عندما قال أوباما للأسد: عليك الأمان!

27

0_7110016قبل ســنة، كانت الآراء تكاد ان تجمع على أن النظام الــسوري ارتكب فعلاً أحمق بقصفه الغوطة بالغازات السامة. كانت الآراء تستند إلى المنطق والعقل والضمير الإنساني، وبنسبة أقل ربما إلى تحرك المجتمع الدولي غداة الضربة.

الآن تبدو تلك التحليلات بعيدة جداً من العقل والمنطق، إذا اعتبرنا ما حدث هو العقلاني حقاً، وأن ما لم يحدث لا يمكن اختباره أصلاً. لذا بوسعنا الجزم، مثلاً، بأن قرار النظام استخدام الغازات السامة كان من أكثر الأفعال حكمة، فالمكاسب التي حصل عليها نتيجة لذلك فاقت توقعات جميع المتابعين، ولعل استخدام الكيماوي ومن ثم صفقة تسليمه أهم منعطف له في حرب بقائه.

كان بعض التحليلات آنذاك يقارن بين مهلة تسليم الكيماوي وانقضاء ولاية بشار الأسد، ليستبشر بتحرك دولي لمعاقبة الأخير مع الخلاص من ترسانته الكيماوية. وكان ذلك بمثابة تعويل على حد أخلاقي أدنى، ومن جهة أخرى مراهنة على ذكاء الإدارة الأميركية ونيتها التخلص من الأسد بعد إفقاده قدرته على استخدام الكيماوي، بخاصة ضد جارته إسرائيل. وفق هذا المنظور، اشترى بشار الأسد بضعة أشهر لقاء تسليمه الكيماوي، وهو ثمن كافٍ لرئيس «فقد أعصابه» وفق مكالمة داخلية التُقطت لمسؤولين في «حزب الله» حينئذ. تحليلات تلقت ضربة قاصمة مع تجديد بشار لنفسه في انتخابات لا تختلف عن سابقاتها، والأهم وسط لامبالاة دولية متوقعة هذه المرة.

من دون الوقوع في فخ نظرية المؤامرة، ومن دون السعي إلى تجنبه أيضاً، يجوز لنا اليوم القول إن مقامراً ما اتخذ قرار الهجوم بالغازات السامة على الغوطة، وأنه يعي إلى حد كبير تبعات فعلته، ويعي خصوصاً أن خرقه الخط الأحمر الشهير لأوباما لن يؤدي إلى عمل عسكري يُسقط النظام، بل سيؤدي إلى صفقة مفيدة للأطراف المنخرطة فيها على حساب أولئك الضحايا. ذلك لا يعني أن المغامر استثنى من حسبانه تماماً فرضية الخسارة، غير أن الوقائع التي تلت المجزرة، كما تابعناها بأمهات أعيننا، تصب في منحى يقلل من احتمالات الخسارة.

ما الذي يمنع أن يكون ذلك المقامر ارتكب المجزرة، مع وصول البعثة الأممية للتحقيق في استخدام سابق للأسلحة الكيماوية، كي يقفل الملف نهائياً بصفقة عاجلة تضمن إنقاذه؟

قبل الهجوم بالكيماوي، كانت نيات الإدارة الأميركية غامضة نسبياً. التدخل العسكري المباشر استبعدته تصريحات أركانها، وأشيعت أقاويل حول بحثها عن بديل للأسد، وأن هذا ما يعوق إسقاطه. بعد صفقة الكيماوي اتخذ الكلام عن البديل منحى تبريرياً، فالإدارة إما أنها لا ترى البديل المناسب، وإما أنها لا ترى بديلاً سوى التطرف. في الحالتين لم يعد هناك بديل للنظام. أمام الرأي العام الأميركي، انتهت القضية السورية بتسليم الكيماوي، من دون التوقف عند الإمكانية المتوافرة دائماً لإنتاج أصناف جديدة منه، وهي بشرى سارة بالتأكيد أن تربح أميركا هكذا من دون إطلاق صاروخ واحد. وهي بشرى سارة أيضاً، وفق تصريح لأوباما، أن يخسر الآخرون في الحرب السورية، بينما تأخذ إدارته موقع المتفرج.

في صفقة لم تُعرف تفاهماتها الضمنية، يحق لنا أن نختزل البند الأساسي فيها بأخذ الأسد الأمان من أوباما. فوصول البوارج الأميركية إلى شواطئ المتوسط ثم انسحابها السريع يوحيان بتسوية لا تحتاج إبقاء الضغط لتنفيذها، تسوية مجزية لطرفيها بحيث لا يعقل أن يُقدم أحدهما على خرقها. ولئلا نبقى في التكهنات، في العديد من المناسبات لمحت وزارة الخارجية الروسية إلى أن تقديم الغرب الدعم القتالي للمعارضة السورية يُعدّ تراجعاً عن تعهداته، ومن المعلوم أن لا تسوية حصلت سوى صفقة الكيماوي، والتي نصت كما يظهر من التصريحات الروسية، على امتناع الغرب عن دعم المعارضة فقط في مقابل قبول النظام مفاوضات «جنيف 2».

ثمة ثابتان لدى النظام السوري والإدارة الأميركية تكفّلا بإبرام الصفقة ونجاحها: من جهة النظام، المهم هو استمرار الصمت الدولي على جرائمه، والمهم لأوباما ألا يُضطر إلى الانغماس في شؤون المنطقة، وألا يُفسد عليه أحد طموحه في التسوية مع إيران. لذلك، ينبغي أن يُفهم تسويف الإدارة قبل سنة في شأن الضربة العسكرية، ورغبتها في الحصول على موافقة مجلسَي الكونغرس في ما عُدّ حينها مقدمة لتحول دستوري أميركي. فالحق أن أوباما لم يطلب إذناً من الكونغرس عندما قرر استخدام سلاح الجو لمهاجمة «داعش»، ولا يظهر مهموماً بالحصول على إجماع دولي لمحاربة «داعش»، لا لأن الإجماع ضد الأخير متاح بسهولة فحسب، وإنما لأنه لم يكن يوماً من المتطلبات الملحة في السياسة الخارجية.

كانت صفقة تسليم الكيماوي أخطر على السوريين من المجزرة نفسها، ويكفي أن نستعرض التطورات التي شهدتها الساحة السورية منذ سنة لنرى العواقب الوخيمة لها، وأن يعلن البنتاغون عشية ذكرى المجزرة انتهاءه من تدمير المخزون الكيماوي أمر لا يكفي للتغطية على الجريمة، وعلى السكوت عنها.

نعم، نجح الأسد خلال سنة، بالتواطؤ مع الإدارة الأميركية، في استجرار التطرف إلى سورية على نحو يعد سابقة، وخلال سنة كان التطرف يحقق مصلحة الطرفين: الأسد يريد تقديم نفسه كمحارب ضد الإرهاب، والإدارة الأميركية لا تمانع في استنزاف المتطرفين من خلال الساحة السورية. القول بسلبية الإدارة إزاء التطورات السورية لا يكفي وحده لتبرير ما حصل، فالإدارة تصرفت في شكل مغاير عندما تجاوز «داعش» الحدود المقبولة أميركياً.

وأن يأتي ذبح الصحافي جيمس فولي عشية الذكرى الأولى لمجزرة الكيماوي، فهذا قد يدفعنا نحن فقط إلى رؤية وحشية الجريمتين، نحن أهل الضحية مرتين، ومن حقنا أن نطالب بمحاكمات قانونية وأخلاقية لكل من نفذ وتواطأ وصمتَ، حتى وصلت السكين إلى عنق فولي. بيان عائلة فولي، إثر إعدامه، هو بياننا في وجه إدارة أعطت الأمان للقتلة، وليس بوسعها الآن أن تطالب بتسليم سلاح الجريمة مقابل الصمت كما حدث في مجزرة الكيماوي، لكن بالتأكيد يمكنها القبول بفضيحة أقل فتستهدف «داعش» «الأسوأ» وتُبقي على «داعش» «النظام» الذي يجرى تسويقه بصفته أقل سوءاً

عمر قدور – الحياة

 

التعليقات مغلقة.