العلاقة بين الحريّة والتقاليد في فكر جول فيرّي

26

2522241491لا شكّ أن المؤرّخة الفرنسية منى أوزوف التي قدّمت عشرات الكتب هي إحدى المرجعيات الفرنسية الأساسية في الجمهورية الفرنسية الثالثة، التي استمرّت من عام 1870 إلى عام 1940.
ومن الإجراءات الكبرى التي عرفتها الجمهورية الفرنسية الثالثة تلك التي قام بها وزير التعليم العام الفرنسي في عدّة حكومات ورئيس الحكومة خلال فترة 1879 و1885 جول فيري. تلك الإجراءات جعلت المدرسة الفرنسية التابعة للدولة مجانية وإجبارية، إضافة إلى نزع أية صفة عقائدية عنها.
جول فيرى هو موضوع الكتاب الأخير للمؤرّخة الفرنسية المختصّة بالجمهورية الفرنسية الثالثة وبالمسائل التربوية والمدرسية منى أوزوف، وهي تناقش فيه العلاقة بين الحريّة والتقاليد في فكر جول فيري وفي السياسات التربوية والتعليمية التي انتهجها حيال المدرسة في فرنسا.
تقدّم المؤلفة ـ المؤرّخة – رؤيتها في إطار ما يتردد كثيراً اليوم في فرنسا من نقاشات يشارك فيها رجال فكر وسياسيون ومثقفون حول المدرسة ودورها المجتمعي. هذا خاصّة أن العديد من هؤلاء يعربون صراحة عن أسفهم على المدرسة، كما كان قد صممها فيرّي.
تأمل وتفكير
وتطرح منى أوزوف سؤالاً مفاده: هل ينبغي حرق جول فيري أو على العكس هل ينبغي تعظيمه، على اعتبار أنه أرسى أسس فرنسا الحديثة على الصعيد التربوي على الأقل؟. بكل الحالات، ومهما كانت الإجابة، ترى المؤلفة أن جول فيري كان «سابقاً لعصره».
وتفصح المؤلفة منذ البداية أن العديدين يكررون بعض المفاهيم، التي عفا عليها الزمن، أو أنها مغرقة في التبسيط كانت قد ترددت من قبل فيرّي أو جرت إعادتها له. وبالتالي تحاول أن تقوم بنوع من «التصحيح» لتلك المفاهيم بعيدا عن اللجوء إلى السهولة، كما تشير.
ويتم عبر ذلك التعرّض بالتحليل للدساتير المؤسسة التي صدرت عن الثورة الفرنسية ولدور الكنيسة وكذلك لمحاولة فهم الذهنية الفرنسية في زمن جول فيرّي. هذا ما تعبّر عنه المؤلفة ـ المؤرّخة بأنه نوع من العودة لـ«رحاب الذاكرة». ذلك ليس من أجل تثبيت حقائق نهائية حول المدرسة والتربية، بل بالأحرى من أجل طرح الأسئلة الجوهرية والدعوة لـ«التأمّل والتفكير».
سيرة حياة
ولا شك أن هذا الكتاب هو بأحد وجوهه كتاب عن سيرة حياة جول فيرّي، الذي تصفه منى أوزوف أنه ذلك الرجل المجهول والشهير في آن معا، وأنه كان يتمتع بشخصيّة في غاية التعقيد. ذلك فضلا عن أنه كان محطّ كره الكثيرين له، خاصّة في الفترة التي كان فيها رئيس بلدية ـ عمدة ـ مدينة باريس ..
حيث عاب عليه الباريسيون سوء تزويد العاصمة بالمؤن المطلوبة اثناء حصارها عام 1870. لكن منى اوزوف تحدد القول إن مصدر كره الفرنسيين الأكبر لجول فيرّي كان أنه أبعد الكنيسة عن المدرسة العامّة. وسبب آخر تؤكّد عليه هو أنه كان من أنصار المشروع الاستعماري الرامي إلى إقامة «إمبراطورية فرنسية»، وما تسميه المؤلفة بـ«المغامرة الاستعمارية».
وتكتب المؤلفة عن فيرّي «المتناقض» ما مفاده : «هذا الأب هو أحد مؤسسي الجمهورية الفرنسية الثالثة وصاحب المشاريع الكبرى في مجال التربية العامّة وأحد دعاة احترام الحريات العامّة مما ساعد على العيش المشترك، كان بالوقت نفسه من دعاة الاستعمار المتحمّسين. وكان مكروها في حياته حيث تعرّض لمحاولتي اغتيال».
ومن الأفكار التي تتردد في تحليلات المؤلفة لشخصية جول فيري ولدوره بالنسبة للمدرسة خاصّة ولفترة ممارسته للسلطة كرئيس للحكومة أو كعضو فيها قولها إنه كان يجسّد غموض فرنسا البورجوازية. وترى أن ذلك البعد البورجوازي، الذي يمثّله هو الذي جعل سياساته تترسّخ في فرنسا «البورجوازية» اليوم.
جوهر البرجوازية
لكن المؤلفة تقدّم نوعاً من التعريف الخاص للبورجوازية وترى أنها بجوهرها وفي ذهن العديد من البورجوازيين تمثّل نخب العاملين من جميع الطبقات. كما ترى أن جول فيرّي هو وريث حقيقي لأفكار عصر التنوير، وأنه كان مؤمناً بالعلم من أجل حلّ جميع المشاكل ومن هنا بالتحديد كان تركيزه على دور المدرسة.
وتحدد المؤلفة القول في هذا السياق إن جول فيرّي كان من المؤمنين ايضا بأفكار عصر التنوير على الصعيد السياسي وبالتالي كان شديد العداء لكل أشكال الاستبداد. بل تؤكّد أنه كان متمسّكاً بـ«الحريّة»، ولكن أيضا بـ«التقاليد»، كما يدل كذلك العنوان الفرعي للكتاب. وتؤكّد منى اوزوف في تحليلاتها أن جول فيرّي كان مدفوعاً برغبة دفينة وعميقة من أجل إعادة «أمجاد فرنسا»، وتعميق الإحساس «الوطني العام» والتركيز فيه على التربية والتعليم.

عن بيان الإمارتيَّة

التعليقات مغلقة.