تجارة الأطفال في زمن الحرب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تجارة الأطفال في زمن الحرب هي الموضوع الذي يعالجه الروائي الفلسطيني وليد عودة في روايته الجديدة «أين ولدي؟ ـ حكاية اختطاف صبي سوري» (الدار العربية للعلوم ناشرون) متّخذاً ممّا يجري في سوريا فضاءً روائيّاً تدور فيه الحوادث، فيشكّل إطاراً مناسباً لها، ذلك أن الأعمال غير المشروعة تجد في الحرب بيئة خصبة لنموّها وازدهارها.

تبدأ الرواية بخطف صبي سوري من قبل خاطف محترف، وتنتهي بعودة المخطوف إلى ذويه بمساعدة الخاطف نفسه. وبين البداية والنهاية سلسلة من الوقائع المحكومة بعلاقات السبب والنتيجة أو الخاضعة للمصادفات أو المتحوّلة بفعل عنصر مبدّل. وهي وقائع تنهض بها مجموعة من الشخصيات النامية بفعل عناصر خارجية، غالباً تترك تأثيرها في الشخصية وتحدّد خياراتها.

ثمة حكايتان اثنتان تحكيهما الرواية، تنطلقان من فضاءين مختلفين، تتزامنان، تتقاطعان، ثم تندمجان في حكاية واحدة بنهاية الرواية. الأولى حكاية أسرة سورية تقع عليها الحرب الدائرة في سوريا، وتعرف النزوح والقتل والاعتقال والاغتصاب والخطف. الثانية حكاية أسرة ألمانية تفقد وحيدها في حادث سير. تشترك الأسرتان في المعاناة وإن تعدّدت أسبابها، وتقعان ضحية عصابة دولية للإتجار بالأطفال من موقعين مختلفين، غير أن تضافر مجموعة من العوامل يؤدي في نهاية الرواية إلى خاتمة سعيدة للحوادث، ولقاء الأسرتين على وضع الأمور في نصابها الصحيح. والمفارق أن ذلك التضافر يتم بسرعة قياسية وبمصادفات متزامنة ما يجعل النهاية أقرب إلى المتخيّل منها إلى الواقع، ويجعل بعض الحوادث مصطنعة أكثر منها طبيعية.

يشكّل فقدان الأسرة الألمانية الغنية وحيدها توماس، ابن التاسعة، المغامر، الذكي، نقطة انطلاق في مجرى الحوادث، على مسار الحكاية الألمانية، فيتحوّل فلوريان المدير العام إلى أب مفجوع، وتدخل كارولين الأم إلى مصحّة نفسية. في الجنازة يضرب الأب بقبضته على المنصّة ويقول: «أعيدوا لي توماس وخذوا ما شئتم من أموالي» (ص71)، فيتلقّف سليم ألماظ، الرجل البدين المنخرط في شبكة دولية للإتجار بالأطفال، الدعوة، ويأمر بالبحث عن ولد شبيه بتوماس لعقد الصفقة مع الأب المفجوع.

يشكّل خطف غسان، الصبي الذي تتوافر فيه المواصفات المطلوبة للحلول محل توماس، من قبل القناص، تاجر الأطفال المحترف، نقطة مفصلية في مجرى الحوادث، على مسار الحكاية السورية، فتستنفر عائلته النازحة إلى طرابلس إمكاناتها للبحث عنه، وتنظّم حملة إعلانية، وتقوم ببحث ميداني، وتستخدم الإمكانات الإلكترونية المتاحة، وتلعب الأم لميس دوراً أساسيّاً في هذا المجال، يساعدها الأب أيهم، الذي يتولّى تنظيم الحملة الإعلانية والبحث الميداني، ويساعدها بعض الشهود في إعداد رسم تشبيهي للخاطف، ويساعدها الخاطف نفسه في يقظة ضمير مفاجئة.

يتمّ تحديد مكان غسان، تجري الأم اتصالاً بالأسرة الألمانية، التي كانت بصدد إعادة الصبي إلى ذويه بعد اكتشاف حقيقة خطفه، فتبادر في اليوم نفسه إلى حجز ثلاث تذاكر سفر إلى بيروت لتنفيذ المهمة. وهكذا، ينجح الصبي المخطوف في إخراج الأم الألمانية كارولين من محنتها النفسية، يصالح الأب الألماني فلوريان مع موت ابنه، يغيّر الخاطف المحترف فيقلع عن الخطف، يصالح أباه الحقيقي أيهم مع جسده ورجولته المغتصبة، ويجمع بين الأسرتين السورية والألمانية…

هذه الحكاية المزدوجة تنهض بها مجموعة من الشخصيات النامية المتحوّلة بفعل حوافز داخلية أو خارجية، والتحوّل يتم بالمعنى الإيجابي للكلمة ما يؤدي إلى النهاية السعيدة للرواية: ـ الخاطف يحسّ أن عملية الخطف هي الأخيرة، يتعاطف مع الصبي، ينجذب نحوه لا سيّما حين يناديه في لحظة هذيان، وهو العقيم، بكلمة «بابا»، فيلامس أعماقه. لذلك، يحاول إنقاذه من العصابة، ويضحّي في هذا السبيل حتى إذا ما فشل في محاولته يبحث عن أسرة الصبي، ويعترف بذنبه، ويسلّمها صورة توماس، الصبي الألماني، ما يؤدي إلى تحديد مكان وجود غسان، الصبي السوري المخطوف.

ـ الأب الحقيقي أيهم يتحرّر من عقدة اغتصابه في المعتقل، بالانخراط في البحث عن ابنه إعلانيّاً وميدانيّاً، حتى إذا عاد إليه، يتصالح مع جسده وزوجته.

ـ الأم الألمانية التي فقدت ابنها تتماثل للشفاء بمساعدة غسان الذي يمثّل دور الابن، حتى إذا ما علمت منه واقعة اختطافه، تقرّر مع زوجها إعادته إلى أسرته، في إشارة إلى استعادة عافيتها النفسية.

ـ الأب الألماني يتحوّل بدوره من رافض التصديق بواقعة موت ابنه إلى قابل بتبنّي شبيهه، إلى راضٍ بإعادة الأخير إلى ذويه.

ـ أمّا لميس، الأم الحقيقية، فتلعب دوراً محوريّاً في الوصول إلى ابنها، وتتحوّل من حالة الصدمة والضياع إلى المبادرة والعمل المباشر، وتبدو أقوى من الأم الألمانية التي أدخلها موت ابنها المصحّة النفسية.

إلى ذلك، وعلى الرغم من تماسك الحبكة في كثير من الوحدات السردية، فإن تزامن العناصر الإيجابية المفضية إلى عودة الصبي المخطوف، سواءٌ على المسار الألماني أو السوري، يبدو أقرب إلى الافتعال والتخيّل والحكاية منه إلى السيرورة الطبيعية للوقائع. ثم إن مسارعة الأسرة الألمانية إلى حجز التذاكر، والسفر إلى بيروت، في اليوم نفسه لتلقّيها الاتصال الهاتفي من أم غسان، تبدو أقرب إلى المبالغة والخيال منها إلى المسار الطبيعي للأمور، ولا تنسجم مع طبيعة الشخصية الألمانية الميّالة إلى البرودة والهدوء.

هذا التضارب بين الشخصية والسلوك نراه أيضاً حين تنسب الرواية إلى توماس، ابن التاسعة، التمرّد على البروتوكول العائلي والطبقي، والمشاركة في مباراة كرة قدم، وبناء علاقات صداقة مع أقرانه. ونراه في قيام غسان، تربه، بتعلّم اللغة الألمانية، على صعوبتها، في فترة قصيرة، وتمثيل دور الابن الميت، والتفوّه بكلام أكبر من عمره الزمني، فيصف يوم عودته «بأسعد يوم في حياته» (ص236)، وهو لم يتخطّ التاسعة، وأكبر من عمره العقلي حين يبرّر تقبيل رأس «أمّه» الألمانية بأن هذه الحركة تعلّمها في «حصة عادات الشعوب» (ص195).

في «أين ولدي؟» يسند وليد عودة عملية الروي إلى نوعين اثنين من الرواة؛ الراوي العليم، والراوي المشارك. فيتعدّد الرواة، وتتعدّد وجهات النظر وتتكامل لتقديم الحكاية بمساريها الألماني والسوري. والمفارق أن الراوي المشارك يحضر في النص من خلال روي تجربته بصيغة المتكلم من جهة، وقيام الراوي العليم بالروي عنه بصيغة الغائب من جهة ثانية. فنقع على ما يسمّى بتداخل الرواة، وهو أمر غير مستحب برأيي. وسواءٌ أكان الراوي عليماً أو مشاركاً، يمتاز السرد بالسلاسة والمرونة. تتخلّله فجوات زمنية يتمّ ردمها بعبارات معيّنة. يتمّ كسر نمطيّته بالاسترجاع والتخييل والوصف والحلم والكابوس والحوار. وهذا الأخير يتراوح بين الهدوء والتوتر تبعاً للحظة الروائية، والموقف الدرامي، والشخصية. وقد يُصاغ بالفصحى أو المحكيّة تبعاً لطرفي الحوار.

بلغة مباشرة، طليّة، تؤثر العبارات القصيرة والمتوسّطة، يصوغ وليد عودة نصّه متخفّفاً من أدوات الربط، فتتدفّق الجمل على رسلها بتلقائية وعفوية. وتتعدّد صيغ الأفعال بتعدّد أساليب الكلام، يستخدم المضارع في وصف المشاهد والخلفيات، ويستخدم الماضي في سرد الحوادث. ولهذه القاعدة استثناءات.

«أين ولدي؟» رواية مكتوبة بمهنيّة عالية، تُبرز براعة واضحة في التحكّم بخيوط السرد وإدراجها في لعبة الظهور والاختفاء، وتعكس واقعاً مؤلماً يبدو في بعض وقائعه مفتعلاً.

عن المستقبل اللبنانيَّة