محمد فؤاد معصوم بين استبداد الكتل السياسية وسماحة إخوان الصفا
الرئيس العراقي الجديد يؤكد أنه لن يحيد عن نهج سلفه جلال الطالباني في نشر التوافق وطريقه في ذلك ما عرف عنه من شخصية مرنة.
انتخب البرلمان العراقي (الخميس 24 تموز 2014) الدكتور محمد فؤاد معصوم رئيساً للعراق، لفترة الأربع سنوات القادمة، وقبل أن يحظى معصوم بمئة وخمسة وسبعين صوتاً من عدد أصوات النُّواب الحاضرين في جلسة الخميس الماضي واجهته صعوبة الخيار الأساس، في قيادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكانت المفاضلة بينه وبين برهم صالح، الذي سبق أن تولى منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة الاتحادية ثم رئيس الوزراء لإقليم كردستان العراق، حتى 2012، وقبلها كان رئيس وزراء السليمانية، بُعيد المعارك الشرسة بينها وبين أربيل.
كانت النتيجة أن حصل فؤاد معصوم على ثقة ثلاثين صوتاً من قيادة الاتحاد الكردستاني مقابل ثلاثة وعشرين صوتاً حصّلها برهم صالح، وكلاهما مِن السليمانية ولهما المواقف نفسها داخل البيت الكردستاني والعراقي أيضاً، وما بينهما زمالة نضال مشترك وصداقة عميقة أيضاً، بمعنى أن المنافسة على ترشيح الاتحاد الكردستاني لعضو من قيادته يتولى رئاسة جمهورية العراق خلفا للرئيس جلال الطالباني، المريض والمنتهية فترة رئاسته. وعلى ما يبدو أن أمر ترشيح الاتحاد الكردستاني عضوا منه لرئاسة العراق ظل مثيراً للجدل ولم يُحسم بالتصويت إلا بعد عودة الطالباني من غيبة علاجية في ألمانيا.
ابن رجل الدين
الرئيس الجديد محمد فؤاد معصوم من مواليد كويسنجق- أربيل 1938، نشأ في هذه المدينة وكان والده رجل دين، وكان معروفا بين علماء كردستان، ولعله صار رئيسا لاتحاد العلماء هناك، ومعلوم أن النشأة في كويسنجق نسقها، شأن المدن المختلطة الأخرى تترك في الإنسان طبع التسامح الديني والمذهبي، وإذا شئنا نقول القومي أيضاً، فهذه المدينة التاريخية التي تقع على الطريق بين أربيل والسليمانية، قريباً من سفح جبل هيبة سلطان، يقطنها المسلمون والمسيحيون وعاش فيها اليهود، ومازال المسيحيون يقيمون في منطقة لهم تسمى بهرموتا، ولهم فيها كنيستهم وبعض مزاراتهم.
كذلك من دون شك أن دراسة الرئيس الجديد فؤاد معصوم في بغداد ثم الدراسة العليا في مصر أثّرت كثيرا على لكنة لسانه، فعربيته تكاد تكون خالصة، وعلى مستوى القاموس النحوي والصرفي. ثم إن عمله كمدرس في جامعة البصرة لفترة ليست بالقليلة جعلته ينتمي إلى العراق أكثر من غيره، لذا عندما سئل في إحدى الفضائيات عن هويته قال بالحرف الواحد: أنا عراقي وكردي ومسلم مولود في كويسنجق.
الدبلوماسية بلا حدود
من القلق العميق، في هذا الظرف العراقيّ العصيب، أن يرثى لمهمة رئيس الجمهورية، على أنه كردي مع مسالك عالقة بين أربيل وبغداد، وهذا ما تعرض له الرئيس السابق جلال الطالباني، لكن جلال غير معصوم، والقصد أن لجلال حظوة كبرى عند المعارضة العراقية السابقة، والتي هي الآن في السلطة، وأن دبلوماسيته ليست لها حدود، وكان يحظى باتفاق الجميع، وحتى عندما اشتدت المعارك الإعلامية بين أربيل وبغداد ظل الطالباني عنصرا توافقيا، وعرف كيف يلعب دور رئيس الجمهورية، على الرغم من شح الصلاحيات قياساً بصلاحيات رئيس الوزراء كسلطة تنفيذية، ولولا المرض لربما اُعيد انتخاب جلال الطالباني أو تنصيبه رئيساً لفترة ثالثة على العراق، مع أن الدستور لا يُجيز ذلك، وحدد رئاسة الجمهورية لدورتين انتخابيتين، إلا أنه في مثل هذه الظروف قد يتم تجاوز الدستور، وهو قد أشبع تجاوزات، من قبل رئيس الوزراء قبل غيره، ومنها تجاوز الكتلة الأكثر أصواتاً، العام 2010، وذلك بتحايل السلطة القضائية مفسرةً المادة الخاصة بترشيح رئيس الوزراء، ثم اجتماع أربيل وواسطة.
بمعنى أنه في هذه الظروف، والحدة القائمة بين المركز والإقليم، أن يتمكن رئيس غير جلال الطالباني من الإبقاء على التوافق، إلا الرئيس الجديد فؤاد معصوم قد أعلن في تصريح له قُبيل الذهاب إلى البرلمان، وبعد حسم ترشيحه من قِبل الاتحاد الكردستاني، بأنه لن يحيد عن النهج الذي نهجه سلفه جلال الطالباني، ولعله يتمكن من ذلك، إلا أن الصلاحيات التي كان يتمتع بها الطالباني تشمل الصلاحيات الدستورية والصلاحيات، التي يمكن أن نعبر عنها بالشخصية، قد لا تتوفر أو تتكرر في شخص آخر.
مفاوضات مع النظام السابق
لا يُنكر أن محمد فؤاد معصوم شخصية مرنة، ويمكنه التعامل مع الجميع، وحضر مفاوضات مع النظام السابق بعد حرب الكويت 1991، ولا يبدو عليه تعصب لفكرة أو موقف، ويكفي أنه يتعامل مع الجميع بودّ وانفتاح، على الرغم من الإسلاميين، أو عدد منهم، يصعب التعامل معهم على المستوى الشخصي، في الاجتماعات الخاصة وفي السفر الذي يكشف الميول الدينية، سوى كان الأمر في الملبس أو الطعام أو حالة التدين نفسها.
ترأس فؤاد معصوم القائمة الكردستانية لدورتين انتخابيتين، وكان في فوهة المدفع، عندما يُثار الخلاف على المناطق المتنازع عليها، أو على المواد الطبيعية، ومن كان يشاهد المشادات بين أعضاء الكتلة الكردستانية والكتل الأخرى، يقف فؤاد معصوم في نقطة الوسط، ويظهر مرونة عالية، يحول بها عن قطع شعرة معاوية مثلما يُقال، وهذه الشعرة بحاجة إلى حليم، والكل يرجو النتيجة منه.
لكن رئاسة القائمة الكردستانية غير رئاسة العراق، فمن مهام الرئيس أو صلاحياته أن يطلب سحب الثقة من رئيس الوزراء، ومن صلاحياته أن يُقدم مقترح البرلمان، وتلك الصلاحية لو استخدمها الرئيس السابق جلال طالباني، وقام بتقديم المئة والسبعين صوتاً التي طالبت بسحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي لحُلت أمور كثيرة، وما تعرض العراق لما هو فيه الآن من تفكك مريب. إلا أن الطالباني حسب حِساب إيران، فلإيران الصوت العالي في تعيين رئيس الوزراء، ولا يمكن للطالباني أن يتجاوز إيران وهو العارف أنها داخلة في صميم السياسة العراقية، وما لها أيضاً من فضل سابق عليه في حربه مع أربيل في أواسط التسعينات، من القرن الماضي.
فماذا سيواجه فؤاد معصوم من صعاب، وها هي الخارطة السياسية العراقية قد تعقدت إلى درجة أن الموصل والمنطقة الغربية، وعلى امتداد مساحة شاسعة من العراق، أصبحت خارج سيطرة بغداد، يُضاف إلى ذلك ما يحصل من خلاف على رئاسة الوزراء، فدولة القانون، وقلبها حزب الدعوة الإسلامية الذي يترأسه نوري المالكي نفسه، تصر على ولاية ثالثة للأخير، وربما يفهم ما بين الكتل الشيعية من خلاف داخل كتلة التحالف الشيعي وسيحلونها داخلهم، وربما وافقوا على الولاية الثالثة، لكن ماذا عن الكُرد، وفؤاد معصوم كردي النسب والقبيلة؟ فهل سيغض الطرف ويقوم بتقديم نوري المالكي ليكون رئيساً للوزراء في دورة ثالثة؟
الصف والمعلم
صحيح أن انتخابات جرت داخل البرلمان العراقي، وظهر هناك أكثر من مرشح لرئاسة البرلمان أولاً ثم لرئاسة الجمهورية، مع أن الأصوات الأكثر تم التوافق عليها، لكن صورة الانتخابات يمكن تشبيهها بصف مدرسي يختار مراقبا له، فالمعلم اختار أحدهم والبقية ظلوا يتفاضلون على منصب المراقب! بمعنى أنها انتخابات وإجراءات شكلية بعد اتفاق الكتل السياسية، قبل أن يدخلوا البرلمان.
نرى أن الرئيس الجديد أتى عن طريق التوافق، ولما حُسم الأمر داخل الاتحاد الكردستاني فلم يبق سوى الشكل ليكون رئيساً داخل البرلمان العراقي، وعلى ما يبدو، ومن خلال تصريحاته، أن فؤاد معصوم مع التوافق أو المحاصصة، على أساس أن الوضع العراقي لا يحتمل غير هذا النهج لفترة لا يبدو أنها قصيرة، على الرغم من محاولات اختراقها عن طريق النائبة شروق العبايجي التي رشحت نفسها لرئاسة البرلمان مقابل مرشح المحاصصة سليم الجبوري، ثم كرر المشهد في انتخاب رئيس الجمهورية أكثر من نائب في البرلمان، وبينهم امرأة هي حنان الفتلاوي، التي حصلت على سبعة وثلاثين صوتاً مقابل مئة وخمسة وسبعين صوتاً لفؤاد معصوم، وأخيراً انتصرت المحاصصة، ليكون رئيس الجمهورية كردياً ورئيس البرلمان سُنياً ورئيس الوزراء شيعياً، وحتى هذه اللحظة لا يُعلم من هو والمفاجئات واردة، مثلما كانت المفاجأة برئيس الجمهورية، والكل كانوا يتحدثون عن برهم صالح رئيساً.
انتمى محمد فؤاد معصوم إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان قد تأسس العام 1945، وبعد انهيار الثورة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، العام 1975، تكتل جلال الطالباني مع خمسة أعضاء آخرين من الديمقراطي، كان معصوم أحد هؤلاء الخمسة منذ ذلك الوقت وظل قيادياً في التنظيم الجديد، الذي نشأ 1975، وما زال قيادياً فيه، شارك في حرب الثمانينات، وحتى نشوء إدارة إقليم كردستان-العراق، العام 1991، ليكون أول رئيس وزراء، مثلما تقدم، للإقليم.
لم تكن حياة فؤاد معصوم كلها في الجبهة العسكرية، إنما جزء من حياته الحزبية كان ممثلاً للاتحاد الكردستاني في دمشق ولندن، والتي تولى مسؤولية التنظيم فيها بعد الانشقاق في إدارة الإقليم بين السليمانية وأربيل، وكان حاضراً في معظم لقاءات المعارضة العراقية، مما وفّر لديه فرص التعرف على وجوهها، وعلى الأخص الجانب الشيعي منها.
هناك جانب آخر في حياة الرئيس العراقي الجديد، ألا وهو الجانب الأكاديمي والدراسي، فهو معظم دراسته كانت في الفلسفة الإسلامية، كانت أطروحة الدكتوراه التي قدمها في القاهرة تحت عنوان “إخوان الصفا فلسفتهم وأفكارهم”، وقد نشرت هذه الأطروحة في كتاب.
كذلك له تجربة تدريسية قضاها في البصرة، وترك صداقات مع زملاء وطلاب، ولولا الالتحاق بالحركة الكردية في الجبل والدخول في العمل الحزبي، وفي العمق منه، لكان أكاديمياً، ولتمكّن من الاستمرار في هذا الاختصاص، أي الفلسفة الإسلامية، وظل يمارس العمل الأكاديمي، بعد قيام إدارة إقليم كردستان، فيذكر أنه أشرف على أطروحة رئيس الوزراء لنيل الماجستير من جامعة صلاح الدين في أربيل، وكان موضوعها بشعرِ أبي المحاسن، الذي يدّعي المالكي بأنه جده، وهناك من يقول إنه قريب لأبيه أو لأمه لا جده المباشر.
بين التسامح وصلاحيات الرئيس
إذا تحدثنا عن التسامح والانفتاح، بجانبه الديني والمذهبي، ففؤاد معصوم يأتي في المقدمة، فالرجل مثلما تقدم خالياً تماماً من تعصب أو تقوقع، بل إنه يعتبر الجانب الديني جانباً شخصياً، فمن هذا الجانب يُطمئن إليه، على خلاف رئيس الوزراء نوري المالكي، أو الأحزاب الإسلامية بشكل عام، فإنها تبني صلاتها على الأساس المذهبي. وحتى من الجانب القومي فلا يبدو معصوم متعصباً، لكن السياسة العراقية، إذا كانت تسمى سياسة، ملغومة في كل لحظة تنفجر قضية فيها، ومع محدودية صلاحيات رئيس الجمهورية، فهل عسى تأثير تسامح معصوم الديني والمذهبي والقومي ينجح في إزالة الألغام، ونقول: مهمته صعبة بل عسيرة، والأيام القريبة ستكشف نجاحه أو فشله، في وسط زحمة من الملفات العالقة
التعليقات مغلقة.