د. حسن أبو طالب
في الحروب والصراعات هناك نوعان؛ أولهما صراع يُحسم في معركة كبرى واحدة، ينتصر فيها الأقوى ويفرض هيمنته على المهزوم. وثانيهما صراع لا تحسمه معركة أو اثنتان أو ربما عشر معارك، ويظل في حالة حراك بين صعود وهبوط دون أن يصل الأمر إلى نهايته. النوعان من صراعات الدول، ومنذ عقود قليلة أضيف لأطراف الحروب والصراعات الجماعات والمنظمات الساعية إلى تغيير الواقع بالعنف. ومن ثم بدأت ظاهرة الحروب غير المتماثلة، بين جيش أو مؤسسة نظامية وأطراف أخرى غير نظامية بلا أرض محددة لها، ومسلحين غير ظاهرين، تجمعهم رؤية فكرية وآيديولوجية، وأنصارها من جنسيات مختلفة، وتحركهم قيادة مركزية أحياناً، أو مركزية رمزية تمنح شرعية لقيادات محلية للعمل حسب ظروف المكان.
دخول الأطراف غير النظامية ساحة الصراعات يؤجل الحسم، ويجعل الصراع ممتداً إلى زمن لا يعلمه سوى الخالق سبحانه وتعالى. ما جرى وما زال يجري مع تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش»، وفي السياق ذاته حركة «طالبان» الأفغانية، وأمثالها كـ«بوكو حرام» في نيجيريا، و«تنظيم الشباب» في الصومال، والجماعات السلفية الجهادية والمقاتلة ونظرائها في بلدان الساحل والصحراء في أفريقيا، وغيرهم جعل الصراع عبارة عن مواجهات وحروب صغيرة ومتوسطة، وبلا أفق محدد. بعض المعارك ينتصر فيها طرف، أو يحقق فيها هدفاً محدداً، ولكنه يخطئ كثيراً إن أعلن الانتصار الحاسم.
إعلان هزيمة تنظيم «داعش» في 2017 في العراق، وفي 2019 في شمال شرقي سوريا بعد معركة الباغوز، لم يكن دقيقاً في معناه. نعم لقد هزمت تجربة الدولة التي قادها التنظيم، ولكن التنظيم ذاته ظل قائماً، من حيث هيكليته القيادية، وعناصره الذين انتشروا في أماكن مختلفة في صحراء وبادية ما بين سوريا والعراق، وظلوا على اتصال بشكل أو بآخر مع القيادة المركزية والقيادات الفرعية، والأهم ما زالت أفكاره وآيديولوجيته صامدة لدى المؤمنين بها، وبعض المتعاطفين الذين إن أتيحت لهم الفرصة للاندماج أكثر في هياكل التنظيم وعملياته فلن يترددوا أو يبخلوا بأرواحهم.
تجربتا «القاعدة» وتنظيم «داعش» تؤكدان القدرة على البقاء في ظل ظروف ما يعرف بعدم التمكين، وتؤكدان أن فقدان القيادة العليا قتلاً أو اعتقالاً، لا يعني أكثر من مرحلة انتقالية يتم بعدها اختيار قائد آخر وفقاً للإجراءات التنظيمية المعمول بها، وحين يأتي قائد جديد يحمل معه أسلوباً مختلفاً ليثبت به قوة التنظيم واستمراريته. وفي الحالتين، يلعب ما يعرف بمجلس شورى التنظيم دوراً رئيسياً في اختيار القائد الجديد، كما تلعب البيعة من الأفراد ومن القيادات الوسيطة الدور المهم لإضفاء الشرعية على عملية الانتقال إلى قيادة جديدة، ونهج جديد مع تأكيد الأولويات الفكرية والآيديولوجية.
ما سبق يساعد على وضع مقتل زعيم تنظيم «داعش» أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، بعملية نوعية للقوات الخاصة الأميركية بقرار من الرئيس بايدن في سياقها الموضوعي، من دون تهوين أو مبالغة. لقد حققت هدفها في قتل زعيم التنظيم بعد الحصول على معلومات استخبارية دقيقة من أطراف مختلفة مشاركة في الحرب ضد التنظيم، وهما العراق وقوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد)، كما أظهرت استمرار الدور الأميركي في تلك الحرب، وأن أولوية واشنطن في التوجه إلى آسيا لمقارعة الصين والضغط على روسيا، لا تعني تجاهل المصالح الأميركية في المنطقة، ولو في حدود دنيا أو متوسطة، قياساً بحجم الاهتمام والتورط السابق.
أتت تلك العملية تجسيداً لما يعرف باستراتيجية قطع الرؤوس وإنهاك القيادات، لما في ذلك من آثار نفسية سلبية على باقي الأعضاء، مما قد يدفعهم إلى مراجعة الانتماء إلى التنظيم وربما التخلي عنه وهم الأقل إجراءات أمنية، أو هكذا تستهدف تلك الاستراتيجية. لكن الثابت في سوابق قتل القيادات أن الأمر لم يؤدِ إلى فقد التنظيم لأعضائه، بل تركز التأثير في مرحلة ارتباك محددة زمنياً لحين حسم اختيار قيادة جديدة. والتفسير الأقرب للدقة أن استمرار بقاء الأعضاء في التنظيم، أو الغالبية العظمى منهم، مرتبط بقوة القناعات الفكرية بأدبيات وأهداف التنظيم، وليس ارتباطاً بالقيادة مهما كانت سماتها القيادية. وطالما أن مواجهة التنظيم لم تتضمن مواجهة الأفكار ومعالجة الأسباب المجتمعية الموجودة في أماكن انتشار التنظيم، ولم تُحاسب الدول والكيانات التي توفر المأوى والملاذ الآمن لبعض الأعضاء وللكثير من القيادات، سيبقى التنظيم بكل ما يشكله من مخاطر وتهديدات على كل من العراق وسوريا، والمصالح التي تمس مباشرة الولايات المتحدة وروسيا وغيرهما من القوى المتشابكة في تلك الحرب غير المحددة المفتوحة زمنياً.
لقد تمت عمليتا قتل كل من أبو بكر البغدادي 2019 وأبو إبراهيم القرشي في 2022 في إدلب شمال سوريا، والقريبة من الحدود التركية، والخاضعة لنفوذ «جبهة النصرة» و«جند الإسلام» وغيرهما من مجموعات الإسلام السياسي العنيفة، والمناهضة للنظام السوري والخاضعة للاستخبارات التركية. وتشير كل ملابسات إقامة زعيمي التنظيم المقتولين إلى أن الروابط بين «داعش» والتنظيمات المحسوبة على «القاعدة»، هي روابط قوية، تجمعهما الآيديولوجيا، والهدف المشترك في محاربة من يرونهم أعداء الإسلام ومناهضي الخلافة، فضلاً عن هدف التمكين فيما يمكن السيطرة عليه من أرض مهما كانت محدودة. ويصعب على المرء أن يتصور أن الاستخبارات التركية لم تكن لتعلم أن قائدي «داعش» يعيشان على بعد أقل من 20 كيلومتراً من حدودها، وفي بقعة تغص بعيونها الاستخبارية والتابعين لها من جماعات النصرة وغيرها.
تفكيك ملابسات مقتل أبو إبراهيم القرشي، يؤشر بدوره إلى أن الحرب مع «داعش» ما زالت تتطلب الكثير من الجهد، والاستراتيجيات الشاملة أمنياً وفكرياً وسياسياً ومجتمعياً، وهي حرب ممتدة واغتيال قائد أو أكثر لا يعني اقتراب الحرب من معركتها الأخيرة.
الجهد الأكبر ينصب على حكومة العراق الأكثر تأثراً بوجود التنظيم وقدرته على الحركة في الداخل العراقي وفي قلب بغداد أحياناً، معالجة مظالم السنة في المحافظات التي تنتشر فيها بقايا التنظيم، ومراعاة مطالب الغاضبين من الحكومات السابقة التي أهملت مناطقهم ولا توفر لهم ضمانات الحياة الكريمة والمتساوية، هما شرطان أساسيان لاحتواء خطر التنظيم على المدى المتوسط، جنباً إلى جنب مع مواجهة فكرية رصينة لكل أفكار التنظيم الساعية إلى الهدم وإفساد حياة الناس.
أما الوضع في سوريا، وخروج مساحات شاسعة من سيادة الحكومة السورية، يجعل الدور الأكبر في المواجهة على إدارة الحكم الذاتي الكردية، بالتعاون مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي بشكل عام، أما الحكومة السورية فتبدو قانعة بما حققته فيما أطلق عليه الرئيس بشار الأسد سوريا المفيدة. وحصيلة الأمر مساحة جغرافية لحرية الحركة للتنظيم وبقاياه، وخصماً من جهود المواجهة الشاملة، والتي ستظل مؤجلة إلى حين تستعيد سوريا وحدتها وسيادتها.
المصدر: الشرق الأوسط