العقل.. سفرٌ في عالمٍ مجرَّد أدوار العلوم والفلسفات

23

3108867538

يتساءل كتاب «العقل.. سفر في عالم المجرد»، للكاتب اللبناني ماهر أبو شقرا، عن دور «الإنجازات» التي قدَّمتها سائر الفلسفات والعلوم، ولا تزال تقدِّمها: هل قرَّبتنا هذه الإنجازات من معرفة الحقيقة أكثر؟
أم أنَّ الإنسان حين كان متماهياً مع الوجود متناغماً معه كان أقرب إلى «الحقيقة» مما نحن عليه اليوم؟ بشكل آخر: هل إنَّ المنهج الذهني المعرفي السائد الذي يرتكز على التفاصيل قد جرَّد العقل البشري الجماعي في سيرورة بنَّاءة للاقتراب من الحقيقة؟ أم أنَّه جرَّه في سيرورة هدَّامة جعلت المعرفة تغرق في التفاصيل، وبالتالي أبعد العقل البشري الجماعي عن «الحقيقة» أكثر فأكثر؟
أسئلة كثيرة يطرحها المؤلف، لكن يبين أنه إذا أُخذنا في الاعتبار أنَّ العلاقة الجدلية التي تربط مختلف العقول البشرية، هي التي تحكم سيرورة تطور العقل البشري الكلي وظهور وارتقاء طاقاته وقدراته الكامنة، فإنَّ الاختراعات التكنولوجية إنَّما تعترض هذه السيرورة.
بمعنى آخر، عوض أن تتطوَّر العقول الأقل قدرة لتكتسب تلك القدرات التي درجنا على تسميتها «استثنائية»، فإنَّ العكس هو الذي يحدث. تعمد سائر العقول على الاستعاضة عن العقل بشتى الوسائل التكنولوجية المتاحة ليدخل «العقل» في سيرورة تراجعية، في واقع تفرضه وتكوِّنه العقول الأقل قدرة، واقع يعكس متطلباتها ويعبِّر في الوقت نفسه عن النمط الاقتصادي الذي يهدف إلى الربحية على حساب تطور العقل وارتقائه.
وكأنَّ التكنولوجيا تنوب عن العقل وتحفر له قبره. في حين نرى أنَّ بعض الفلسفات في شرق آسيا كالبوذية مثلاً، استندت إلى تجريد الوعي في مقاربتها للوجود، غير أنَّها انسلخت عن المجتمع عبر ممارسات يغلب عليها التنسُّك عوض العمل على تطوير المجتمع، لتتطبَّع بالتالي بمفاهيم الحياة البشرية وفق الطريقة التي دأب البشر على فهمها وعيشها. وأما فلسفات عديدة مغايرة..
فجرَّدت، طبقا للمؤلف، مفهوم التكوين لديها من العوامل الموضوعية المجرَّدة بذاتها. كما دعمت معظم الفلسفات اللاحقة، حتى الإلحادية منها، هذه المقاربة للتكوين – أي السببية – فغرقت في البحث في المسبِّبات، واستندت الفلسفات الدينية السماوية إلى فرضية أنَّ الخالق هو أساس لكل وجود، وسبب كل جماد وارتعاشة في الكون.
ويشرح المؤلف أنه نتعصَّب لقناعاتنا ودائماً ما نسعى فقط إلى تأكيدها، بحيث إنَّنا نسعى إلى أن نسمع ما نريد أن نسمعه، ما نحن مقتنعون به أصلاً، والإنسان المتعصِّب لفكره، سواء سياسياً أو نفسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، إنما هو متعصِّب لمنظومة فكرية مبنية على مجموعة ضيقة من التفاصيل.
في حين كما يرى المؤلِّف أبو شقرا أنَّ التطور المعرفي يتطلَّب منَّا فكراً منفتحاً مرناً، يأخذ في الاعتبار دوماً احتمال أن تكون بعض قناعاتنا، وأحياناً الكثير منها، أو حتى جميعها، قناعات خاطئة. لأنَّ مدى المرونة والانفتاح على جميع الاحتمالات والقدرة والجهوزية لاحتواء أشكال النقض كافة للقناعات والمنطلقات الفكرية التي لدينا هي معيارُ إمكانيتنا على التطور.
ويدرس الكاتب بعد ذلك، الأحزاب- جميع الأحزاب والعصبويات- التي تُبنى على التفاصيل الخطية الذاتية. بحيث كلما ضاقت التفاصيل وتمتَنت في قالب ضيِّق متراصٍّ قليل التفاصيل، زاد منسوب العصبوية والتنظيم لدى الحزب، وزادت قدرته على التجييش، وحتى على الوصول إلى السلطة بشكلٍ مؤقت.
ثمَّ يحمل المؤلِّف على منطق «السببية» وهيمنته على الفكر الإنساني لمئات القرون، كونه أسهم في إرساء نوع من الخمول والإذعان للواقع المرئي أو المحسوس، وأضعف الإيمان بالذات وبالقدرة على التغيير الشامل الذي يحتاج للإرادة القوية.

بيان الإمارتيّة

التعليقات مغلقة.