سكّان المقابر.. ليسوا غير البشر

اعتاد حسين سلهب حفر القبور لدفن الموتى. يمضي وقته جالساً عند مدخل المقبرة حيث يقطن. يُرحب بزوار الموتى ويقدم لهم المياه لغسل مقابر أحبائهم مقابل أجر زهيد. لا يريد أكثر من سقف يحميه وأسرته من حرارة الشمس في الصيف، والبرد في الشتاء.

كان سلهب يثق بالحياة في صغره. لكنه اليوم يخشى المفاجآت غير السارة التي اعتاد القدر أنه يخبئها له. فالحرب الأهلية سلبت عائلته كل شيء، منها منزلها في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت.

لكنه اعتاد حياته، حتى أنه اليوم يرفض السكن في “فيلا” لو أُتيح له ذلك، يقول مازحاً. لم يعد صمت القبور يخيفه.

يُكرّس سلهب وقته للاهتمام بنظافة المكان وحراسته. يراقب الأكياس والأغراض التي يدخلها الزوار. المقبرة بالنسبة إليه “مكانٌ مقدّسٌ على الزائر احترامه”. يضيف لـ “العربي الجديد”: “بعدما حولت الحرب الأهلية منزلنا إلى ركام، لجأنا إلى منطقة بئر حسن (الضاحية الجنوبية لبيروت) ومكثنا في أرض صغيرة تابعة للأوقاف. بنينا منزلاً متواضعاً لنحتمي فيه من رصاص القنص وشظايا القذائف”.

يتابع سلهب: “لم نقصد المقبرة للسكن فيها. بل لجأ إلينا الموتى للحفاظ على حرمة جثامينهم”. يضيف: “كان عدد القتلى يتزايد يومياً جراء الاشتباكات المسلحة. وبما أن الأرض تابعة للأوقاف، فإن المقاتلين كانوا يدفنون جثث رفاقهم في محيط الأرض حيث نقطن، ويرسمون عليها إشارات تمكنهم من التعرف على هوياتهم. امتلأت بجثث المقاتلين من جنسيات سورية وفلسطينية ولبنانية، وصار والدي حارس المدافن، لتبدأ رحلته مع مهنة جديدة ورثناها عنه”.

الحياة التي عاشها سلهب في المقبرة لم تسمح له بالتفكير في مستقبل خارجها. فقد أمضى طفولته متنقلاً بين المقابر. تعلم نحت أسماء الموتى على الرخام. يقول إن “كلفة القبر مع الحفر والحجر تصل إلى 1500 دولار أميركي. كنت أجني مالاً وفيراً. إلا أن المقبرة امتلأت اليوم، ولم أعد أجني المال كالسابق. أعتمد على عملي في مقابر أخرى”.

يضحك سلهب لدى الحديث عن غرائب المقابر. يقول: “عشت في هذا المكان أكثر من 30 عاماً، ولم أصادف ما هو غير مألوف”. يضيف: “نخشى فقط اللصوص وتجار المخدرات والمجرمين الذين يلجؤون إلى المقابر للاختباء أو الاعتداء على الفتيات والأطفال”.

ويؤكد أن والده “نجح في حماية المقبرة ومنع دخول الغرباء. فقد أصبحنا نعرف جميع أقارب الموتى”. لدى حسين تسعة أشقاء (خمسة ذكور وأربعة إناث). توفي والداه ودفنا في المقبرة حيث يقطنون. يقول: “لم أتخيل أن الوقت سيحين لأدفن والدتي بيدي. رهبة الموت أقوى من الموت نفسه. لحظة إنزال والدتي إلى مثواها الأخير، شعرت بالخوف من المكان الذي ستنتقل إليه. قرأت لها الفاتحة، غطيتُ وجهها بالتراب وأغلقت قبرها بالرخام الذي يحمل اسمها”.

يعيش مع حسين في المقبرة أخوه الكبير وشقيقتاه. لكل منهم منزله. يعلق ساخراً: “تربينا هنا. مات والدي ودفناه في المكان نفسه. قمنا بزفاف أخواتي هنا أيضاً، ولم نأبه لانتقادات الناس وتعليقاتهم في ما يتعلق بخروج العروس من المقبرة”.

للعائلة ثمانية أحفاد. يلعبون ويمرحون بين المقابر ويستخدمون أدوات الحفر للتسلية. ولعبة “التابوت” هي المفضلة لدى ابن شقيقته. يقول سلهب: “نستخدم صندوق الخشب للعب الغميضة أو نخبئ داخله بعض الأطعمة اللذيذة التي يحبها الأطفال”.

يسمع الطفل الكثير من أصدقائه. يقولون له إن السكن في المقبرة “نحس”. لكنه يرد عليهم: “لدي قلب قوي لا تملكون ربعه. أتحدى واحداً منكم أن يأتي وينام ليلة في منزلي”.

يشكو الحفيد فقط من الحشرات المنتشرة داخل المقبرة. يوضح: “نقفل النوافذ في الليل والنهار كي لا يدخل الناموس إلى غرفنا”.

تقاطعه أخته الأكبر لتتحدث عن أمر آخر، هي التي تضايقها نظرة الناس إليهم. “يعتقدون أننا أميون وغير مثقفين ولا نرتاد المدارس. يعاملوننا كفئة منبوذة لا يحق لها العيش”.

عائلة سلهب، كغيرها من العائلات في لبنان، تعاني مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وعدم وصول المياه إلى منطقة سكنهم. حالها حال جيرانها القاطنين خارج المقبرة. تتمنى لو “ترأف الحكومة لحال الفقير”.

على رصيف الشارع الموازي للمقبرة، اعتاد طفل بيع الزهور للمارين أو زائري المقبرة. يقول سلهب: “قد تكون المقبرة بالنسبة إلينا مكاناً للسكن فُرِض علينا، وبالنسبة لآخرين منفذاً للعمل وجني المال. لكن في النهاية، همومنا مشتركة. نعيش من قلّة الموت”.

عن العربي الجديد