خاص بالنسخة الورقيَّة / العدد الرابع /
( 1 )
مساء أيلوليّ ( ليس هناك ما يشيرُ إلى أيلول .. فقَط هوَ الإحساس, لا دليلَ مَلموس ).. رحلة مع طفل .. سيَّارة صغيرة .. هواءٌ لم أتنشَّقهُ منذُ زمنٍ .. يضربُ الهواءُ وجهي كدواءٍ لكآبَةٍ مقيتة .. يدركُ الطفلُ مسبقَاً أسماءَ الشوارعِ التي نمرُّ فيها .. حتَّى أسماء الباعة .. رغمَ ذلك أتقَمَّصُ دورَ دليلٍ سياحيّ .. أُشيرُ له : هذا المحلّ لبيع أعشاب طبيَّة, مالكهُ تزوَّجَ مرَّتين, أُنظر جيداً .. هذا الشارع قد سِرتُ فيه عشرين ألف مرَّة حين كنتُ صغيراً, لا يكترث …. الطفل مشدوهٌ وليسَ من السهلِ تكهُّن ما يمكنُ أن يقولَه … بذكاءٍ وتأتأةٍ يشيرُ بيدهِ الطَّازجَةِ لمحلٍ يبيعُ المثلَّجات ….أكادُ لا أسمعُ الذي يقولهُ ….. أبتسمُ حائراً ماذا أردّْ … ربمَّا هَمستُ بصوتٍ خفيضٍ وأنا أخاطبهُ :
لو أنَّ الآنَ هُنَا تظاهرةً للأطفال …….
كُنَّا سنهتفُ بحناجِرَ مشقوقَةٍ من التعَبِ والسَّهَر ..
بأصواتٍ خانتنا وفرَّتْ دونَ درايةٍ ..
نهتفُ معاً دونَمَا رائحِةٍ للموت ..
نهتفُ دونَمَا ذبحٍ بسكاكينَ مشحوذَةٍ بحقد ..
فقط لو أنَّ ثَمَّتَ تظاهرةً للأطفال ..
ألتفتُ للطفل وهو يتابعُ الدمعَةَ التي تسيلُ على خدِّي :
عمَّاهْ .. عينكَ اليسرى مُحْمرَّة … وثَمَّتَ قطراتُ مَطرٍ تنهمر على خَدِّك
(2)
كَطِفْلٍ فَقَدَ ألعابهُ وتركتهُ أمُّه, أبكي وحيداً مستنداً الحائطَ القديمَ في ذاكرتي, مقتعِدَاً الشوارعَ في (باب توما وجرمانا) .
كطفلٍ صغير يراقبُ أوبَةَ القِطار دونَ أن يلوِّحَ لهُ أحد, أبتسمُ لمرورِ النَّوافِذِ ثمَّ تدمع عيني اليُمنَى مُدرِكَةً أنَّ الدَّمَ جارنَا العزيز لَنْ يبخل علينا يومَاً .
كمدمنٍ أرتعِشُ وأنَا أرحِّب بضيوفكِ الغُربَاء, لا سماءَ تحملُ ألقابَهُم ولا ضَحِكٌ دافئٌ يُزيلُ البردَ الكائِنَ بين أضلاعهم الرقيقة .
كالخائِفِ من ظلِّهِ أُخطأُ دربَ العودةِ للمنزل, أدفَعُ الباب لتظهرَ طفلةٌ /نسخٌ عَن صورةِ والدتي وهي في الرابعة من عمرها تتأمَّلُني بعينٍ والأُخرَى ساهية ….
يتَدَرَّجُ الصَّوتُ صَريحَاً كرؤيا نَبيٍّ:
لَمْ أعثُرْ على سنواتي القادِمَة !! أينَ وَضَعْتَهَا أيُّهَا العاقّْ ؟؟ ……..