كثيرون يُرجعون هذه العلاقة إلى حجم المآسي التي يعانيها الطبيب من جراء رؤيته وتعامله اليومي مع المرض إن كان جسدياً أو نفسياً وما ينتج عنه من آثار نفسية تؤثر على السلوك الاجتماعي للشخص المريض.
من الطبيعي أن تؤثر كل هذه المآسي على الطبيب وسلوكه وحتى على وعيه في مسيرته الطويلة والتي قد لا تخلو من التراجيديا المركبة بحكم التعامل مع أناس انهارت لديهم منظومتهم الصحية.
مهنة الطب في بلدي تتصدر كل المهن الأخرى بحكم ارتفاع المعدل الدراسي واختيار أذكى الناس (نسبياً) للقبول في كليات الطب، عادة ما يكون متفوقاً في أغلب مواد الدراسة، لذلك ليس سراً أن يكون الطبيب مبدعاً في مجالات أخرى ومنها الأدب بكل تجلياته.
من منّا لا يعرف أنطوني تشيخوف الروسي الذي لمع في سماء الأدب الروسي أو بوريس باستيرناك أو إبراهيم ناجي أو عبد السلام العجيلي وهلُّم جرا… أنهم أطباء لامعون برزوا في سماء الأدب كنجوم متألقة و متلألئة تنير الدروب المظلمة في حقب مختلفة.
طبعاً، وجهتا الطب والأدب متعاكستان من ناحية محاكاتهما للإنسان، فالطب يعتمد على الجهد الذهني ويستمد حجته من العقل والدماغ بينما الأدب يخاطب المشاعر والأحاسيس البشرية في عمقها وصدقيتها ونبلها.
لو نظرنا إلى المجال الذي من الممكن أن يلامسه الطبيب جراء ممارسته للمهنة بين طيف واسع من البشر بأمراضهم الجسدية المختلفة وما ينتج عنها من انحرافات في السلوك و التعامل يتبين لي كطبيب أن أعماق النفس البشرية المظلمة وما تخبىء من أمواج متلاطمة قد تكون مادة خامة تنتج أدباً حقيقياً وروائع بحجم الأطلال التي غنتها أم كلثوم لإبراهيم ناجي الطبيب والأديب.
لاشك، بأن الطب كمهنة يُنظر إليها من جوانب مختلفة وهي ترهق صاحبها أحياناً لحد القرف والنأي بالنفس من كل ما يحصل حوله وهذه الكارثة بعينها.
والطبيب بحكم نظرة المجتمع الصارمة له، يتوجب عليه أن يكون جدياً في مسيرته مما يشكل عبئاً عليه وقيوداً تفرض على شخصه وحريته.
كتجربتي في الإلمام بالأدب وشغفي باللغات المختلفة أرى أن الجمع بين المجالين المتناقضين حسب تقدير البعض يريح الطبيب من زاوية إلهائه بجانب من جوانب الإنسان الإبداعية.
ما يعانيه الطبيب من ضغطٍ نفسي وانفعالٍ سلبي وانهيار جراء نتائج عمله في حل مشاكل الناس الصحية والأخطاء الطبية والاختلاطات التي تنتج حيال ممارسته لعمله المهني قد تثقل كاهله جسدياً ونفسياً.
كثير من الأطباء أصيبوا بخيبة أمل وانهيار مهني في بداية ممارستهم للطب و لم يتحملوا تبعات عملهم فخارت قواهم وباءت كل جهودهم بالفشل فرسبوا في امتحان الحياة العملية. على العكس من ذلك هناك لحظات لا توصف مليئة بالفرح والسعادة تنتاب الطبيب جراء إنقاذه لمريض أوشك على الموت فأعاد له الحياة ورسم البسمة على أفواه أقرباء ومرافقي ذلك المريض.
الظاهرة مرة وحلوة بآن معاً وفي الحالتين تشكل موضوعاً أو مادة لعمل أدبي ضخم قد تلامس ما هو أجمل في الإنسان من خلال صياغته بأسلوب أدبي جميل و لغة سلسة تستطيع جذب اهتمام الناس ومخاطبة أعماقهم النبيلة وجوانبهم الإنسانية.
بحكمي طبيب أمراض القلب وتعاملي اليومي مع الجلطات القلبية وظاهرة الوفيات وحالات الموت التي نعيشها جعلتني أنظر إلى الموت من زاوية أخرى غير نظرة الناس العاديين أو أقرباء الضحية.
أرى الموت يومياً وأنعش الموتى مراراً فمنهم من ننجح في أنعاشه وإنقاذ حياته والأمثلة كثيرة ومنهم من نفشل في إعادة الحياة إليهم، في الحالتين هناك حالة نفسية ورد فعل لدى الطبيب بالسلب مرة وبالإيجاب مرات أخرى.
لكن -للأسف- في بلدي ارتكاس الناس، طبعاً ليس كل الناس على ظاهرة الحياة والموت ليست دوماً منطقية. إن وفقت في إنعاش المريض فهذا فضلٌ من رب العالمين وهذا لا يختلف عليه اثنان، أما إذا فشلت في إنعاشه فقد قتله الطبيب في تناقضٍ صريحٍ مع معتقداته التي يؤمن بها ” إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون”.
إذاً، مهنة الطب بكل جوانبها المختلفة غنيّة بمواضيعها، جميلة بـ مآلاتها ومبدعة بتعقيداتها والتي تلهم صاحبها وتمده بعناصر الإبداع الحقيقية، إن امتلك خاصية الكتابة وتمتع بلغة الفصاحة والحصافة والبلاغة للتعبير عما يحصل خلال حياته المهنية في مجتمع مليء بالمتناقضات.
د محمد علي عبدي