بولغاكوف يكتب حياة موليير بدماغ مضطرم

(- ماذا يحدث بشأن موت موليير؟
– سيدي، أجاب دي شانفالون، الشريعة تحرّم دفنه في أرض مقدّسة.
– وكم عمق الأرض المقدسة؟ – سأل الملك.
– أربعة أقدام، فخامتكم. أجاب المطران.
– صادق، ايها المطران، على دفنه على عمق خمسة أقدام – قال لويس- لكن ادفنوه حتماً، وتجنبوا العزاء وكذلك الجلبة).
بهذه الصيغة المجحفة دُفن أديب فرنسا الكبير، موليير، أهم من كتب الكوميديات الفرنسية.
كتبها وفق منطق هوراس القائل: (ما الذي يمنعني عن قول الحق وأنا أضحك؟).
سيرة حياة موليير الحافلة بالثراء الابداعي والتحديات الكبيرة يمكننا الاطلاع عليها في هذا الكتاب السلس المكتوب بقلم أهم أدباء روسيا ميخائيل بولغاكوف، الطبيب الروسي الذي عُرف عنه رفضه للثورة البلشفية. وأول مقالة صحافية له كانت تحت عنوان «آفاق المستقبل» عام 1919. وقد كانت هذه المقالة مكتوبة انطلاقاً من موقع رفض «الثورة الاجتماعية العظيمة»، التي أوقعت الشعب في معمعة من المآسي والمصائب، وكانت تنذر بعواقب وخيمة من جرائها في المستقبل. لم يتقبل بولغاكوف الثورة، لأن سقوط القيصر بالنسبة إليه كان يعني سقوط روسيا ذاتها بدرجة كبيرة وسقوط الوطن كمصدر لكل ما هو منير وعزيز في حياته.
بولغاكوف لا يخبئ اعجابه الكبير بمسرحيات موليير، لكن ذلك لا يمنع من تلمس الموضوعية في طريقة تتبع مسار حياته، ونجاحه، وفشله.
بولغاكوف يترصد اللحظات الإولى لحياة موليير وهو يولد على يدي القابلة لويز بورجوا، وهي تقوم بإنعاش طفل مخدج ويخاطبها بقوله: «يمكنني القول بثقة إنني لو أتيح لي لكنت شرحت للقابلة المحترمة مَنْ الذي ولّدته بالتحديد حتى لا تُلحق أي أذى بالوليد، وبفرنسا معه، من جراء اضطرابها. فالسيدة بورجوا لن يحدث ويولد على يديها طفل على شاكلته طوال قرون عدة».
يصرح بولغاكوف أنه كتب سيرة موليير وهو مرتديا قفطاناً ذا جيوب هائلة الحجم، وبيديه ريشة إوز لا ريشة فولاذيّة، وأمامه شموع مشتعلة، ودماغ مضطرم. ويتابع مخاطباً القابلة: «مالذي تفهمينه أنت من معنى كلمة «نبيل» إن هذا الطفل سيصبح أشهر من ملككم لويس الثالث عشر، الملك الحاكم اليوم، بل سيغدو اكثر شهرة حتى من الملك الذي سيليه، وذاك الملك، ياسيدتي، سيدعى لويس العظيم، أو ملك الشمس».
بولغاكوف لا يبخل بالكلمات الجميلة والجمل المدائحية بحق موليير المسرحي الذي قاوم السطة الدينية من موقع لم يتوفر له إلا بمحض المصادفة القدرية، حيث انه أبدع في زمن ملك متنور محب للمسرح، ويحمل روح مرحة أهلته لتقبل النقد اللاذع الذي تضمنته مسرحيات موليير للنبلاء. موليير لن تترجم مؤلفاته فحسب بل وسيبدأون بتأليف مسرحيات عنه، مؤثرا بذلك في كتّاب كثيرين من بعده، كذلك قلدت مسرحياته، وأكثر من ذلك بولغاكوف يقر بتأثر صريح بموليير من قبل أهم أدباء روسيا، مثل بوشكين، وغوغول يلمح إلى ما يشبه سرقة أدبية من قِبَل غريبييدف.
موليير الماكر المغوي والممثل والدراماتورغ الملكي، حظي بقلم مبدع من طراز بولغاكوف ليكتب عنه هذا النص الجميل الصادر حديثا عن «دار الجمل»، وقام بترجمته هفال يوسف. يذكر أن هذا الكتاب لم يطبع إلا بعد وفاة بولغاكوف في 1940 . الكتاب لا يغفل أدنى تفصيل في حياة موليير، سواء العاطفية أو الأدبية، ويسلط الضوء على علاقته بأدباء عصره، ولا ينسى بولغاكوف أن يتدخل في الوقت المناسب ليذكرنا أنه يروي حياة كاتب موهوب، يكن له احتراماً هائلاً. وفي ختام النص يقول بولغاكوف مخاطبا موليير: «وانا، الذي لا تقدر لي رؤيته أبداً، أرسل إليه تحيتي الوداعية».
النص يمثل تحية إبداعية من كاتب كبير لكاتب آخر عاش في عصر مضى، ولعل ذلك يُذكرنا برواية كتبها الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا عن الرسام الفرنسي «غوغان» في رائعته الشهيرة «الفردوس على الناصية الأخرى».

لينا هويان الحسن/ عن السفير