كرد العراق… أكراد العراق!

49

شورش درويش

يعكس العجز الذي يبديه إقليم كردستان العراق في هذه الأثناء، سوء أحوال الإقليم السياسية وافتقاره إلى منهجيّة واقعيّة تنفعه في التعلّم من التاريخ، والإصغاء إلى النصح السديد. فبعد أن تحلّ الهزائم، وجرياً على عادة قديمة في الإنشاء الضعيف، لا يحضر قيادات الإقليم سوى تكرار تلك العبارة اليائسة، والمملة حيث «لا أصدقاء سوى الجبال».

وسياسة تبادل اللّوم والاتهامات هي الطاغية الآن، وهي ديدن الأنظمة الإقليمية برمتها، وليست حكراً على ما يدور في الإقليم، حيث إن للانتصار ألف أب، بينما الهزيمة يتيمة، فلا أحد يطيقها في بيته ليتم تقاذفها بين الأفرقاء مثل كرة اللهب المستعرة، وتصحيح المسار يمرّ عبر الاعتراف بالهزيمة وفشل المشروع «الاستقلالي» وتبعاته المتمثّلة في إنهاء سياسة «الأمر الواقع» لتي فرضها الإقليم في المناطق المتنازع عليها بُعيد هزيمة «داعش»، وملأً للفراغ الناجم عن انكسار الجيش العراقي وانسحاباته.

في العالم الذي نشتهي، وفي الدول التي نبدي زاعمين رغبتنا في تقليدها، تفضي الهزائم إلى المراجعات الجادة، وإلى تشكيل لجان حياديّة تتناول أسباب الهزيمة ومجرياتها ونتائجها، والأهم أنها تذهب بالحاكمين إلى حيث حكم الشعب عبر إجراء الانتخابات المبكّرة جرياً على عادة ديموقراطية أصيلة تهدف إلى تنظيف مجرى النهر من العوالق والعوائق التي تمنع تدفقه. في المقابل، فنحن تزيد الهزائم انقسامنا اجتماعياً وسياسياً، وتدفعنا إلى التبرير المتواصل، والخوض في سياسات داخلية عدائية تتمثل في التخوين وتبادل اللوم. فأجهزة الإعلام الحزبي تقوم بهذه المهمة في العلن فيما تأكل الاتفاقات الحزبية مع دول الجوار والمركز من لحم الوحدة الوطنية، كالاتفاقات التي أبرمها أبرز شركاء الحكم في كردستان، الاتحاد الوطني الكردستاني، مع طهران وبغداد تنكيلاً بشريكه الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، ولهذا كان الشركاء الخصوم في الاتحاد كمع الاستفتاء وبالضد من نتائجه، فكانوا شركاء في المغنم لا في المغرم، وفي هذا انعدام لكل قيمة أخلاقيّة.

لا يعني مسار هزيمة كردستان، حتى اللحظة، أنها هزمت أمام دولة ديموقراطية، فالعراق محكومٌ باللوثة الطائفية ومنقسم على نفسه اجتماعياً ومذهبياً، والفساد والزبائنيّة ينخران عظم الدولة وأجهزتها، لا بل إن العلل التي في بغداد الآن تفيض عن تلك التي في أربيل، فلماذا تتقدّم بغداد وتتراجع أربيل؟ قد نعثر على شبه إجابة عند النظر إلى العدّة التي يتكئ عليها حكّام بغداد والتي تبدو أكثر ثقلاً وقوّة من تلك التي في أربيل. فالدعم الإقليمي، وما له من تأثير نفسي بالغ الأهمية، والتراجع الدولي في انتشال الأكراد من أزمتهم الحالية، وقيادة المعارك والتحكّم بالخرائط عبر الخبرات الإيرانية، إضافةً إلى عامل الدستور والتشريعات المتلاحقة مما يشكّل الغطاء القانوني لممارسات بغداد أمام الرأي العام المحلّي والدولي، وغير ذلك من عدّة رمزية وفعلية، إنما تساهم في تثبيت الأكراد عند حدود معينة وتزيد من انقساماتهم.

ساهم فائض القوى الوهمي عند الأكراد، والناتج من إلحاق الهزائم بـ «داعش»، في إعادة قراءة الخريطة السياسية للمنطقة وخطوط المصالح والتوافقات الدولية، وفق منطق رغبويّ. وبمزيد من الشعبويّة الأخّاذة، نجحت الطبقة الحاكمة في كردستان في ضخ فكرة الاستفتاء فالاستقلال إلى داخل الملعب السياسي الكردي، وقد يصحّ القول هنا، إن الغاية من الأمر كانت في جوهره قفزاً على الاستحقاقات الديموقراطية، وخلقاً لأزمة يراد منها العبث بالمواقيت المخصصة لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية. في إزاء ذلك، كان لفائض القوى في بغداد تأثير مشابه عبّرت عنه الإجراءات القانونية والعسكرية التي باشرتها حكومة العبادي، والسعي إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب العسكرية والتغييرات على الخرائط، كعلامات مضاعفة عن الأوهام التي يعيشها العراق المنتصر على «داعش». لكن تمادي بغداد في استعداء البارزاني وحكومة أربيل قد يسبب لها صداعاً، أين منه الصداع الذي عانته الأنظمة العراقية المتعاقبة. فأحلام بغداد الطامحة إلى تحجيم التطلعات الكردية، بل إلى وأدها، أصبحت مادّة للنزاعات السياسية داخل المشهد العراقي، فالأفواه في بغداد باتت تردّد نغمة «شمال العراق» عوضاً عن كردستان العراق، وبذا يمكن أن نقيس أحوال بغداد التي تحنّ إلى الشعبويّة والمغامرات، أي إلى تلك المغامرات العسكرية في كردستان والتي كان يسميها بعث العراق بـ «النزهات»، ولكنها كانت نزهات دموية ومكلفة.

يشي الانقسام الكردي الحاصل بمستقبلٍ مخيفٍ ينتظر أبناء الإقليم، ويزيد من حظوظ بغداد التي فهمت أن أقرب الطرق لتطويع الأكراد يمرّ عبر تقسيمهم، وما الانقسام الحاصل بين السليمانية وأربيل إلا الوجه الذي عاود الحضور مجدداً على رغم سماكة مساحيق التجميل التي استخدمها قادة الإقليم ليستروا العيوب التي كانت تغطي وجه الانقسام الكردي.

كان عديد المثقفين الأكراد ينزعج أو يبدي تحفّظاً عند كتابة « أكراد» عوض كرد، ظنّاً منهم أن تلك التسمية تستبطن استخفافاً بالكرد. لكن، والحال هذه، وتبعاً للتأويل هذا، فإن كرد العراق سيبقون أقرب للأكراد منهم إلى الكرد، ما داموا موزعين على النحو الراهن بين أربيل والسليمانية.

المصدر: الحياة

 

التعليقات مغلقة.