لعبت الدكتاتوريات المتعاقبة على غواتيمالا دوراً كبيراً في إنجاب كتّاب متخصصين في نقد صورة الطغاة، ليس في هذا البلد فحسب، بل في جميع أرجاء أميركا الجنوبية أيضاً.
“لم يترك لنا استورياس أي شيء”، كان ردّ فعل الروائي الكولومبي غارسيا ماركيز حين قرأ رواية الغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس “سيدي الرئيس”؛ وكان ينوي رسم صورة للطاغية في أميركا اللاتينية من خلال عمل روائي. لكنه وجدَ مساحةً أخرى، بعيداً عن أستورياس، وأعاد صياغة الصورة في “خريف البطريرك”. ثم توالت الروايات وصولاً إلى عمل البيروفي فارغاس يوسا المعنون تعسفاً بـ “حفلة التيس”.
أما مواطن أستورياس، مانويل غاليتش (1913ـ 1984)، فرسم صورة للطاغية في أميركا اللاتينية بمفهومه الجديد في مسرحية “سمك عسير الهضم” (ترجمة محمود علي مكي) الصادرة حديثاً في طبعةٍ ثانية عن “المجلس الوطني للثقافة والفنون” في الكويت، تحت سلسلة “من المسرح العالمي”، تتصدّرها مقدمة من ثمانين صفحة.
من خلال جولة على هامش التاريخ القديم لروما يوليوس قيصر، رسم غاليتش الصورة مستعيناً بثلاث شخصيات رئيسية: مامورا، متعهد الحروب وممثلاً رأس المال؛ العبد آرتوتروجوس، محرر السجل اليومي لأخبار الشعب الروماني كرمز للآلة الإعلامية المضللة، ويوليوس قيصر، مبعوث روما لغزو إسبانيا.
”
استعان غاليتش بتاريخ روما القديم لرسم بورتريه حديث للطاغية
”
لم يبتعد الأدب الذي انشغل برسم صورة الطاغية في أميركا اللاتينية عن حدود القصر الرئاسي في المعالجة، بخلاف غاليتش الذي رسم الصورة من خلال نظرة أوسع؛ تشمل الحروب الاستعمارية المسيّرة باسم الحرية إلى دول العالم الثالث: “إنكم أنتم وأبناؤكم كنتم تذهبون إلى الموت في ميادين القتال في بلاد بعيدة، نائية، من أجل مجد روما ومن أجل الدفاع عن الحرية والحضارة الرومانية، ولكن كل هذا لم يكن إلا كذباً وتضليلاً”، يعترف العبد أرتوتروجوس، بعدما افتضح أمره.
سياسياً، وعلى لسان المتسوّل الجديد، والسفير القديم، تيتينو، نقرأ: “الفرق ليس كبيراً بين متسول وسفير من سفراء إحدى المقاطعات الإمبراطورية في روما”. وفي معرض تبرير امتهانه التسوّل، يقول: “كنت أخشى نسيان مهنتي الدبلوماسية، وكان في مهنة التسوّل ما يذكّرني بها”.
من خلال عمله سفيراً لبلده في الأرجنتين، في ظل ديكتاتورية خوان بيرون، ومن ثم وزيراً للتربية والخارجية في حكومة خابوكو أربنيث، عرف غاليتش الكثير عن مهنة السفير/المتسول، كما عرف حِيَل الإعلام وتحالفه مع رأس المال: “أنا أعرف مهنتي على خير وجهٍ، المهم ليس رواية الأحداث، بل سبْق الآخرين إلى روايتها”، يقول على لسان آرتوتروجوس العبد مرة أخرى.
ينهي غاليتش “سمك عسير الهضم” بضحكة من حنجرة العبد وهو في طريقه إلى الموت على أيدي العامة: “أيها السادة النبلاء والسيدات الجميلات، أنا لا يهمني ما تفعلون بي، والآن إلى الأمام، سيكون السجل اليومي للأخبار ابتكاراً جديداً في قاع الجحيم وسينسب إليّ أنا فضل إدخاله إلى هناك”.
تقوم “سمك عسير الهضم” على تقنية ملء الفراغ في الرواية التاريخية. وبحسب مترجم النص، فإن الشيء الحقيقي الوحيد الذي ارتكز عليه غاليتش هو أبيات قليلة للشاعر الروماني كاتولو يهجو فيها قيصر ومامورا. ما عدا ذلك، تستند المسرحية إلى الخيال الموظّف بحرَفية عالية لنقد صورة الطاغية الحديثة.
وعن نهجه في اللعب على هامش التاريخ، يكتب غاليتش في مقدمة المسرحية: “لا يهمني في هذه المسرحية التهم التي ألصقها الشاعر بقيصر ومعرفة ما إذا كانت صحيحة أو لا. كل ما هنالك أن كاتولو، حينما عبّر عن كراهيته المسعورة لقيصر، ترك لنا ـ ربما دون أن يقصد ـ رمزاً حياً خالداً للحاكم المستبد، وهو رمز يمكن أن يسري على كل مكان وزمان”.
عن العربي الجديد