعية وعلى رأسهم ماركس الذي اقتصر مجال نظره كما يعرف الجميع على حيز جغرافي ضيق لم يكن للشرق فيه نصيب يذكر.
ويمكن – بل من الأفضل – أن ندع هذه المآخذ السالفة تكون موضوع رد ومناقشة فكرية موسعة من لدن اتباع ماركس والذاهبين مذهبه.
يقول أوجلان :” إن الخطر الأكبر الذي يهدد الديمقراطيات والإدارات شبه المستقلة في عصر الحداثة الرأسمالية يأتي من السلطات الدولتية القومية, فالدولة القومية التي كثيراً ما تموه نفسها بستار الديمقراطية ترسخ المركزية الأكثر صرامة قاضية بذلك كلياً على حق المجتمع في الإدارة الذاتية ” (مج5/ص 46 ) وهو كلام حقّ لكنه فخّ كبير لأن مبدأ الحتمية الذي يرفضه أوج آلان هو من حوّل الـ “هوموسابينز” إلى “مواطن” وهو من وسّع “القرية” حتى حولها إلى “مدينة” قبل أن يجمع المدن المتقاربة في إطار أكبر هو الدولة, وهو بالذات– كما يخيل إلي – من سيعبث قليلاً مع هذا ” النكوص ” المتأخر قبل أن يضعه ثانية على السكة ذاتها التي حاد عنها لأسباب ربما ليس أخطرها تفشي الجهل والأمية … يمكن توجيه النقد ذاته لفكرة أوج آلان التي تستعيض بالأخلاق عن القانون.
يقول أوجلان :” من أجل التحول إلى أمة يكفي أن يتكون عالم ذهني وثقافي مشترك على الرغم من اختلاف الطبقات أو الجنس أو اللون أو الإثنية أو حتى اختلاف جذور الأمة ” ( مج5/ ص 50 )
وهو توصيف سأكون مجاملاً لو وصفته بالرومانسية والأفلاطونية, فأمة الذهنية الثقافية المشتركة تغرف تاريخها من حقبة النيوليتيك وحاضرها من التجربة الأمريكية بشكل خاص وإن لم تشر إلى ذلك, وعليه فالنقد الذي يمكننا توجيهه لهذه الفكرة العظيمة سيمر عبر تقاطعها مع صيغة ( الفرد – المواطن ) التي سبق لأوج آلان نفسه أن رفضها ووصمها بأبشع النعوت.
يرتكز الفكر الأوجلاني في نظرته لبناء المجتمع الكردي( فالشرق أوسطي فالإنساني عموماً ) الجديد على ثلاثة مفاهيم ( أركان ) أساسية يمكن اعتبارها خلاصة الخلاصة, وهي التالية:
1- الأمة الديمقراطية متعددة الأعراق والثقافات والديانات في مواجهة مؤسسة الدولة عموماً والدولة القومية وحيدة الانتماء العرقي الثقافي الديني خصوصاً, وكومونات الإدارة الذاتية بديلاً عن مؤسسات الدولة البيروقراطية, والإدارة المجتمعية الكومونالية بديلاً عن السلطة العسكرية أو شبه العسكرية.
2- الاقتصاد المنزه عن الربح في مواجهة رأس المال العالمي وقوانينه الجائرة من نهب مقونن واستغلال مزمن ومضاربات مالية طفيلية وأسواق بورصة, وباستعارة مفردات أوجلان نفسه : “العصرانية الديمقراطية” بديلاً عن “الحداثة الرأسمالية”, و”الحياة الحرة ضمن اقتصاد كومونالي” بديلاً عن “الاشتراكية المشيدة واقتصادها البيروقراطي”.
3- التصنيع البيئي ( الإيكولوجي ) في مواجهة الصناعة المخربة والمضادة للبيئة ( الصناعوية كما ينعتها ويعيد تعريفها كثورة أيديولوجية سياسية لا اقتصادية), والقرى الإيكولوجية بديلاً عن المدن ( السرطانية كما يصفها ).
وهي كما نرى ثلاثة أركان نظرية متسقة تماماً مع الإنسانية في معناها العام بل إنها بتجريدها من الصبغة السياسية وترجمتها أدبياً ستتحول إلى تعاليم نبوية لا ينتطح فيها عنزتان.
فمن حيث المبدأ, ليس لأحد أن يعلن عداءه للتعايش العرقي الديني ( ما بين البشر أنفسهم كإخوة في الجنس) والتعايش الاقتصادي ( بين البشر كشركاء اضطراريين ) والتعايش البيئي ( بين البشر كأبناء والطبيعة كأم ) لأن البديل الوحيد لكل ذلك يتلخص في كلمة واحدة هي ” الحرب “, حرب يكون فيها الكل ضد الكل ولا أحد منتصر.
إن العوائق التي تحول دون تجسيد الكلام أعلاه على الأرض في مجتمعات كالتي نعيش فيها تحتاج نبياً ولا يبدو أن عصر النبوات قد انتهى – على الأقل في ذهن أوج آلان– وما زال العالم بحاجة على رأس كل مائة كما كان يقال أن يظهر “من يجدد لهذه الأمة دينها” ولكن بكلمات عصره وأدواته ورجاله, وآية ذلك أن أوج آلان لا يمل من الاستشهاد بمواطنه ” النبي إبراهيم ” ومقايسة نفسه به بإسقاطات تاريخية تشمل الفكر والدعوة والهجرة والنضال وتجربة الحرق حياً والثبات على المبدأ.
إن مصطلحات كبرى كـ ( المعنى, الحقيقة, العشق, الحياة الحرة, الأخلاق, الديمقراطية, اللوياثان … ) وهي الأكثر تكراراً في المرافعات تكتسب في السياق معانٍ جديدة بريئة مما اعتدنا تصوره في أذهاننا تحت تأثير تكرار لفظي ساهم في ابتذالها وانحرافها عن مدلولاتها بشكل كبير, بالقدر نفسه الذي يعيد المؤلف تعريف وموضعة مصطلحات متفق عليها سلباً أو إيجاباً كالعلموية والوضعية والعقلانية والميتافيزيك والعشيرة والقانون…
ولكن مما يؤسف له بالفعل أن ينزل الفكر الأوجلاني على رؤوس ( الآبوجيين ) كنزول القرآن على رؤوس المسلمين أعني أن يجري التعامل مع هذا الفكر بكل هذه السلبية والاستسلام ويتم تقديمه على أنه منزّل وكلي الصحة وقابل لكل شيء إلا للمناقشة والنقد والمراجعة والتصويب.
ومما يؤسف له أكثر أن تقتصر مقاربة المثقف الكردي المناوئ لأوج آلان– مع استثناءات قليلة – على التنافس البلاغي في شتمه وتنقيصه فثمة من وضع جميع هذا النتاج الفكري في سلة واحدة ووصمه بـ ” الثرثرة الفارغة ” وآخر نزل عن برجه العاجي في أوربا مستغلاً شهرته الأدبية للتشويش على الفكر بربطه بالممارسة ولابتداع مصطلح شتائمي ساخر هو ” حزب البعث الأوجلاني ” الذي سرعان ما تلقفه مريدوه, وثالث لا يمل من التشكيك بملكية هذه الأعمال لصاحبها ولكن دون دليل, ودون أن يكون لكل ذلك بالطبع أثر يتجاوز العالم الافتراضي ودون أن تهتز رغم كل ذلك صورة أوج آلان في عيون مؤيديه وأتباعه بأكثر من اهتزاز صورة المغسّل في عيني الميت.
وكأن سجين إيمرالي يدافع عن نفسه حين يقول : ” إن عدداً جماً من المتنورين صرحوا بالعديد من تفسيراتهم الخاطئة والمجحفة بعدما ساورهم ضلال ساذج مفاده أن لا خيار أمامي سوى اللجوء إلى تواطؤ رخيص وأنا مطوق في عرض الجزيرة بأعتى أشكال حصار الدولة ” ( مج5/ص 21 )
خاتمة:
ليس أمامنا حتى الآن سوى تطبيق عملي واحد للنظرية وهي التجربة التي قام عليها واحتكرها “حزب الاتحاد الديمقراطي” ذو المرجعية الأوجلانية في روجافا كردستان ( شمال شرق سوريا ) وهي بالتأكيد حالة غير كافية مبدئياً لتقييمها والحكم عليها أقله للأسباب التالية:
– جدتها وحداثتها ( نوعياً وزمنياً ).
– صغر الرقعة الجغرافية المطبقة فيها.
– حالة عدم الاستقرار والتهديد الخارجي المتواصل.
– حالة المعارضة الداخلية الرافضة للتجربة والمشوشة عليها على خلفية مناكفات حزبية طحنت أفكار أوج آلان في طريقها.
ودون أن نغفل أخيراً عن سبب ذاتي يعود إلى المسافة التي تفصل عادةً بين النظرية والممارسة, فالفكر النظري الذي يقدمه عبد الله أوج آلان بوصفه فلسفة سياسة ونمط مجتمع وأسلوب حياة يتطلب بالضرورة صحابة مؤهلين لإنجازه وفقاً لوصفة المعلم وتعاليمه وباستخدام السيف والموعظة الحسنة معاً. وبالضرورة أيضاً كما يخيل إلي, ووفق ما تقتضيه نواميس الكون, أن تتعرض هذه التعاليم لسوء فهم ناتج إما عن غباء وقصور ذهني طبعي وإما عن سوء نية وتحريف مقصود لأغراض ومقاصد آنية رخيصة يقتصر الكسب والرفاه المادي فيها على حياة واحدة لا يتجاوزها, وهو ما وقع ويقع عادة لمجمل الثورات الكبرى ( الماركسية والإسلام كنموذجين فاقعين ) وهو ما نشهد بعض أمثلته في الكثير من سلوكيات أبناء شعبنا ممن حضروا العرس بثيابهم البالية ولم يجدوا مطية للوصول, قبل نفاد الحلوى, أفضل ولا أسرع من حزب الاتحاد الديمقراطي الحاكم في روجآفا اليوم.
وكأي حزب ذاق عسيلة السلطة, يتعامل حزب الاتحاد الديمقراطي مع المجتمع ( العائلة الكردية) بالمقياس ذاته والخشونة ذاتها التي يتعامل بها مع داعش ( العدو الخارجي ) من حيث الشدة والسرعة والذهنية كانعكاس لصورة موقع التعالي والتفوق الذي يشغله أوج آلان بالنسبة لأقرانه من السياسيين الكرد, وهذا السلوك الحزبي البطرياركي لا يشير إلا إلى خلط مريع بين العدو والخصم ويكاد يشبه تعامل الزوج الكادح العائد من المنجم مع زوجته.
فالخطر الأكبر الذي لا يدركه ساسة الاتحاد الديمقراطي والذي قد يتعرض له أي مجتمع ( بعد وقوعه في قبضة الاستبداد ) هو تسرب فيروس السلطة ( لا أعني جانبها المادي فقط ) إلى مفاصله ومساماته وعسكرته ثم تحويله بالكامل إلى ثكنة بشخصيات وشعارات ومؤسسات شعبية مجتمعية في الظاهر ودولتية في الباطن لا تلبث أن تنخرها الديكتاتورية والبيروقراطية والدوغمائية معاً ويرتع في جنباتها الفساد بأشكاله.
ندفع هنا بقول أوج آلان نفسه ” لا مكان في الكونفيدرالية الديمقراطية للهيمنة عموماً وللهيمنة الأيديولوجية على وجه الخصوص ” ( مجلد3/ص282 ) وكذلك “إن استفحال السلطة بين المجتمع برمته يعني إعلان الحرب ضد المجتمع أجمع ” (مج2 / ص 256 ) للتدليل ليس فقط على مظلومية ومعاناة الحركة السياسية الكردية القومية في كردستان سوريا ولكن كذلك لافتراق النظرية عن الممارسة التي إن لم تكن تحريفية خيانية فهي تدور في فلكها.
وقبل أن نختم, لن تفوتنا الإشادة بالتقييمات النظرية رفيعة المستوى التي يقدمها المؤلف بشأن الإسلام وتاريخه ومؤسساته خلال كامل الزمن الممتد بين قريش وداعش وبتحليلات ثمينة لا تكتفي بفض بكارة التاريخ المدرسي الرسمي, وكذلك التفاتاته المتكررة لشؤون المرأة عموماً والحركات الفامينية والتي لاقت انعكاسها على أرض الواقع, كما يخيل إلي, بأقل قدر من الأخطاء والاعتراضات.
وأخيراً وبعد أن أتقدم بشكر لا يفي حق المترجمة “زاخو شيار” بكل أمانتها وبلاغتها وجَلَدها, أقول :إذا كنت قد نجحتُ بمقالي هذا في لفت الأنظار إلى نتاج فكري محترم يحتكره البعض رغم أنه حق عام وحركتُ بعض الهمم الخاملة نحو قراءته والتفاعل مع التحديات التي يطرحها من خلال المقتطفات القليلة التي أوردتها فهو عين المقصود وغاية المراد وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
نشرت في صحيفة Bûyerpress في العدد 33 بتاريخ 2015/12/15
التعليقات مغلقة.