نحن نعرف الآن أن منطقتنا تشهد محاولات سياسية لإعادة ترتيب الأوضاع بهدف تجاوز خلافات عميقة امتدت لسنوات، والبدء في بناء حد أدنى من التوافق يمكن أن يتطور لاحقاً إلى حالة سياسية أكثر إيجابية، تدير فيها دول المنطقة خلافاتها، وتسعى إلى موازنة مصالحها، في أجواء غير عدائية حتى وإن لم تكن تعاونية.
وبالطبع فإننا ندرك أيضاً أن تلك الدول التي انخرطت في الخلافات العميقة تمتلك منظومات إعلامية تنطق باسمها، أو تنطلق من أراضيها، أو تحظى بتمويلها، أو تدعم سياساتها، وهو أمر يمكن أن نتفهمه، ونتقبله، طالما أن تلك المنظومات تفعل ذلك من دون أن تتورط في ممارسات مشينة؛ مثل الاختلاق، والتزييف، والتحريض على العنف، وتشويه الحقائق، وإشاعة الكراهية.
عندما تتورط منظومة إعلامية في تلك الممارسات المشينة، وتجتهد في إثبات الفاعلية والولاء عبر نقض المعايير المهنية وتقويض الاعتبارات الأخلاقية، وتتحول إلى ذراع لشيطنة الخصوم والتحريض عليهم، فإنها تخرج من عالم الإعلام، وتستقر ضمن آليات الدعاية السوداء.
أما الإشكال الكبير فينشأ حينما تقرر الدولة، التي حولت منظومتها الإعلامية إلى ذراع دعاية سوداء، تغيير مواقفها وتبديل مواقعها لإدراك مصلحة سياسية، والتكيف مع تغيرات حاكمة، وتضطر أن تقدم دليلاً على حسن نياتها حيال أعدائها الذين أرادت مصالحتهم، عبر تغيير نمط أدائها الإعلامي.
تأتي تلك الدولة إلى القائمين على إدارة منظومتها الإعلامية وتبلغهم بضرورة تغيير سياساتهم التحريرية حيال خصومها، الذين راحت تمد حبال الود معهم.
وقد يقف هذا التغيير عند حدود عدم تناول الخصوم سلبياً في المعالجات الإعلامية، وقد يمتد إلى تحويل نمط الخطاب الإعلامي من الهجاء وتلطيخ السمعة إلى الإشادة والتودد… وهنا تتحول تلك الوسائل الإعلامية من أذرع دعاية إلى بهلوانات.
ثمة قصة موحية في هذا الصدد ترجع وقائعها إلى أيام غرق العالم فيها في وحل حرب عالمية طاحنة استدعت من المتحاربين تطوير أدوات إعلامية لمقابلة احتياجات الصراع. ففي الأربعينيات من القرن الماضي، أطلق الجيش البريطاني «إذاعة الشرق الأدنى»، لتعمل كذراع دعاية باللغة العربية، في مواجهة الدعاية النازية، التي امتلكت وسائل إعلامية استطاعت أن تجد آذاناً في بلدان منطقة الشرق الأوسط، وأن تؤثر في الرأي العام المتعلق بالحرب وأطرافها.
وبعد انتصار بريطانيا، سعت إدارة الحرب النفسية في وزارة الدفاع إلى استغلال تلك الإذاعة في تسويق السياسات البريطانية في المنطقة، لكنها مُنيت بإخفاق كبير، إذ افتقدت أي مصداقية أو احتفاء من جانب الجمهور العربي الذي أدرك طبيعتها الدعائية.
وكتبت تلك الإذاعة نهاية قصتها حينما بثت رسائل تحريضية ضد الحكومة المصرية أثناء العدوان الثلاثي (1956)، وهو الأمر الذي استدعى استقالة جماعية من كل المذيعين العرب فيها، لتقوم الحكومة البريطانية بإغلاقها، وينتهي أثرها، ولا يتبقى منها سوى الدروس والعبر.
تختلف قصة «الشرق الأدنى» تماماً عمّا جرى لوسيلة إعلام أخرى هي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، التي تم إطلاق خدمتها العربية قبل أكثر من ثمانية عقود.
فعند إطلاق تلك الخدمة شعرت وزارة الخارجية البريطانية أن الخط التحريري الذي تتبعه «بي بي سي» لا يخدم سياستها في المنطقة، بل ويمكن أن يجرّ عليها المتاعب، لذلك فقد سعت إلى الضغط على الهيئة لكي تغير أداءها بما يعزز مصالح الحكومة المتغيرة.
لكن الأمور لم تجر في هذا الاتجاه بطبيعة الحال، فقد دافعت الهيئة، وبعض الأطر السياسية الأخرى، عن درجة من الاستقلالية وسياسة تحريرية تلتزم قواعد مهنية، حرصاً على حصد المصداقية والاحترام، اللذين يمنحان الاستثمار في وسيلة إعلام معنى وجدوى.
ترتكب «بي بي سي» مثلها مثل الكثير من وسائل الإعلام المرموقة في العالم أخطاء كثيرة، لكنها لم تتحول وسيلة دعاية مباشرة مثلما فعلت «إذاعة الشرق الأدنى»، ولذلك فهي ما زالت تبث وما زالت تُصدَق وتُحترم.
ثمة دول في الإقليم طوّرت نسخاً أكثر خطلاً من «إذاعة الشرق الأدنى»، وراحت تضخ فيها الموارد والأحقاد والمؤامرات، وتستثمرها في الضغط على جيرانها وخصومها، وتتدخل من خلالها في شؤونهم، وتسعى إلى تقويض سيادتهم وتخريب أوضاعهم.
واليوم تقف تلك الدول مرتبكة؛ إذ لا تملك حمل منظوماتها الإعلامية على مواصلة عملها التخريبي، ولا تجرؤ على تغيير نمط أدائها تغييراً جذرياً للتكيف مع توجهاتها الجديدة؛ ولذلك فإن تلك المنظومات تبدو في غاية البؤس والتخبط.
د . ياسر عبد العزيز
المصدر: الشرق الأوسط