أحد أهم أساتذة الفلسفة الأكاديميين في جامعة دمشق. وهو أيضا محاضر وفاعل في المشهد الثقافي العربي، ناقد، شاعر، هو الباحث أحمد برقاوي من مواليد قرية الهامة التابعة لريف دمشق عام 1950، من عائلة فلسطينية، درس الفلسفة في جامعة لينينغراد عام 1973، واستقر في دمشق حيث انخرط في الحركة الفكرية منذ العام 1980، ليكون عضوا بجمعية البحوث والدراسات، وأستاذا جامعيا، يجيد بالإضافة إلى العربية، الروسية والإنكليزية.
تجاوزت مؤلفات أحمد البرقاوي الـ14 كتاباً، بالإضافة إلى عمله الصحفي، نذكر من مؤلفاته: “مقدمة في التنوير”، و”العرب وعودة الفلسفة”، إضافة إلى مجموعة شعرية بعنوان “الأنا”، و”كوميديا الوجود الإنساني”، و”لعبة الحياة”. وكان للعرب معه هذا الحوار.
منشأ الحرية
في مقال نشره في جريدة العرب بعنوان نبل الفلسفة، كما في كتابه “العرب والفلسفة”، دافع أحمد البرقاوي عن ضرورة الفلسفة وعن وظيفتها، وعن الدور الذي يمكنها أن تقوم به الآن وفي هذا الظرف بالذات، يقول الباحث: “أمام الفلسفة شغل كثير وكبير، أجل شغل، لأنها تشتغل في الأصل على كشف الترابطات العميقة القابعة وراء الظاهر، وتمتلك العالم بعدتها المفهومية الراقية، ومناهج المعرفة والتفكير. من ذا الذي باستطاعته أن يفهم حركة التاريخ العربي الآن دون مناهج البحث الفلسفية، كالبنيوية والتاريخانية الجدلية، بل ومنهج التحليل النفسي. وذلك للكشف عن العام فيه، وفهمه بأسبابه العميقة، وتناقضاته الطبقية والثقافية وربطها بحركة تاريخ العالم”.
وعمّا إذا كان الفيلسوف منحازا أيديولوجيا، يعتبر البرقاوي أنه من الطبيعي أن يكون للمفكر انحياز أيديولوجي، لكن عليه أن يتطلع إلى المعرفة مبتعدا عن الرغبة والمصلحة الأيديولوجية. فالفيلسوف، في رأيه، ينحاز أخلاقيا، ويمتلك ضميرا حيا مدافعا عن الإنسان وحرية الإنسان، مناهضا للديكتاتورية والعنصرية، ولذلك يقر بأنه ليس هنالك من فيلسوف يدافع عن الصهيونية والسياسة العنصرية والتمييز العنصري.
قبل خمسة أعوام أصدر أحمد البرقاوي كتاب الأنا، ومنذ أيام صدر له كتاب جديد بعنوان: “أنطولوجيا الذات”، عن هذا الاهتمام بالأنا والذات، يقول المفكر: “جاء كتابي “الأنا” تأملا في واقعنا، وجوابا عن سؤال حول أساس مشكلة التأخر التاريخي والانحطاط الحضاري، بعيدا عن الشعارات القديمة والأيديولوجيات الشمولية، فاكتشفت أن أساس المسألة يكمن في غياب الأنا، في غياب الوعي بالأنا، وأسر الأنا في ما سميته النظام المتعالي. القيم والدين والسلطة والسياسية والجنس. هذا النظام المتعالي، لا يدمر نشاط الأنا فحسب، بل ويمنعه من الظهور الحقيقي، حتى صار التناقض داخل الأنا عميقا بين الأنا الظاهر والأنا الخفي”.
وتأسيسا على ذلك عرف الباحث الحرية بأنها زوال الهوة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي. فلا يمكن أن يظهر الأنا ويعي تميّزه الذاتي دون التحرر من النظام المتعالي، إذ يؤكد أن لا معنى لحرية المجتمع هكذا مجردة، بل لا تتحقق حرية المجتمع دون تحرر الأنا وحريته. أما في كتابه ” أنطولوجيا الذات” فيطرح انتقال الأنا إلى الحضور الفاعل عبر الاعتراف به وبحضوره وتعيّناته المختلفة، وفرادته من الذات البسيطة إلى الذات المركزية.
بوصفه مشتغلا في الفلسفة، يقول البرقاوي، مقهقها، حول من ينكر وجود فلسفة عربية وبالتالي فيلسوفا عربيا: “إعطاء شهادات اعتراف من قبل بعض الكتاب أو القراء أمر لا قيمة له، ونوع من الخفة المعرفية. المشكلة في محدودية انتشار الفيلسوف العربي، يعود إلى غياب الأمة ذات الحضور العالمي. بالمناسبة الفيلسوف التومائي يوسف كرم، لا يقل أهمية عن الفيلسوف التومائي الفرنسي إتين جيلسون، لكن لا أحد في المجتمع الفلسفي الفرنسي يعرف يوسف كرم، فيما نحن نعرف إتين جلسون”.
الفيلسوف منحاز أخلاقيا، لذلك ليس هنالك من فيلسوف يدافع عن الصهيونية وسياسات التمييز العنصري
منذ اندلاع الثورة التونسية وهو لا يكف عن الاحتفال بالربيع العربي، وعن التفاؤل بمستقبله، والكل يذكر مقالاته: “الساحة والقصر”، “الكوخ والقصر”، “حين يتظاهر الله”، “صناعة الخنوع”، “جمالية الثورات العربية”، “عودة إلى مفهوم القميص”، إلخ…عما إذا كان مازال محتفلا بهذا الربيع، رغم ما أصابه من نكسات، يؤكد المفكر أن الثورات والانتفاضات والتمردات العربية مرحلة من الهدم لعالم قديم، وطموح لبناء عالم جديد، وانفجار ضد عقود من الذل والهوان وفقدان الكرامة وتخريب الحياة والقيم. وفي مسار عملية الهدم هذه برزت كل القوى المتناقضة، القوى الكامنة في قلب المجتمع -المستنقع- من الأصولية وانتهاء بالديمقراطية، مرورا بالبين بين والأهلية وغيرها.
من وجهة نظر فلسفة التاريخ، يقر البرقاوي أن النظام القديم قد تحطم، حتى في تلك الدول التي لم تشهد ربيعا. والآن الصراع هو صراع على المستقبل. ويتوقع أنه قد تمر مرحلة نكوص تاريخي، لكنها لن تلبث طويلا، فروح التاريخ أقوى من النكوصيين.
وإن يرى أن القوى الأصولية الشيعية والسنية تتصدر المشهد اليوم، يعتقد أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، أنها مرحلة مخاض عسيرة جدا ومأساوية جدا، وستشهد صراعا أشد على تحديد مستقبل العرب. ولكن إذا كان المجتمع قد ضاق ذرعا بديكتاتوريات عسكرية، فهل سيتحمل ثقل الديكتاتوريات الأصولية؟
الأرض التعيسة
ثقافة العرب ثقافة دينية، والدين حاضر في كل تفاصيل حياتنا، بل يكاد يكون حاضرا حتى في الأوكسجين، إن كان في وسع الفلسفة تحدي الدين، يقول البرقاوي: “فالدين ظاهرة إنسانية، وهو حاضر في ثقافة كل الشعوب بلا استثناء، إنه نظرة إلى الحياة والموت والخلق والأخلاق والقيم، وذو طقوس عبادة فردية وجماعية. المشكلة لا تكمن في الدين. بل في أمرين: اللاهوت والسياسة. يسعى اللاهوت لإضفاء تأويل عقلي للترسيمات الدينية، لينجب القناعة بأجوبة ذات طابع عام مشتقة من الدين، وهذا أمر المعتزلة مثلا في الإسلام، أما السياسة المشتقة من الدين فهي تريد إضفاء صفة المقدس على السياسة. وهذا ما نلاحظه في الاتجاهات الأصولية الإسلامية الراهنة، ولهذا فإن الأصولية الإسلامية بكل أنواعها سلمية كانت أم عنفية تجعل من الإسلام أيديولوجيا سياسية”.
يتابعُ قوله:” تستوي في ذلك الأصولية الشيعية في إيران والعراق ولبنان، والأصولية السنية في بلاد العرب كلها، لكن المسألة الأهم هي في السؤال الآتي: ما هو سبب تحول الإسلام إلى أيديولوجيا سياسية مرتبطة بالحكم؟”.
أطل على فلسطين من ربيع الشام وأطل على الشام من قضية فلسطين. ومن الصعب على الفلسطيني أن يفاضل بين القدس ودمشق
ويعتبر المفكر أن الجواب في الأرض وليس في السماء، ذلك أنه كلما كانت الأرض تعيسة لجأ البشر إلى الخلاص الإلهي، وبالعكس كلما كانت الأرض سعيدة تحول الإسلام إلى علاقة فردية بين الإنسان والإله، فالحل، في رأيه، لا يكون حلا عنفياً، بل حلا مجتمعيا وسياسيا، فالإصلاح الديني الإسلامي عند الأفغاني ومحمد عبده، وقبلهما الكواكبي، فشل لأن الأرض نفسها لم تحمل مشروعهم.
في مقال له حول الربيع العربي وقضية فلسطين، تحدث البرقاوي عن الأثر الإيجابي لذلك على فلسطين، وإن كان لذلك علاقة بفلسطينيته، يقول: “أولا أنا فلسطيني سوري وسوري فلسطيني، ولا فرق عندي. ولقد اغتنت هويتي السورية بفلسطينية السوري، كما اغتنت هويتي الفلسطينية بسورية الفلسطيني. ولهذا فأنا أطل على فلسطين من ربيع الشام وأطل على الشام من قضية فلسطين. ومن الصعب على الفلسطيني أن يفاضل بين القدس ودمشق، أو بين حلب ونابلس، أو بين اللاذقية ويافا”.
فانتصار الربيع العربي، بالنسبة إليه، يعني هزيمة السلطة المالكة للدولة وانتصار سلطة الدولة بوصفها سلطة المجتمع. ويؤكد أنه عندما يتحرر المجتمع يعيد فلسطين إلى حال القضية التي لا تقبل المساومة، بعد أن حولتها السلطات الحاكمة إلى مشكلة. منذ اللحظة التي تحولت فيها فلسطين إلى مشكلة نشأ منطق التسوية والتنازلات، لذلك يصر الباحث على أن استعادة فلسطين قضية تعيد إلى الحياة قضية الشعب الفلسطيني دون أيّ تجزئة.
وعن الموقع المميز للحراك الثوري في سوريا، عن غيره في بلدان العالم العربي، وعن دمويته التي بلغت درجة مريبة، وما إن كانت المسألة فقط في ديكتاتورية الحاكم، أم أن هناك أسباباً أخرى، يوضح البرقاوي قائلاً: “انطلق الحراك السوري مدنياً صرفاً، حيث خرج الشباب إلى الساحات والشوارع هاتفين للحرية والكرامة، ولوحدة الشعب السوري. كانت انتفاضة السوريين سلمية وحداثوية وشعبية. غير أن إستراتيجية النظام تأسست على وهم استخدام القوة ضد الحراك السلمي. القمع ثم القمع. فقتل عددا كبيراً من المتظاهرين وسجن وعذب منهم الكثيرين، اعتقاداً منه أنه يحول دون توسع الحراك الشعبي، كما حدث في مصر وتونس”.
يضيف أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق: “لقد بذل النظام السوري جهداً كبيرا كي يتحول الحراك السلمي بعد القضاء عليه إلى مجموعة صغيرة من المسلحين، لا تحتاج إلى وقت طويل للقضاء عليها. غير أن توقعه هذا قد فشل، فكلما ازداد قمعه ازدادت الحركة المسلحة، حتى حصل ما حصل. فتحولت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة بفضل النظام نفسه. غير أن خوف هذا الأخير على مصيره، زاد من استخدام العنف قتلاً وتعذيباً وتدميراً، بالمقابل خرجت إلى العلن كل الأحقاد المكبوتة عبر أربعين عاماً، عبر عنف مضاد، وهكذا تحولت البلاد بفضل حماقة الحل الأمني والعسكري إلى ساحة حرب. وأخرجت كل القوى مكبوتها العنفي”.
الثورات والانتفاضات والتمردات العربية مرحلة من الهدم لعالم قديم، وطموح لبناء عالم جديد، وانفجار ضد عقود من الذل والهوان وفقدان الكرامة وتخريب الحياة والقيم
وعن وجه الشبه بين الأصولية السلفية التي أحرقت كتب ابن رشد وغيره في الأندلس، وبين الأصوليين السلفيين الذين قطعوا رأس أبي العلاء المعري، وعن بواعث هذه العدمية الفكرية في نظره، يؤكد المفكر أن كل الأصوليات الدينية متشابهة في تاريخ البشر، فمحنة ابن رشد شبيهة بمحنة غاليلي، ومحنة غاليلي شبيهة بمحنة إسبينوزا، أي أن الأديان الثلاثة شهدت حالات رفض للفكر الحر.
يضيف قوله: “قطع رأس المعري هو الآخر جزء من هذا التاريخ، ولكنه وقع في مرحلة من المفترض أننا تجاوزناها، غير أن قطع رأس تمثال المعري، يجب أن لا ينسينا قطع رؤوس الأحياء والإبادة الجماعية بالبراميل المتفجرة، بل إن موت طفل واحد مأساة لا توازيها مأساة أخرى، وانتصار المعري الرمزي هو انتصار الحرية والكرامة الإنسانية، أقول هذا لأن هناك من نسي المأساة السورية، وراح يندب رأس تمثال المعري”.
لمعان ناصع
يمارس أحمد البرقاوي الفلسفة كما يمارس الشعر، بحثا عن تفسير لهذه العلاقة، يلفت المفكر إلى أنه هو نفسه لا يفهم ذلك، ويضيف قائلا: “إني أتلقى الوحي من ذاتي، الفلسفة وحي، حين تلمع الفكرة في ذهني، وأشعر بالفرح، يحتشد كل تاريخ الفلسفة في عقلي وأبدأ بالتحرر منه عبر جهد عقلي صارم، وخاصة بعد أن تحررت من البقايا الأيديولوجية المفسدة للنصاعة الفلسفية. وحين تلمع القصيدة، أراني محتشدا بإرثي اللغوي وروحي الفلسفية وطاقتي الجمالية، وعناصر وجودي. كيف يتم ذلك أنا لا أعرف، وقد لاحظ كل من قرأ نصي الفلسفي، وخاصة كتاب الأنا، وكتاب كوميديا الوجود الإنساني، وكتاب أنطولوجيا الذات، أني أكتب الفلسفة بلغة أقرب إلى الأدب، كما لاحظ قراء شعري حضور الفلسفة في نصوصي”.
إذا ما كان يفكر مفكر بالقارئ حين يكتب، يقول البرقاوي: “طبعا لا. كل من يكتب يتمنى أن يقرأ وعلى نحو واسع، نزول الكاتب إلى الناس، لا يعني سوى أنه مشغول بهموم الناس، مصيرهم ومآسيهم وآمالهم، وحين يكتب حول هذا كله يطلب منهم الصعود إليه”.
عن العرب اللندنية / أجرت الحوار : روز جبران