الكورد ورقة الغرب لمواجهة أردوغان

25

11_13_07_09_أهازيج فرح ونواح ثكالى، مشهدان متلازمان لا ينفصلان، مئات بل قل الآلاف يجوبون شوارع المدن الكبرى فى تلك البقعة الجغرافية الحادة التضاريس والممتدة بطول الجنوب الشرقى من هضبة الأناضول، وهو جزء نادرا ما يهدأ فهو دوما مثار بالأحداث، التى زاد زخمها، مع تصاعد أتون الحرب الأهلية فى سوريا المتاخمة، ونذيرها المشئوم بإبادة وسحق السكان الأكراد بكوباني ، ومع اتساعها إثنيا وأرضا وفضاء، كان لابد أن تنتفض معهم إسطنبول قلب تركيا النابض دائما وأبدا، بيد أن احياءها سواء بالشطر الاسيوى أو الأوروبى باتت تعج بمسيرات الاقرباء فى الدم والعرق، بوجهيها السعيد والباكي معا .
النساء منهم يرفعن صور فلذات أكبادهن، وجميعهم شباب فى العشرينات من عمرهم، الذين فقدوا قبل عقدين كاملين فى مواجهات مسلحة كان مسرحها تسعينيات القرن المنصرم، ولا يعرفن عنهم شيئا، ورغم يقينهم أنه قضى نحبهم، ولكن أين رفاتهم؟ وليس هناك ما يشير إلى أنهن سيحصلن على معلومات حاسمة تضع حدا لأنات قلوبهن، والرجال يلفون أنفسهم بالإعلام، ذات الالوان الثلاث الأحمر والأصفر والأخضر، وفى البؤرة منها الشمس الساطعة، والتى تجسد الكيان الحلم “كردستان” الدولة الآتية دون ريب، هكذا تنطق وجوههم المشرئبة العازمة على تحقيق التصر، وهذا ما يفسر السعادة والحزن فى المظاهرات المتواصلة، وبالطبع لا ينسون صور زعيمهم عبد الله أوجلان، وهم يلعنون القوميون المتطرفون ومعهم رجال أمن متواطئون محملين إياهم فقدان أبنائهم وأحبائهم وما آلت إليه قضيتهم من تعثر وضياع.
ويمكن لكاتب تلك السطور أن يجزم بأنه لم ير طوال السنوات الخمس عشرة الماضية، هذا الفوران الاحتجاجى شبه اليومى مثلما رآه وشاهده فى الأسابيع الأخيرة، وباتت مألوفة تلك الصرخات والصيحات المطالبة بالوطن المسلوب، وما كان محجوبا حتى وقت قريب نسبيا، لم يعد كذلك، ويقينا لن يعود التابو مرة ثانية، فقد أطلق العنان للمكبوت، وللانصاف يبدو هذا ــ حتى وأن على مضض ــ مقبولا لدى قطاع مؤثر من النخبة الحاكمة.
لكن فى المقابل وتلك المعضلة الآنية المعاشة، ان الطرف الآخر فى الصراع بدا نسيا منسيا، وفى تعمد ليس خافيا تناسى المجتمع الدولى ــ الذى أصبح داعما بصورة لافتة للرؤى الكردية تحت ضغط داعش ــ لآلاف الأتراك عسكريين ومدنيين الذين سقطوا صرعى طوال العقود الثلاثة الماضية، وهم المنعوتون فى الادبيات اليومية وبالذهن التركى الجمعى بالشهداء، والسؤال : هل ضاعت دمائهم سدى؟ وما زال النزيف مستمر فى حرب عصابات، حتى وأن قلت، تشنها بين الفينة والأخرى، منظمة حزب العمال الكردستانى، محدثة خسائر بشرية ومادية موجعة.والغرب نفسه أوروبيا كان أم أمريكيا والذى سبق وصنف تلك المنظمة بالارهابية، على إستعداد الآن أن يغض الطرف عن أعمالها المأسوية، بعدما تم تصدير صورة ذهنية للرأى العام العالمى، محورها بإن المقاومة التى أظهرها المقاتلون الأكراد فى كوبانى قد نقلت قضيتهم للعالم بأسره، ومن ثم فلا غضاضة أذن، أن اعتبروا أنفسهم من العناصر الفعالة والمؤثرة فى الشرق الأوسط وبالتالى لابد من مشاركتهم وإدماجهم فى جميع قضاياه، ولا بأس من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط والتى تتطلب بالضرورة حل القضية الكردية أولاً.
المذهل ــ وتلك وجهة نظر من يسكن عمق الاقاليم التركية ــ أن يساهم بشكل ما فى إذكاء هذا التجاهل، صناع القرار، بالبلاد، فالقائمون على حزب العدالة والتنمية الحاكم، كانت تحدوهم الآمال ــ وما زالوا يتشبثون بها ــ فى أن يكونوا هم من وضعوا حلا للمرض الانفصالى المزمن، وبالتالى يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، غير أنه وبعد مرور سنتين من المفاوضات المباشرة، لا شىء جوهرى ظهر فى الأفق . ورغم ما تم تقديمه من تنازلات نوعية، وجهت اتهامات لحكومة الحزب كونها خدعت الجميع، لأنها لاتصدر سوى الوعود الكاذبة، كما أنها لا تأبه بحل القضية، وجل اهتمامها هو القضاء على حزب العمال الكردستانى، لذا فهى تحاول أن تلعب بالوقت لتحقيق هذا الغرض، ولكن هيهات فهى لاتستطيع الوقوف أمام الانتفاضة والمقاومة، هذا ما قاله نصا جميل باييك القيادى البارز ورئيس اتحاد المجتمعات الكردستانية.
باييك الموجود فى النمسا، الذى كان يخاطب نافذين فى القارة العجوز لم يكتف بذلك بل ذهب إلى القول بأن بعض الواحدات العسكرية التركية تتعاون مع تنظيم داعش وتقدم الدعم لهم، بهدف القضاء على مكتسبات اقرانه من الأكراد فى سوريا، كما أنها تحاول أن تثبت وجودها ومكانتها فى الشرق الأوسط عبر داعش، ولكنها ستفشل أن لم تكن قد فشلت بالفعل، لافتا إلى أن الأكراد فى جنوب كردستان قد أقاموا الحكم الذاتى، قريبا سيحدث الأمر نفسه فى ” روج أفا ” أو شمال كردستان، على حد قوله، وقد تأتى من بعدها تركيا، وهذا هو بيت القصيد . صحيح أن كثيرين فى عموم تركيا ورغم اقتناعهم بحتمية إيجاد مخرج ناجع للموضوع الكردى، إلا أنهم لا يتخيلون قط تجزئة جمهوريتهم العتيدة ايا كانت مسميات ذلك، والأدهى أنهم صاروا على قناعة بوجود مخطط ما يحاك ويدبر لبلادهم نكاية فى رئيس جمهوريتهم رجب طيب اردوغان.
فى هذا السياق لم يكن غريبا أن يخرج الجيش بتحذير شديد من مغبة تقسيم البلاد منبها إلى أن البداية ستكون من خلال تحريض حركات التمرد بالداخل وهذا ما يحدث بالفعل، والشواهد ترشحه للاتساع وبوادر واضحة جلية، وإن لم تتمكن الدول التى لها وضعية حرجة مثل تركيا من تقوية أمنها الحدودى ، فلن تتمكن من السيطرة على التمرد الذى يندلع بداخلها، وبالتالى تتجزأ وحدتها الترابية، ولهذا السبب لابد من اتخاذ تدابير سريعة وقوية للغاية.
لكن هيئة الاركان لم تشر علانية إلى أمر بالغ الأهمية، لابد من التوقف عنده قبل الشروع فى وضع آليات حماية وحدة الاناضول، ويتمثل فى السياسة الخارجية التى تتبعها أنقرة ويصوغها اردوغان وليس غيره، وكان من شأنها تأليب الحلفاء قبل الأعداء عليها، وإتهامهم صراحة لاهل الحل والعقد بمساعدة الجهاديين والتكفيريين، وبالمناسبة والعهدة هنا على صحيفة زمان لم يقدم جو بايدن نائب الرئيس الأمريكى أى اعتذار لاردوغان حسب ما أشيع، ومن ثم لابد أن تنتهج الجمهورية التركية نهجا مغايرا حتى تكون التدابير التى ستتخذ ذات فاعلية ..
فهل اردوغان على إستعداد أن يفعل ؟

الأهرام

التعليقات مغلقة.