سوريا: مخاوف من أزمة تشتت الهوية مناهج التدريس تحددها موازين القوى

زياد حيدر من سخرية الأقدار، المولودة في الحروب، أن سوريا، التي كانت من أكثر دول العالم صرامة في مجال التعليم الموحّد، باتت من أكثرها تشعباً في المناهج الدراسية، بشكل يترك تكهنات مشروعة بشأن “هوية الفرد الوطنية” مستقبلاً.

ليس في الأمر مبالغة، أن سبعة مناهج دراسية على الأقل تدرَّس للتلاميذ السوريين في البلاد وخارجها، تتدرج من السلفية “الجهادية” المناقضة لتعليم الدولة العلماني، وصولاً إلى تعليم المناهج الكردية، ومناهج الدول المجاورة لسوريا. وتحاول كل المناهج عموماً، إدارة ظهرها لغيرها، وتقوم غالبيتها على التوجه الإقصائي العقائدي ذاته، لكونها تأتي في سياق حرب عسكرية، وتنظر إلى الآخر من زاوية “الإبادة” لا الاحتواء أو التعايش. ومنذ تشرذم المناطق السورية، ودخول قوى عسكرية مختلفة على خط الصراع، وسيطرتها على مناطق واسعة مأهولة، بدأت عملية تغيير المناهج بشكل تثير استنتاجات تحتاج إلى مزيد من البحث، بشأن عمق مأزق الهوية الوطنية الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية في سوريا، بغضّ النظر عما يُقال من تأثير خارجي. وبالرغم من أن موضوع التمويل الخليجي لا يمكن إغفاله، إذ تؤكد الوقائع أنه تمّ تأسيس “مدارس” عدة وهيئات شرعية بغرض استقطاب هذا التمويل، ولا سيما من السعودية والكويت وقطر، إلا أن هذا العامل يبقى مساعداً، في ظل تمدّد المذهب الوهابي خلال الثمانينيات والتسعينيات، عبر عشرات الآلاف من السوريين الذين تلقوا علومهم الدينية وجمعوا ثرواتهم الصغيرة من السعودية، وعادوا بما يحملونه من هذا الفكر، والغربة عن واقع بيئتهم. ولم يقف هذا الطموح هنا، بل تجاوزه التسرّع في محاولة خلق واقع جديد ومدّه اجتماعياً، على مناطق بكاملها كما تشهد مناطق سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ـ “داعش” أو مناطق “الإدارة الذاتية” الكردية. من جهة أخرى، يتوزّع مئات آلاف الطلاب السوريين على مخيمات اللجوء في لبنان وتركيا والأردن. ويتلقى هؤلاء في الأردن المناهج التعليمية الأردنية، فيما يتلقون في لبنان مناهج رسمية لبنانية. أما في تركيا فيحصل السوريون على الكتب الدراسية السورية، لكن باستثناء مواد التعليم القومي وكل الدروس والكتب التي تشير إلى بقاء النظام الحالي. ويتلقى هؤلاء تعليمهم في تركيا في ظلال علمين، هما علما تركيا و”الاستقلال” الذي تبنّته المعارضة، وذلك في بيئة نزوح متأرجحة، بين “آمال عودة إلى وطن تتحدّث عنه المناهج على طريقتها” وواقع ميداني يقف على نقيضه. وأحياناً لا تتعدّى المسافات بين نظام تعليمي وآخر سوى بضعة كيلومترات، هي التي تسمح بمسافة أمان من رصاص رشاش ثقيل. وفيما لا تزال مناهج الدراسة القومية والبعثية هي المسيطرة في دمشق، يدرس التلاميذ على مسافة لا تتعدى عشرة كيلومترات أحياناً منهاجاً تعليمياً سلفياً يقوم على ترسيخ العقلية “الجهادية”. وفيما يصيح الطلاب صباحاً في مكان وسط دمشق بـ”ولائهم” لـ”حزب البعث”، تصدح أصوات تلاميذ في مناطق ريفية قريبة “قائدنا (النبي) محمد”. وحتى ظلال القائد الواحد لا تجمع الفصائل الإسلامية على منهج توجيهي للصغار، وفقاً لما توضحه دراسة أعدّتها باحثة سورية لجامعة “سانت أندروز” البريطانية (رابط الدراسة https://www.facebook.com/l.php?u=https%3A%2F%2Fwww.opendemocracy.net%2Farab-awakening%2Fola-rifai%2Feducation-and-flags-seminal-for-winning-hearts-and-minds-of-syria%25E2%2580%2599s-new-gen&h=lAQHx_9U1&s=1). وتشير الدراسة إلى أن أبرز الفصائل المقاتلة في ريفَي حلب ودمشق، تعتمد مناهج مختلفة نسبياً تجاه الأطفال، وإن استندت جميعها للخلفية العقائدية “الجهادية”. واستناداً إلى البحث، فإنّ فصائل “لواء الإسلام” و”أحرار الشام” تميل إلى منح التعليم الديني المساحة العظمى من ثقافة الطفل “لخلق جيل مختلف عن جيل البعث يجد كبرياءه في الإسلام” وفق أحد الشيوخ. ويخضع هؤلاء لتدريب عسكري، لكن بعد سنّ معيّن، ويؤدون التحية العسكرية في اجتماعاتهم الصباحية، كما عهدوا قبل الحرب، ولكن تجاه عدوٍّ على النقيض، وهو الدولة هنا، مع اعتماد “سياسة انتقائية وعدائية” في التعامل مع المذاهب الأخرى. من جهتها، تنظر “جبهة النصرة” باعتبارها فرعاً من تنظيم “القاعدة” إلى الفتيان بين سن 10 و15 باعتبارهم “مشاريع جهادية”، وإن في سياق “دولة الخلافة” في سوريا حصراً، خلافاً لما هو الأمر مع “داعش” الذي ينظر إلى التعليم الديني ويطبقه باعتباره “منهجاً أممياً” ينطبق على تلاميذ سوريا والعراق وغيرهم. ويتبع “داعش”، كما بات معروفاً، نظاماً أقرب إلى نظم البداوة الجاهلية منه إلى الإسلام، ويعلم الأطفال منذ سن العاشرة كيفية استخدام المدية للذبح، بالإضافة إلى ثقافة العمليات الانتحارية وغيرها. ويقع تحت تأثير هذه الفصائل وغيرها من الفصائل الإسلامية ما يزيد على 10 آلاف مدرسة (في الرقة وحدها أكثر من 1400 مدرسة) من دون ذكر الجوامع والكنائس التي تحوّلت إلى مجالس تعليمية، الأمر الذي يضع عشرات آلاف الفتية تحت تأثير هذه الفلسفة التدميرية. إلا أن ما يوازي في الخطورة، يتمثل أيضاً في تشكل “أزمة هوية” ستكون سمة من سمات سوريا في زمن الحرب وما بعدها. وتؤكد الاخصائية في الطب النفسي ليلى الشريف هذا الأمر، خصوصاً لدى “المراهقين” الذين سبق وتلقوا علوماً مدرسية رسمية، وعليهم الآن التكيّف مع واقع جديد، وحقائق جديدة. وما يزيد الأمر تعقيداً هو عدم اقتصار التأثر على منهجين أحياناً، إذ تتدخل موازين القوى في فرض العلوم المدرسية. ويمكن لمنهجين أن يتغيّرا في ظرف سنة بين نقيضين، كما حصل في مناطق النزاع الكردي مع طرفي “الجيش الحرّ” وفروع “القاعدة”. والأخيرة، وفقاً للشريف تعدّ “مجرمين” أكثر مما تعدّ تلامذة، حيث ينشأ هذا الجيل بين مشاهد الأشخاص المصلوبين والرؤوس المعلقة في الساحات العامة. من جهتها، تحاول مناطق ما يُسمّى بـ”الإدارة الذاتية”، ترسيخ واقعها الخاص، بمخاطبة حلمها بالاستقلال الذاتي إن لم يكن التام عن سوريا. وتشير تقارير إلى اعتماد المناهج الكردية في التعليم الابتدائي، إلى جانب اللغتين العربية والانكليزية. كما تخضع مناهج التربية الوطنية للإقصاء، ويتغير اسم الدولة من الجمهورية العربية السورية إلى الجمهورية السورية. ويرفرف علم غير علم البلاد فوق رؤوس الطلاب (يقدر عددهم بخمسين ألفاً تقريباً) في عين عرب (كوباني)، والتي بدورها الآن تواجه مخاطر غزو جديد من “داعش”. ويزيد من خطورة هذا الواقع، إحساس عامة السوريين، بانعدام الأفق، وشيوع الميل إلى الهجرة للغرب، وذلك في الوقت الذي تحذر فيه الأمم المتحدة أساساً من أن عشرات آلاف الأطفال السوريين سيصبحون “من دون جنسية” خلال سنوات، بسبب نزوحهم خارج البلاد من دون أوراق رسمية، أو تيتّمهم خلال الحرب. وبين هؤلاء كثر، استقروا في مخيمات اللجوء، ووفقاً لتقديرات “اليونيسيف”، فإنّ هناك ما يقارب 500 ألف طالب في مخيمات الجوار يتلقون مناهج الدول التي يقطنونها. وخارج هذه الدائرة يخضع الملايين للتعليم الرسمي في مناطق سيطرة الدولة. وبالرغم من أن الحكومة السوري أعلنت التحاق 4.3 مليون طالب في جميع مدارس القطر القابلة للاستثمار، والبالغة 17 ألفاً و 700 مدرسة، فإن المدارس بدورها، ليست في أفضل حال، فأرقام العام 2014 تشير إلى أن 1385 مدرسة دمرت في عموم المحافظات البلاد، وخرج من الخدمة 4606 منها، وخصص منها 680 لإيواء النازحين من مناطق أخرى. وبالطبع لا تنفي وزارة التربية السورية علمها بحال التعدد المفروضة على مناهج التعليم. ووفقا لما قاله معاون وزير التربية عبد الحكيم الحماد لـ”السفير” فإن الحكومة على علم “بأن الجماعات والعصابات الإرهابية المسلحة تحاول وتعمل على فرض مناهج أخرى بالقوة في بعض المناطق التي تقع تحت سيطرتها، مبنية في جوهرها على أساسيات المرتكزات العقائدية لتلك الجماعات المسلحة التي تدعو إلى القتل والإرهاب وتكفير الآخرين، وعدم الاعتراف بالتنوع والغنى الثقافي، وإلى التزمت والانسحاب من معطيات العصر وتطوراته، خلافاً لما تتضمنه مناهجنا الرسمية”. وتحاول الوزارة لمواجهة هذه الحالة اللجوء إلى “توسيع عملية التواصل مع الأبناء جميعاً بكل الوسائل المتاحة ومنها على سبيل المثال: الدروس والندوات التعليمية، الكتاب الالكتروني، والمنهاج فئة (ب)، وأوراق التعلم الذاتي، وكان آخرها، ولن يكون الأخير، مشروع المدرسة الالكترونية السورية التي ستصل إلى جميع الأبناء السوريين في أي مكان كانوا”. ولكن برغم ذلك، فإن التدهور الحاصل في قطاع تعليم الأطفال السوريين هو “الأسوأ والأسرع في تاريخ المنطقة” وفقا لتقديرات “اليونيسيف”، في بلد كان مستوى الالتحاق بالمدارس الابتدائية فيه 97 في المئة قبل بدء الصراع في العام 2011. ولا تقدّم “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا” – “الاسكوا”، في تقريرها الأخير، ما يقلل من وحشة هذه الصورة. وعلى العكس، فإنه من المتوقع أن “تتدنّى نسبة الالتحاق بالتعلـيم الأسـاسي إلى 50 في المئة مـن الفئـة العـمرية 6 الى 11 سنـة، وإلى 30 في المئة في صفوف التلاميذ في الصفين الأول والنهائي من مرحلـة التعلـيم الابتدائـي، وهـي نسـبة متدنّيـة إلى حـد مخيف ستترك أثرها المدمّر على مستقبل البلد لعقود طويلة”. وينوّه التقرير بتقديرات “الخبراء بأن ينشأ جيل من الأطفال دون الـ15 ضحايا للأمية”، ما يعني احتمال وقوع هذه الشريحة تحت تأثير الدعاية الدينية المتطرفة، والتي يوازيها أيضاً التعرض للتأثير الاستقلالي الكردي لدى متلقي المناهج الكردية، ومثلها نظم تعليم الأردن ولبنان، كما “الائتلاف الوطني” في تركيا، المتأثر بمنهج جماعة “الإخوان المسلمين”، يضاف إليها النظم التعليمية العلمانية رسمياً، من دون الإشارة إلى مئات الآلاف من السوريين الذين استقروا في أصقاع العالم، وأخذوا مسار تثبيت “هويات” جديدة على أوراقهم الرسمية، بشكل يثير السؤال عن التأثيرات السلبية التي سيتركها كل هذا في “الهوية السورية الجامعة” مستقبلاً.

عن السفير