«الفن في متاهة» صرخة ضد تزوير قيم الجمال

يقدم ناقد الفن فاروق يوسف في كتابه (الفن في متاهة) الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وهو كتاب فريد من نوعه وجرأته في الحركة التشكيلية العربية، بفصوله الرئيسية والفرعية، صورة بانورامية للمشهد التشكيلي في عالمنا العربي، بتحولاته الكبيرة والصغيرة، وتداخل القيم إلى حد الفوضى التي أصبحت سمة عامة في حياتنا اليوم.
عنوان الكتاب: «الفن في متاهة: الفن العربي بين المتحف والسوق وإملاءات الفنون المعاصرة» مدخل عريض لمحتويات الكتاب الذي يقع في 230 صفحة من القطع الكبير، وبمقدمة للفنان ضياء العزاوي. فرواج الأعمال المزورة، ظاهرة استخدام الخبرات الأجنبية لتقويم الحركات التشكيلية في الدول العربية وكتابة تاريخها، فضلا عن استنساخ الموجات الفنية الطاغية في الغرب وتكريس المعارض الدولية والمحلية لأعمال ما بعد الحداثة التي تستخدم التقنيات الجديدة المتداخلة، وانفتاح السوق العربية على سوق الفن العالمية مع ظهور المزادات مع انعدام وجود سوق محلية تعتمد على تقاليد وأسس قياسية، ليست إلا مفردات هذا الكتاب القيّم، وفوق كل هذا وذاك السقوط في بحر البشاعة والتخلي عن الجمال بمعناه الإنساني السامي. وهي حقائق يحاول كتاب فاروق إبرازها، ومساءلتها ولفت الأنظار إليها.
أول فصول الكتاب إبحار في ماضي الحركات التشكيلية العربية وحاضرها وأوضاع فنانيها، ليخلص المؤلف (ص29) قائلا: «تراجع الفن التشكيلي العربي تراجعا محبطا للآمال منذ ثمانينيات القرن الماضي. ثلاثون سنة من الإحباط السياسي لم يكن الفن أثناءها إلا مشاركا جانبيا في الوصف المتخيل .. لذلك تخلى فنان اليوم عن خيلائه، الفكرة التي كانت تضعه في قلب الأسطورة. استعاد صورته الواقعية، إنسانا عاديا، كما هو في الحياة.» مع أن الفن حسب قوله في هذا السياق أيضا: «يمكن أن يكون الوثيقة الوحيدة التي تؤكد أننا أحياء».
أما عن الفنان فيقول: «فنان اليوم هو فرد حائر ومتردد وليس رسولا ملهمًا» ص25
أزمة الفن اليوم، الرسم والنحت التقليديين بشكل أساس، عالمية وليست محلية أو إقليمية. وهو ما يؤكده فاروق قائلا (ص33): «تلقي أزمة الرسم بظلالها على مصير الرسم في العالم». لقد كُتب عن هذه «الأزمة» كثيرا في الغرب. وكان من أشد الكتب وقعا وتأثيرا الكتاب النقدي الناري الذي صدر في 2003 بعنوان «خسوف الفن» The Eclips of Art» وبعنوان فرعي: «معالجة الأزمة في الفن الآن.» للناقد البريطاني جوليان سبالدنغ Julian Spalding، وهو من أشد النقاد صراحة في العالم، حسبما يوصف. يقول باختصار: «لا يعاني الفن من انحراف في البندول، وإنما هو في عتمة خسوف تام». وكتابه الذي يقع في خمسة فصول رئيسية، يبحث في غربة الجمهور عن الفن المعاصر، ويوجه التماسًا من أجل إعادة الحياة إلى التواصل وإمكانية التفاعل والمهارات التقليدية في هذا المجال.
هذا هو محور كتاب فاروق ضمنا وكشفا. فهو لا يهاجم التجارب الجديدة ويمحقها بقدر ما ينادي بوضع ميزان عادل، وإفساح مجال للفنون جميعا. كتابه صرخة هلع تنادي باستعادة شيء من القيم التي تدهورت، مشخصا الأسباب والظروف التي ساعدت على ظهور فنانين بلا فن، وسوق تفتقر إلى الخبرة اختلط بها المزوّر بالأصل، وتحول فيها الفن إلى تجارة، وانفتح على السوق العالمية في الوقت الذي يفتقر فيه إلى وجود أسواق محلية.
«الفن في متاهة»، يناقش قضايا مفصلية في واقع الفن العربي اليوم، بدءا من حيرة الفنان على مدى مئة عام بحثا عن مبررات للعمل الفني وسؤاله الكبير حول علاقة الفن بالمجتمع، واختلاط المفاهيم السياسية بالفنية، مرورا بالبحث عن هوية، والانشغال بنقاشات ممتدة حول التراث والمعاصرة، ليكتشف في نهاية الأمر أن تلك الحقب المحتدمة بالنقاشات أصبحت جزءا من تاريخ ميت.
لكن الفن، ممارسة وإبداعا، استطاع أيضا على مدى حقب أن يحقق وجوده داخل الحركة الثقافية والمجتمع، ويوجد متذوقيه وعشاقه وجامعيه، قد يمر بمد وجزر، ولكنه كان ماضيا بقوة حتى ارتبكت الأمور وحدث زلزال خلخل المجتمعات بما فيها مراكز الثقافة في الوطن العربي، لتظهر مراكز جديدة يرافقها ويدفعها منطق جديد أربك الفنان نفسه. في هذه الأثناء ظهرت أجيال شابة من الفنانين الذين تركوا أوطانهم في أعمار مبكرة وتتلمذوا في الغرب وأصبحوا يعرضون تحت راية البلدان التي هاجروا إليها.
عقب حرب الخليج الثانية، مع فرض الحصار المهلك على العراق، ظهرت أسواق فنية وجدت لها رواجا هائلا وهي قائمة على تزوير الأعمال الفنية لرواد الحركة التشكيلية في العراق، وما بعدهم، بل وصل تزوير الأعمال حتى لأجيال لاحقة نظرا لوجود طلب على عمل هذا الفنان وذاك (يتخذ فاروق من صرخة زيد محمد صالح رمزا لإنذار مبكر، حين وجد لوحة أبيه المعروضة في متحف الرواد ببغداد مزورة وليست أصيلة).
انفتحت قاعات عرض جديدة استقبلت هذه الأعمال وروجت لها نظرا لانعدام قدرة التاجر على التمييز بين الأصل والمزور، تورطت بذلك متاحف عربية. والأنكى من ذلك أن أسواق الخليج التي أصبحت حاضنة كبيرة للاتجار بالأعمال الفنية استعانت بخبراء أجانب أصبحوا هم الحكم الفيصل في تاريخ الحركات الفنية في الوطن العربي وتقويم فنانيها. والحجة دائما افتقار الوطن العربي لنقاد فن أكاديميين أو متمرسين يتقنون لغات أجنبية إلى جانب اللغة العربية.
ثم، ظهرت المزادات العالمية، في أوطان ليس فيها سوق حقيقية، ولا معايير للتسعير. كان الفنان العربي الحريص على رسالته الفنية والمكرس لها بعيدا عن أية معايير تجارية، والذي أمضى حياته موظفا من أجل أن يحافظ على مكانته الفنية ويرعى تجربته، الفنان الذي كانت فكرة التفرغ للفن ترفا، حسب قول فاروق يوسف، صار أمام واقع مغاير. وظهرت قاعات فنية جديدة تعمل وسيطا بين الفنان وجهة المزاد، فارتبكت الأمور، واختلطت حتى على المزادات التي كانت تكتشف أحيانا، وفي اللحظة الأخيرة، أن العمل الذي يتزايد عليه المقتنون إنما هو عمل مسروق من متحف، وقد تعلو صرخة أكبر لدى اكتشاف حقيقة أن العمل مزور وليس أصيلا.
هذه الصورة المشوشة المربكة، التي هي جزء من الحالة العامة التي يعيشها عالمنا العربي، أصبحت جزءا من نمط حياة الناس، وهو ما يريد فاروق يوسف أن يحذر منها. فأزمة الفن في عالمنا العربي أزمات تتعدى المسألة الفنية والترويج المحيّر لأعمال ما بعد الحداثة حصرا، بكل ما تحمله من سلبيات.؛ موضوع يقف عنده كثيرا أمام مشاهدة قاعات فنية وبينالات تكرس معرضها لاستضافة فنانين وأعمال تستخدم التقنيات الحديثة المتداخلة والفن المفاهيمي الذي غالبا ما تضيع به القيم بين فنان مبدع يستقطب المشاهد ويقحمه في المشكلة الفكرية والفنية، وبين الأغلبية من التجارب الساذجة فكرة وتنفيذا، تجارب لا تعتمد إلا على أدبيات متحذلقة. ولا بد هنا من استثناء عدد من التجارب العربية التي تستحق الوقوف عندها واحترامها، إذ ليس الاعتراض على عرض تجارب ما بعد الحداثة، بقدر ما هو تساؤل عن سبب تضييق المجال أمام غيرها من التجارب الفنية التي تعتمد وسائل التعبير التقليدية؟
نحن أمام كتاب مثير للجدل، قد نتفق مع كاتبه كليا أو جزئيا، وقد لا نتفق، ولكنه يظل وثيقة تاريخية مهمة، كونه صرخة منذرة في عالمنا العربي المتخبط. فأهم ما في هذا الكتاب أنه يثير أسئلة كثيرة، ويستفز القارئ بلغته البليغة المشحونة، والعسيرة على الفهم أحيانا، ويطالب باتخاذ مواقف مقاومة لتيار جارف، وعدم الوقوف جامدين أمام ما يطرحه من رؤى وتحديات فكرية. والكتاب يسعى أيضا إلى تعرية واقع الثقافة العربية الراكدة ركود بحيرة فقدت كل مصادر حيويتها، يقف فيها المبدع والمثقف موقفا انعزاليا إن لم يكن سلبيا.

عن القدس العربي