المسبحة تراث فينيقي عرف أوجه بعد الفتح الإسلامي
صناعة المسبحة توارثتها أجيال الحرفيين في مصر، والملك فاروق اقتنى منها مجموعة نفيسة منها المصنوعة من الياقوت الأحمر والزمرد والكهرمان الأسود النادر.
توارثت الأجيال العربية المسلمة عددا من العادات والتقاليد التي ارتبطت بشهر رمضان الذي يعد شهر التقوى والعبادات، لكن بعض مظاهر الاحتفال الشعبية بهذا الشهر تثير التساؤل حول ارتباطها بالعبادات في الإسلام، ويعد اقتناء مسبحة من العادات المحببة لدى المصريين والعرب، فمن ألوانها وبهيج زخارفها غدت جزءا من التراث وعلامة على التقوى والخشوع.
يرى بعض علماء الدين أن المسبحة عادة لا تمت للموروث والعادات الإسلامية بصلة فلم يعرف أن الرسول (ص) كان يستخدمها للتسبيح ولا الصحابة، كما أنها ليست مقصورة على الإسلام، وإنما هناك طوائف أخرى تستخدمها، ويذكر التاريخ أن المسبحة عُرفت منذ مئات السنين في العهود الفينيقية والمسيحية. وكانت هناك مناطق متخصصة في صناعة أنواع معينة منها، حيث استخدمت للصلاة، وحملها المتعبدون إلى أماكن عبادتهم، وانتشرت في بلاد الشام إبان الفتح الإسلامي.
وتتألف المسبحة من تسع وتسعين حبة ترمز إلى أسماء الله الحسنى، إلا أنه نتيجة لطول المسبحة، فقد تم تجزئتها إلى ثلاثة أجزاء، يضم كل جزء ثلاثا وثلاثين حبة، أما المئذنة التي نجدها في المسبحة، فهي رمز لمئذنة المسجد، ولا تخلو مسبحة من تلك المئذنة وإلا فقدت قيمتها.
ويروي المؤرخون أن قدماء المصريين استخدموا المسبحة في عباداتهم منذ آلاف السنين، وبعد الفتح الإسلامي لمصر في عهد عمرو بن العاص، ظهرت بعض الأسواق في العاصمة “الفسطاط”، التي شهدت رواجاً لتلك البضاعة على أيدي صنَّاع مهرة تفننوا في زخرفتها وتلوينها، لتتفاوت أحجامها وأشكالها وقيمتها، طبقاً للمادة الخام التي دخلت في صناعتها مثل الياقوت والمرجان والكهرمان وأنواع من الخشب المخصوص.
ويقول المؤرخ أحمد أمين عن المسبحة في قاموسه عن العادات والتقاليد: إنها تستعمل في الاستخارة، فيأخذها الإنسان من أي موضع، فإذا انتهت بما يدل على العمل كان معناها أن العمل مقضي والعكس صحيح، وفي الأرياف كان يستخدمها الفقهاء في قراءة ما يسمى “بالعتاقة”، إذ يتلون على المسبحة سورة الإخلاص آلاف المرات كفّارة للموتى، وغفراناً لذنوبهم.
وكان بعض الفقهاء من مكفوفي البصر يجتمعون ويتلون على المسبحة “سبحان الله” مئات المرات، ويختمون تلاوتهم بأسماء الله الحسنى وبعض الأدعية، وهي في العادة يريدونها هبة لروح الموتى، وارتبطت هذه العادة لدى المصريين بأن يقوموا يومها بصناعة الحلوى “لقمة القاضي”، وهي نوع من الحلوى المصنوعة من الدقيق على هيئة كرات صغيرة، تقدم على أطباق من الخزف أو الصاج، ويرش فوقها السكر أو العسل، ويأكل منها قارئو المسبحة، وتوزع على الأهل والجيران في أطباق أو لفافات ورقية.
وفي مصر اليوم تعرض كميات هائلة من المسبحات، وهناك عدد كبير من محبي اقتنائها بأشكالها وأحجامها المختلفة، وقد خصصت لها أسواق اكتسبت شهرة عبر التاريخ، منها سوق المسبحات في خان الخليلي، حيث تكتظ المحلات المتجاورة، بالمسبحات المعلقة من كل صنف ولون، ويقبل عليها الزبائن بكثافة شديدة، خاصة في أيام وليالي رمضان، ومواسم الحج والعمرة.
وفي الماضي البعيد كانت المسبحة تُصنع من أخشاب الصندل والعود والكوك، ثم أصبحت تُصنع من البلاستيك واليسر والكهرمان والعاج، ويحتاج التمييز بين الثمين والرخيص من المسبحات بلمسات مدربة على اختبار المادة المصنوعة بها، فهناك اللين كالكهرب الألماني والبولوني، .
ويذكر أن فاروق ملك مصر كان يتردد على سوق المسبحات ويقتني مجموعة نفيسة منها لا تقدر بثمن، منها المصنوعة من الياقوت الأحمر، أو من الزمرد والكهرمان الأسود النادر، وكان يحب أن تنقش على حبات المسبحة أسماء الله الحسنى بالذهب وفصوص الماس، وهو ما كان يتطلب موهبة وحرفية كبيرة من الحرفيين.
ومن المشاهد التي تتكرر كل رمضان ومنذ سنوات أن تجد الناس وهم يحملون بين أصابعهم المسبحة، كنوع من التفاخر، والانتماء والتدين أيضا، لذلك توارثت أجيال حرفة صنعها وتصفيف حباتها فتجد منهم خبراء حقيقيين بفنون المسبحة توارثوا هذه المهنة عن أسلافهم.
ولعل مصر من البلاد العربية الأكثر اهتماما بصناعة المسبحات، وقد ألم حرفيوها بفنونها المتعددة، وذلك منذ تاريخ يعود إلى آلاف السنين وحتى دخول الإسلام إلى مصر، وبناء أول عاصمة إسلامية لها “الفسطاط”، حتى بناء القاهرة في عهد المعز لدين الله الفاطمي وقائده جوهر الصقلي (358 هـ / 999 م)، حيث خصت القاهرة نفسها بعدد من الأسواق، التي مازال الكثير منها في موقعه القديم بين أحضان الأحياء العريقة، وكان لكل مهنة سوق خاص بها، ومن بينها سوق المسبحات، التي راجت وازدهرت في العهود المتتابعة، ليزداد إقبال المصريين عليها في أيام وليالي رمضان.
“العرب”
التعليقات مغلقة.